بعد ثمانين عاما.. جدل جديد حول أفكار طه حسين
فاضل عزاوي | العراق
في ثلاثينيات القرن العشرين كان صدور كتاب “في الشعر الجاهلي” لعميد الأدب العربي طه حسين، بمثابة زوبعة خلخلت كل الثوابت في الساحة الثقافية العربية، حيث قدم نقدا جريئا للأدب العربي القديم، قوبل بمعارضة شديدة وصلت إلى حد سحب الكتاب، وفصله من الجامعة كرئيس لكلية الآداب. هذا الجدل لم يتوقف مع أبرز أدباء العرب في القرن العشرين، بل استمر مع مواقفه الدينية، التي بلور أهمها في كتاب مجهول له لم ينشر سابقا حاول فيه تفسير القرآن.
أطلق الكاتب والمؤرخ المصري خالد عزب قناة “ثقافة وكتب” على اليوتيوب، مستهدفا من خلالها نشر المعرفة والثقافة والتراث عبر عدد من الحلقات التي تذاع تباعا، وقد بدأ بحلقة عن كتاب لم ينشر لعميد الأدب العربي طه حسين، وهو كتاب “دنيا القرآن”، الذي اكتشف أخيرا لدى أسرته، ويمثل تفسيرا موضوعيا للقرآن الكريم، بدأه طه حسين ـ وفقا لعزب ـ بمحاضرة سنة 1943 في جمعية الشبان المسلمين في الإسكندرية، ثم وعد بأن يعدّ تفسيرا للقرآن.
يقول عزب إن الكتاب تميز بأسلوبه الرصين الذي ينساب عذوبة وسهولة بألفاظه المسجوعة ذات النغم الموسيقي الأخاذ، فيأتي في سياق الأسلوب الذاتي الذي كان عليه أسلوب طه حسين، ويكشف مضمون هذا الكتاب عن الفترة الزمنية التي ألف فيها، وهي منتصف الأربعينات من القرن العشرين، وجاء بعد تأليفه لكتاب “مستقبل الثقافة في مصر”.
لا مع الأزهر ولا ضده
يشير عزب إلى قول طه حسين في مطلع كتابه إنه “إلمامة ببحوث قرآنية أحسست أن المسلمين بحاجة إلى تدبرها والإفادة منها في معمعة الانقلابات الكبرى، التي تجتاح العالم في أعظم معتركاته وأغلظ أزماته وأوغر مفاداته”.
خالد عزب: الكتاب يطرح تساؤلات عن فكر طه حسين هل كان محافظا يدين بالولاء للتراث أم أنه مثل المستشرقين
خالد عزب: الكتاب يطرح تساؤلات عن فكر طه حسين هل كان محافظا يدين بالولاء للتراث أم أنه مثل المستشرقين
ويضيف أن الكتاب يطرح عددا من التساؤلات عن فكر طه حسين: هل كان يمثل الرجل المحافظ الذي له ولاؤه للتراث العربي الإسلامي، أم أنه من رجالات الاستشراق وتلامذتهم، وكان مرتميا في أحضان حضارة الغرب متشككا في ثوابت دينه، ومصطدما برجال الدين في الأزهر الشريف؟ مقرّا بأن طه حسين في حقيقة الأمر لم يكن هذا ولا ذاك، إذ كان يعبر عن ذاته ومواقفه وعن رؤيته للإصلاح داخل المؤسسة الأزهرية وإصلاح بلده في ذات الوقت، لذا لم يكن ناقدا للأزهر فقط، ولكنه كان ناقدا للجميع، وكان نقده في عنفوان شبابه نقدا حادا، وحينما رسخ وثبت وتمكن من أدواته بدأ يقدم إنتاجا فكريا أكثر عمقا ودلالة من ذي قبل.
ويؤكد عزب “بدا حسين في هذا الكتاب متفائلا بأن يتحقق الحضور الحضاري للثقافة العربية الإسلامية، فهو يقول في الكتاب: وليعلم من أصابهم الوهن من قادة المسلمين أن الإسلام يرتقي الآن من جديد هضبة الصعود نحو القمة، كما هو حقه الذي ظهرت دلائله وسطعت براهينه وطال انتظاره، والويل لمن وقف منهم في سبيل هذا الصعود واعترض هذا المحتوى المحتوم، وحذري لم يقترف هذا الإثم العظيم من وبال يوم مقسم”.
