قراءة فنية في رواية ” هي، أنا والخريف ” للأديب سلمان ناطور

ياسر جوابرة | فلسطين

صدرت الرواية في طبعتها الأولى عام 2011م، عن دار راية في حيفا، وفي طبعتها الثانية عن دار الشروق في عمان عام 2012م. تقع الرواية في فصلين: الأول يتكون من ستة عشر مقطعاً ويقع في 132صفحة، والثاني يتكون من اثني عشر مقطعاً ويقع في 115 صفحة.

 يحمل غلاف الرواية، اسم المؤلف في الأعلى، يليه عنوان الرواية، يحمل العنوان ضمير “أنا” وهو يشير إلى السارد، أما ضمير “هي” فيشير إلى “جميلة” بطلة الرواية، ويحمل الخريف في دلالته بعداً رمزياً يحمل في معناه القوة المناهضة للحياة والبقاء.

توشحت صورة الغلاف بلوحة تجريدية من السيراميك” امرأتان”، تشيران إلى كهرمان وجميلة، وهو عمل فنيّ لندى ناطور.

وضع الناشر على الغلاف الخارجي نصاً مقتبساً من الرواية ” زينات حركت أصابع قدمها قبل أن آتي إلى هنا. ستنهض من جديد مثل عنقاء الرماد، وستأتي إلى هذا الميدان كالريح وستصرخ في وجوههم: لماذا هدمتم البيت؟ أنا لم أمت، أنا كنت في غيبوبة وأفقت، وأنتم متى تفيقون من غيبوبتكم؟ أنا تحررت من خرافتي، وأنتم متى تتحررون؟...”(1)

يفتتح المؤلف الفصل الأول بحوار بين أنا السارد و “جميلة”، في الرواية، يتحدث أنا السارد عن أناس صغار يبحثون عن المواقع الكبيرة ليكبروا بها، وعن أناس كبار يبحثون عن المواقع

الصغيرة لتكبر بهم، فيما تتحدث جميلة عن المناضلين من أجل تحرير العالم، ومن بينهم السارد، الذين أرادوا تحرير العالم، فلم ينظروا إلى المواقع الصغيرة لم يروا الأطفال والنساء، ولم يتأملوا زهرة تذبل. وماذا كانت النتيجة؟ : لقد انهزموا(2).

يذكر سلمان ناطور أن الرواية” تروي حكاية امرأتين واحدة في الثمانين من عمرها”زينات/كهرمان” والثانية في الستين”جميلة الحسن” هي رواية عن بؤس امرأتين، ولكنها عن بؤس العقل العربي المصاب بالخرافة، والمحكوم بالغيب، وقد كتبت عشية الخريف العربي في بداية 2011، لكنها تبشر بربيع حقيقي سيأتي لاحقاً“(3).

 ويشير سلمان إلى إن الذهن العربي مسكون بالخرافة ، والفكر الغيبي، ويبالغ في تقديس الشخصيات، ويضعها في عالم الميتافيزيقا “ما وراء الطبيعة”، فنحن نقدس الأماكن والشخصيات، لذلك فشخصية كهرمانة في الرواية، قد تم خداعها وسلخها عن الواقع بعد أن تم التعامل معها منذ كانت طفلة على أنها ملكة من الشيشان، وبعد وصولها للرشد لم يعرفوا كيف يخرجونها من هذه الأزمة، فاستعانوا بالمشعوذين؛ أما جميلة، وهي الشاعرة المثقفة، والتي تمّ قمعها في بداية حياتها، وكتم أنفاسها في التّعبير، لجأت للاستسلام. وتدخل جميلة في حياة كهرمانة لتحررها من الخرافة، وتكتشف في النهاية أن كهرمانة تحرر جميلة(4).

   ويذهب عادل الأسطة في قراءته للرواية إلى أن سلمان سيتحول إلى كاتب تأسره الحكاية أكثر مما يأسره مضمونها. الكتابة ليست لتغيير العالم، بل هناك جانب آخر وظيفي لها هو المنفعة، وهكذا لم يعد همه ماذا أحكي، بل كيف أحكي ما أريد حكيه، وهذا مدخل مهم لفهم رواية “هي، أنا والخريف”، فموضوعها، خلافاً لأكثر كتابات سلمان، لم يعد الأنا في صراعها مع الآخر من أجل قضمه ودحضه، وإنما الأنا في علاقتها مع الأنا والزمن، ولهذا لم يحضر الآخر في الرواية كما حضر في أعمال سلمان على مدار ثلاثين عاماً(5).

