الشِّعرُ والسؤالُ
د. عبد الله سرمد الجميل | شاعر وقاص وطبيب من العراق
الشِّعرُ يفتحُ أبوابَ الأسئلةِ على مصارعِها، والفلسفةُ تُعلِّمُنا أنَّ أهمَّ أداتَي استفهامٍ هما: لماذا؟ وكيفَ؟
عامَ 1932، ينظِمُ الجواهريُّ قصيدةً عن سامراءَ، وهيَ مثالٌ جيّدٌ من وِجدانيّاتِهِ، يمكنُ أن نردَّ بها على بعضِ منتقديهِ ممّنْ يحصُرونَهُ في خانةِ الشاعرِ السياسيِّ. ولولا ضيقُ المِساحةِ، لنقلْتُها كاملةً بأبياتِها السبعةِ والسبعينَ.
عَوداً على أسئلةِ الشعرِ، عَلِقَ بذاكرتي بيتٌ واحدٌ من تلكَ القصيدةِ:
ولقد رأيْتُ فُويقَ دجلةَ منظراً
الشِّعرُ لا يقوى على تحليلِهِ
فإذا بالاسئلةِ التاليةِ تنثالُ انثيالاً:
- هل يعجِزُ الشِّعرُ حقّاً عن التمثيلِ والتحليلِ؟
- وإذا كانت اللغةُ أصواتاً يعبِّرُ بها كلُّ قومٍ عن أغراضِهم، كما يَحدُّها ابنُ جِنِّيْ، فهل الرسمُ والرقصُ والموسيقى لغاتٌ؟
- ثُمَّ لماذا لم يتنزَّلْ كتابٌ سماويٌّ بهيئةِ رسومٍ أو نقوشٍ؟
- هل هذا يعني أنَّ الكلمةَ أقدَرُ من الرسمِ والموسيقى في التعبيرِ عن مكنوناتِ النفسِ أو العكسُ؟
الأسئلةُ مفتوحةٌ، وكذلكَ أجوبتُها، ومنها جوابُ الجواهريِّ إذ يقولُ:
ولقد رأيْتُ فُويقَ دجلةَ منظراً
الشِّعرُ لا يقوى على تمثيلِهِ
شفَقاً على الماءِ استفاضَ شُعاعُهُ
ذهباً على شطآنِهِ وحقولِهِ
حتى إذا حكمَ المغيبُ بدا لهُ
شفقٌ يُحيطُ البدرَ حينَ مثولِهِ
فتحالفَ الشفَقَانِ، هذا فائرٌ
صُعُداً وهذا ذائبٌ بنزولِهِ
ثُمَّ يقولُ في موضِعٍ آخرَ:
ساجي الرياحِ كأنّما حلَفَ الصَّبا
أنْ لا يمرَّ عليهِ غيرُ عليلِهِ
بالنهرِ فيّاضَ الجوانبِ يزدهي
بالمُطربينِ: خريرِهِ وصليلِهِ
ذي جانبينِ فجانبٌ مُتطامِنٌ
يقسو النسيمُ عليهِ في تقبيلِهِ
بإزاءِ آخرَ جائشٍ متلاطمٍ
يرغو إذا ما انصبَّ نحوَ مسيلِهِ
فصلَتْهما الجُزُرُ اللطافُ نواتئاً
كلٌّ تحفّزَ ماثلاً لعديلِهِ
وجرت على الماءِ القواربُ، عُورِضَتْ
في الجريِ فهْيَ كراسفٍ بكبولِهِ
ثُمَّ يختتمُ القصيدةَ:
ولقد غلوْتُ فكم بقلبي خاطرٌ
عجَزت معاني الشعرِ عن تمثيلِهِ
ولطيفِ معنىً فيكِ ضاقَ بليدُها
بذكيِّهِ ودقيقُها بجليلِهِ
ولعلَّ منقولَ الكلامِ مُحوَّلٌ
في عالَمٍ آتٍ إلى معقولِهِ
فهناكَ يتسعُ التخلصُ لامرئٍ
من مُجمَلِ المعنى إلى تفصيلِهِ
لقد خدعَنا الجواهريُّ إذنْ حينَ زعمَ أنَّ شعرَهُ لن يقوى على تصويرِ ذلكَ المنظرِ، فإذا بالعرامةِ اللغويةِ، والمشاعرِ الجيّاشةِ، والألفاظِ العَذْبةِ، تتحدّى ريشةَ أمهرِ الرسامينَ، ونغمةَ أرهفِ العازفينَ، لتخرجَ لنا بهذا الجمالِ.