ويوضح أن حسين في كتابه يدافع عن الأزهر فيقول “وأي الجامعات أعظم من الأزهر وأعرق تاريخا وأبعد أثرا وأقوى نفوذا، وأي العلوم أغزر من علوم الإسلام وأبلغ منها درسا، وأي الفنون أزهى من فنونه وأكثر منها جلالا”.
ويعدد عزب المواضع التي امتدح فيها طه حسين الأزهر ورجالاته ودوره الإقليمي والعالمي، وقال “إن موقفه من الأزهر الشريف أنه قلعة للعلم والعلماء والتراث العربي الإسلامي، ولكنه كان ضد المدرسة التقليدية التلقينية، وكان مع تجديد الفكر وإدخال التحديث في الأزهر، وهو ما حدث لاحقا، كان في تلك الفترة يرتبط ارتباطات وطيدة مع عدد من علماء الأزهر ومشايخه ومنهم الشيخ المراغي الذي تبادل معه الرسائل وغيره”.
ويلفت المؤرخ والكاتب إلى دفاع حسين عن ثقافته الإسلامية نافيا عن نفسه التعصب فيقول “وما أنا بالمتعصب ولا بالمتعنت، فقد ثقفت من الأديان آدابها، ووعيت فلسفاتها، واختلفت إلى معابدها، وتذوقت ثمارا طيبة على فروع أشجارها، بل اصطفيت لنفسي من أهلها من اصطفيت، ووددت من أتباعها من وددت، على راحة في دخيلة القلب وهوى في قرارة النفس”.
بلاغة التقديم
يواصل عزب على مدار 30 دقيقة، الكشف عن الرؤى والأفكار والقضايا التي طرحها حسين في الكتاب، ومنها وقوفه على الإعجاز اللغوي والجمالي للقرآن والقصص القرآني، ووضع المرأة في الحضارة الإسلامية ومقارنته مع وضع المرأة في الحضارة الرومانية في الغرب.. وغيرها.
وقدم عزب نبذة عن مقدمة الكتاب تتمثل في قول طه حسين: القرآنُ كتاب سماويّ تنزيل مِنْ عزيز حكيم، وهو نُطق إلهيّ سام صادِر إلى البَرِيّةِ جمعاءَ عَلَى لسانِ نبيّ عربيّ في بلاد كلامُها عربيّ، فلا غرابةَ أنْ يكونَ القرآنُعربيّا يوائمُ منطقَ النّاسِ الّذينَ نزلَ فيهِم، ويُشاكلُ بيئتَهُم، ويُعبِّرُ عنِ الأشياءِ بمثلِ تعبيرِهم فيستقرُّ في أفهامِهم لِئلّا يكونَ لهم فيه عذر.
غيْرَ أنّ القرآنَ ما كانَ له إلّا أنْ يسمو عَلَى كلامِ النّاسِ، فإنّ بادِعَهُ هو اللهُ الخالقُ البارئُ المصوِّرُ، والماهرُ البارعُ المقتَدِرُ، الذي لا يَصْدُرُ عن كمالِهِ إلّا كمال مثلُهُ، ناهيكَ بأنَّ اللهَ تَعالَى أرادَ أنْ يكونَ القرآنُ معجزة تفوقُ قدرةَ البَشَرِ، كما أنّه جَلَّ جَلالُه قد خصَّ السابقينَ مِنَ الرُّسلِ بمعجزات تُثبِتُ نزولَ الرِّسالةِ عليهم مِنْ لَدُنْه.