يروي السارد في الجزء الاول، من الرواية حكاية “كهرمان”، فيما تروي جميلة حكايتها وحكاية كهرمان في الجزء الثاني.

تأتي الرواية على حكاية عجوز تجاوزت الثمانين من عمرها، اسمها كهرمان” ، تعيش منزوية في بيتها منذ طفولتها، تتلفظ كلمات مبهمة وتدعي أنها أميرة من بلاد الشيشان، وما كان يثير أهل القرية هو أنها كانت تتكلم بلغة لا يفهمها أحد، لا احد يعرفها اسمها الحقيقي وهو ” زينات” التي

كانت عرضة لمشاكسة أولاد الحي(6).

 تكشف تفاصيل السرد حكاية كهرمان القريبة من عالم الخيال، فقد مات أبواها في أثناء تهدم البيت عليهما بفعل الأمطار، وظلت كهرمان”زينات”، الطفلة الصغيرة على قيد الحياة، وعاشت في كنف جدها، يقوم على تربيتها، ويحكي لها الحكايات، التي حملها معه في أثناء زيارته لبلاد الشيشان(7).

كان الجد يخشى من سؤال حفيدته عن مصير والديها، فابتدع قصة خيالية تحكي أن الملك ياقوت والملكة مرجانة قد أنجبا طفلة جميلة، سميّاها كهرمان، حلم الملك ذات ليلة بأن طائراً كبيراً يهبط في المملكة ويأخذ معه الأطفال الصغار، فاستيقظ الملك مذعوراً، وطلب تفسيراً حلمه من المنجمين الذين أشاروا، جميعاً، باقتراب وقوع زلزال يهدم أرجاء المملكة(8).

فيقرر الملك بعد اقتراح المنجمين بوضع ابنته في فلسطين، البلد الأكثر أمانا للأطفال، وأن يضع “كهرمان” عند أفضل جد يفوز في مسابقة بين جميع الأجداد، ومن يومها ظل جد “زينات” يحكي لها الحكايات الخيالية لتعرف أنها هي كهرمان من بلاد الشيشان، وهكذا تكبر مع شعور بأنها أميرة يعوضها عن غياب والديها، اللذين لا تعرف حقيقة موتهما(9).

يحاول ، “رئيس مجلس القرية” وهو ابن عم زينات، التخلص من بيتها ليقيم مشروعا سياحياً مكانه، فيرسل عاملة اجتماعية، تدعى” سهام” للتحايل على زينات وإقناعها بإخلاء البيت، لكن محاولاتها تبوء بالفشل.

يعود السارد بالزمن إلى الوراء، عندما حاول الأستاذ رشيد، تخليص زينات من الخرافة

بموافقة جدها، الذي شعر بالندم تجاه حفيدته لاختلاقه خرافة كهرمان القادمة من الشيشان، وعندما صارحها الأستاذ رشيد، بحزم أنها ليست كهرمان وأن اسمها زينات، ويجب أن تتخلص من ثيابها المزركشة، هبت من مقعدها، وركضت هاربة من غرفة الصف(10).

 تبرز الرواية كهرمان على أنها ممسوسة من الجن، فيما يقترب منها أحد الشيوخ المشعوذين مدعيّاً بأنه سيحررها من الجن، وتساعده امرأة عجوز في إقامة طقوس غريبة لتخليصها من المس، وكان جدها الذي يؤمن بالعلم يدفع أولئك المشعوذين عن حفيدته، لكنه استسلم في نهاية المطاف ليؤمن بتلك الخرافات، وبعد تلك الحادثة ظلت ترتدي معطفا أسود، حتى بعد موت جدها وتعتزل الناس(11).

 تأتي الرواية على الصراع القائم بين الخرافة والاعتقاد بالغيبيات وبين العقل، أراد المؤلف من خلالها إبراز سيطرة الخرافة أحيانا على العقل العربي، وتحكمها في اعتقادات الناس.

امتازت الرواية، بلغة أدبية راقية، وتسلسل أحداث مشوق يعكس مدى براعة الكاتب في أسلوب السرد، وفي المراوحة في ضمائر السرد والزمن معاً.