عميد الأدب العربي بدا في هذا الكتاب متفائلا بأن يتحقّق من جديد الحضور الحضاري للثقافة العربية الإسلامية
عميد الأدب العربي بدا في هذا الكتاب متفائلا بأن يتحقّق من جديد الحضور الحضاري للثقافة العربية الإسلامية
فَكَما أنَّ موسى أفْسدَ بِعصاه سِحْرَالسّاحِرينَ، وعيسى كلَّمَ النّاسَ في المهْدِ وأحيا الموتَى، فإنَّ مُحمّدا الأُمِّيَّ جاءَ إلى قوم شِيمتُهم الفصاحةُ وبضاعتُهم البراعةُ في صَوغِ الكَلامِ، نَظما ونَثرا، بكتاب مِنْ صميمِ لغتِهم حَيَّرَ مِنهم الألبابَ وأطارَالصّوابَ، في نسيج لا قُدرةَ لهم عَلَيه، ومزيج لا عهدَ لهم به، وأريج لا عِلْمَ لهم بِعِطرِه، وسُرعانَ ما تبيَّنوا أنَّ القُرآنَ هو في واقعِ الأمرِ معجزة كلامية مبنًى ومعنًى، متوهِّجة بطراز مِنَ الإنشاءِ يَسْمو إلى الكمالِ المطلقِ، تعجِزُ مقدرةُ أهلِ البيانِ عنْ مجاراتِه، وتعجِزُ المعيّةُ الفُصَحاءُ عنْ مُحاكاتِه، وبرَّحَ بهم العَجَبُ من هذا النَّسَقِ الجديدِ الجامعِ المانِعِ، الخاطِفِ اللامِعِ، الّذي يوائِمُ هَوَى النُّفوسِ بما يرعدُ منه في أعماقِ القلوبِ، ويملأُ الأسماعَ والأبصارَ، ويستقرُّ مِنَ الأذهانِ في القَرارِ.
كلامٌ هُوَ السِّحْرُ المبينُ وإنْ يَكُن لَهُ ألِف مِثلُ الكلامِ وباءُ.
فما كادَ النّاسُ يسمَعونَ القرآنَ حتّى حملقَتْ أبصارُهم في رائعِ مَبانِيه، بينما اتّجهتْ بصائرُهم إلى خارقِ معانِيه، واستلهَموا حِيالَهُ مكنونَ الرِّسالةِ، واستَوْحَوا الفصلَمِنْ آياتِهِ، واستَجْلَوا الأمرَ مِنْ بَياناتِهِ، كما يُطلَبُ إلى الغِمْدِ أنْ يُسفِرَ عَنِ النَّصْلِ، وإلى الفَصْلِ أنْ يَنِمَّ عنِ الأصلِ، أو كما يُرْجَى مِنَ الكتابِ أنْ يَنْفَضَّ عَنِ الخبرِ، ومِنَ الصّدَفِ أن يتكشَّفَ عَنِ الدُّررِ.
وسُرْعانَ ما تَبيَّنَتْ لهم المعجِزةُ الكُبْرَى، نَعَمْ إنَّهُ كانَ للرِّسالةِ خُصوم شِداد، منهم المُتعنِّتُ والمُكابِرُ والحاقِدُ والكائِدُ والمخْدوعُ، وإنّ أولَئِكَ الخُصومَ قَدِ استَنْفَدوا في مُحارَبةِ الرِّسالةِ جَميعَ ما واتاهم مِنَ الوَسيلةِ، ووَسِعَهم مِنَ الحيلةِ، قاسيها ولَيِّنِها، خافيها وبَيِّنِها، فَسَقَطَ في أَيْديهِمْ، وهاموا في واديهِم، وطاشَتْ سِهامُهُم، وحَفِيَتْ أَقدامُهُم، وتَبدَّدَتْ أَحلامُهُم، إلاّ أنّ أَوْغَلَ هؤلاءِ الخُصومِ في السُّخْفِ وأحَقَّهم بِالزِّرايةِ وأَحْراهم بِالسُّخْريةِ كانُوا أولئِكَ الّذينَ حاوَلوا المجيءَ من عِنْدِهم بِمِثْلِ القُرآنِ، فطُمِسَ ما جاؤوا به من مُفْتعَلِ الآياتِ، وبَقيَ القُرآنُ فَوْقَ قِمّةِ مَجْدِه وفي أَوْجِ إعْجازِه، وتأصَّلَتْ عَلَى مَدَى الزَّمانِ البَيِّنةُ الكُبْرَى المُثْبِتةُ لِدينِ اللهِ، وتَقاطَرَ النّاسُ عَلَى دينِ اللهِ أَفْواجا، ورَأَوْا شاطِئَ الأَمانِ مَمْدودا فتَكَأْكأُوا عليه أَمْواجا، ولَئِنْ تَكُنِ الدَّعوةُ إلى الإسلامِ قَدْ نَزَلَتْ عَلَى النَّبيِّ لِكَيْ يُنْذِرَ بِها “أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا”، إلّا أنَّ مبلغَها مِنَ القُوَّةِ واستنادَها إلى المُعجزةِ الكُبرى المتمثِّلةِ في القرآنِ قد تخطَّيا بالنّذيرِ هذا النِّطاقَ وتردَّدا في الآفاقِ، فدانَ بعدَ قريشٍ للنَّبيِّ سائرُ العَرَبِ مِنْ أَدْنَى الجزيرةِ إلى أَقْصاها، ودخلَتْ في طاعتِه الأُمّةُ جمعاءُ، وتأسَّستِ الدَّولةُ، وهُرِعَ إلى رايةِ النَّبيِّ جنود كِثارٌ، وظهَرَ تحتَ إمارتِه قادة عِظام، واحتشدتْ في نُصْرتِه قلوب شِداد، مقدوحةُ الزِّنادِ، مُستصغرةُ الرَّدَى، مُستفحلةُ المُرادِ.
ولعلَّكَ ترى أنّ النَّبيَّ كانَ في مَطلِعِ الرِّسالةِ هو القِلّةَ، وكان خصومُهُ هم الكثرةَ، وكانَ هو الضَّعْفَ وكانوا هم القُوّةَ، فكان – عَلَيْهِ السَّلامُ – فَرْدا بيَدِه كتاب وكانوا هم رهطا بأيديهم نِصال، فكانَتِ الغلبةُ للكتابِ عَلَى النِّصالِ، ثم كانتِ النِّصالُ للكتابِ.
هذا الكتابُ الّذي هو حَشد كامل من باهرِ الكَلِمِ، مُطِلّ عَلَى أجواءِ البيانِ مِنْ سماوات تَعلوها حتّى لتتحكّمَ فيها، متسام عَلَى مألوفِ الفُصَحاءِ والبُلَغاءِ حتّى ليُحيلَ فنونَ الكلامِ في أفواهِهِم عِيّا، ويُصيِّرَ صناعتَهم في القولِ فَهاهةً وعجزا. هذا الكتابُ يتشابهُ عليكَ كما يتشابهُ مكنونُ الدُّرَرِ وسواطعُ الجواهرِ، إلّا أنَّ اللهَ تَعالَى بارِئَهُ المتفنِّنَ، وبادِعَه القادرَ المتمكِّنَ، قد جعلَ في بحرِه الواسعِ فُرَضَ أمان، ووضعَ في مسالِكِه نُقَطَ تجمُّع ومراكزَ التقاء، تنويرا وتقريبا وزخرفا، تمتيعا للحواسِّ وترفيها عَنِ الغرائزِ، وتركيزا للمعاني، فهي جوامعُ الكَلِمِ في كتابِ اللهِ، ومعاقدُ الجمالِ والقُوّةِ والأصالةِ بينَ ثُريّاتِ عِقْدِه الفريدِ.
وإنَّ جوامعَ الكَلِمِ في القرآنِ تَشيعُ فيه يَمنة ويَسرة، وتتخلَّلُ تقاسيمَه قِلّة وكثرة، فهي الفيصلُ بينَ مبانيهِ والمُرتَقى إلى أوجِمعانيهِ، فيها تتركَّزُ القُوّةُ حينَ البأسِ، ويتجسَّمُ العفوُ في مجالِ العفوِ، والعدلُ في موضعِ العدلِ، ومنها يُشِعُّ الضَّوءُ حينَ يُلتَمسُ الضوءُ، ويرتمي الظّلُّ حين يُفْتَقَدُ الظلُّ، فيها القصدُ كلُّ القصدِ حينَ يُطلبُ القصدُ، والبسطُكلُّ البسطِ حينَ يُرامُ البسطُ.
مِنها ما يقعُ فيما أوردَهُ القرآنُ من قَصَص عظيم، ومِنها ما يَرِدُ فيما ضرَبَه القرآنُ من مَثَلٍ حَكيم، ومنها ما ساقَهُ اللهُ تَعالَى في ما ساقَ من وصْفِ قُدرةِ الخالقِ وطبائعِ المخلوقاتِ، وما ناطَ به نظامُ الحياةِ من روابطَوضوابطَ وشرائعَ ومناهجَ، وما أشاعَهُ فيها من نُحوسٍ وسُعودٍ ومآسٍ ومباهجَ.
طه حسين كان ضد المدرسة التقليدية التلقينية، وكان مع تجديد الفكر وإدخال التحديث في مؤسسة الأزهر
وإنَّ جوامعَ الكَلِمِ في القرآنِ لمّا يجل الحصرُ عنه ويتضَعْضَع الفِكرُ دونَ الإحاطةِ به، والاستطلاعِ في بعيدِ أغوارِه، ولَئنْ يكنْ جميعُ ما نتمثّلُ به في هذا المقامِ هو من جوامعِ الكَلِمِ إلّا أنّه قِلّة بإزاءِ كثرة أعترِفُ بقصوري عَنِ الإحاطةِ بها في مثلِ هذا الكِتابِ، وإعجازِها لما يتاحُ لي منَ الاجتهادِ في هذا الحيّزِ، وحسبي توفيقا أنْ أتمثَّلَ بيسيرِها دونَ كثيرِها فأستطيعَ التبيُّنَ ببعضِ ما وسِعَهُ مقدوري منَ المثلِ واستِجْلاءَ بعضِ ما يَقْضي حاجةَ المحتاجِ مِنَ السُّبلِ.
فقَولُه تَعالَى “لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حتى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ”، وقَولُه “وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّـهِ لَا تُحْصُوهَا”، وقَولُه جلَّ شأنُه “مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّـهِ بَاقٍ”، وقَولُه “إنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا”، وقَولُه “مَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ”، وقَولُه تعالتْ قُدرتُه “مَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ”، وقَولُه جَلَّ جَلالُه “مَّا جَعَلَ اللَّـهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ”، وقَولُه “وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ”، وقَولُه “فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ”. كُلُّ ذَلِكَ ومِئةُ ضِعفِه ممّا وردَ في القرآنِ هو من جوامعِ الكَلِمِ في ميزانِ الحِكمةِ ومجال الموعظةِ، تلاقَتْ فيه عجائبُ التراكيبِ الموجَزةِ وروائعُ المعاني المركَّزةِ، حتّى لَكأنَّ كلُّ آيةٍ مما سلَفَ قد أضاءتْ بحكمةِ الدُّنيا والآخرةِ، وأبرزَتْ حقائقَ الكونِ واضحةً سافِرةً. وقَولُه تَعالَى “وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ”، وقَولُه “رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّيوَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا”، وقَولُه “إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا”. كلُّ ذَلِكَ ومئات من أمثالِه هو من جَوامعِ الكَلِمِ في بابِالأداءِ والتعبيرِ وسَوقِ المفرداتِ والمُركّباتِ صاغرةً في خدمةِ المعاني.
فلعلَّكَ ترَى أنّ “لَمْحَ البَصَرِ” هو أدقُّ من أنّ يُقاسَ بمقياسِ الوقتِ فما هو أقربُ منه يكونُ أعجبَ، وقدرةُ اللهِ فيه لا يستطيعُها إلّا هو. كما أنّكَ لَتَرى أنّ قولَهُ تَعالَى باشْتِعالِ الشَّيْبِ في رأسِ نبيِّهِ زكريّا هو تعبير فذّ عن تطوُّر خاطف في مظهرِ ذَلِكَ النَّبيِّ، هو العلامةُ الظاهرةُ لتقدُّمِه في السنِّ مهَّدتْ لها الآيةُ العجيبةُ التَّركيزِ بذِكرِ العلامةِ الخفيّةِ عَلَى تكاثُرِ السنينَ في قولِهِ تَعالَى “وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي” إشارة إلى التفاعلِ البطيءِ الباعثِ إلى تداعي القُوَى البدنيّةِ. كلُّ ذَلِكَ في ستِّ كلماتٍ لا تزيدُ.
ويذكر أن الحلقات القادمة لعزب سوف تتناول: تكنولوجيا المعلومات والذكاء الرقمي والمدن التراثية والنقد الأدبي والمخطوطات ونوادرها وكذلك الجديد في عالم الكتب، وسيطرح البرنامج كذلك قضايا اللغة العربية والجديد في الثقافة العالمية كما سيطوف بالمشاهد في عدد من الدول لاستعراض معالمها الأثرية والعلمية.