وفي الفصل الثاني، يجعل المؤلف شخصية” جميلة الحسن” تقوم بدور السارد، وهي شاعرة تعرضت هي الأخرى لسطوة المجتمع الذكوري؛ فقد اتهمت بنظم قصائد غزلية للأستاذ رشيد، فطلقها زوجها على إثر هذه القصة، فانزوت وحيدة في بيتها أربعين عاما. تدخل جميلة بيت “زينات” لتخلصها من الخرافة، ولتعيد إليها لغتها العربية التي فقدتها، ولتمنع ترحيلها من بيتها، لكنها تصطدم بكثير من العوائق، وبخاصة ابن عم “زينات” الذي لم يرق له العلاقة التي تنشأ بينها وبين ابنة عمه(12).

تجد جميلة شبها بينها وبين كهرمان” أنا مثلك يا كهرمان، امرأة وحيدة ينسجون حولها الحكايات والخرافات، ولكنني لم أعزل نفسي“(13).

يكشف الحوار الداخلي الذي يتم في نفس جميلة من التعرف على حكايتها مع الشعر والأستاذ رشيد، وطلاقها من زوجها، وعزلتها في بيتها من عيون البلد وألسنتهم، ويكشف حوارها الداخلي

عن تعرض زينات لاعتداء جنسي من بواب المدرسة، الذي مات ولم يحدث أحد بحكايته(14).

تحاول جميلة جاهدة تخليص كهرمان من عزلتها النفسية، ومن سيطرة الخرافة التي استوطنتها ثمانين عاما، وتنجح في استعادة لغة كهرمان والتخلص من لغتها المبهمة ومن معطفها الأسود الذي لم تخلعه منذ وفاة جدها(15).

تقوم جميلة باصطحاب زينات إلى المدينة، وتصدم الأخيرة بتغير معالم المدينة بعد احتلالها من اليهود الذين ” غيروا كل شيء فيها. هدموا بناياتها، وغيروا أسماء شوارعها“(16).

وعندما تدخل جميلة بمرافقة زينات بناية الجمرك، التي كان يعمل فيها جد زينات، تصطدم بوجود حارسين مسلحين حاولا منعهما من المرور، فتنقض زينات على أحدهما، ليتم اعتقالها واتهامها بأنها مخربة، وتقتاد هي ورفيقتها إلى مخفر الشرطة، ويتدخل ابن عمها” رئيس المجلس” لإطلاق سراحهما، ويبدأ بتوجيه كلمات التأنيب لجميلة لاصطحابها كهرمان دون بطاقة هوية(17).

وفي غمرة هذه الأحداث يتم حرق بيت جميلة، بشكل متعمد، وتوجه جميلة أصابع الاتهام، في نفسها لنظرات الناس الغاضبة تجاه علاقتها مع زينات، لكنها لم تجرؤ على البوح لرئيس المجلس بهذه الحقيقة(18).

وفي نهاية أحداث الرواية، تسقط زينات على أرض بيتها أمام مرأى جميلة، وتدخل في غيبوبة نتيجة جلطة دماغية وتموت، ويستغل ابن عمها فرصة موتها، ويقوم بهدم بيت زينات، فتندفع جميلة أمام الجرافة لوقف عملية الهدم، لكن يتم جرها وإبعادها عن المكان، أمام عشرات الناس الذي تجمهروا ابتهاجاً بخطة رئيس المجلس. وتصرخ جميلة” زينات حركت أصابع قدمها قبل أن

آتي إلى هنا. ستنهض من جديد مثل عنقاء الرماد، وستاتي إلى هذا الميدان كالريح وستصرخ

في وجوههم : لماذا هدمتم البيت؟ أنا لم أمت. انا كنت في غيبوبة وافقت، وانتم متى تفيقون من غيبوبتكم ؟ انا تحررت من خرافتي ، وانتم متى تتحررون ؟”(19)

……….

المصادر والهوامش:

  • ناطور، سلمان :” هي، أنا والخريف”. ص 255.                
  • ينظر: السابق. ص7.
  • ناطور، سلمان: هي، أنا والخريف. ديوان العرب .31/أيار/ 2013. http://www.diwanalarab.com/spip.php?article37332. تاريخ الزيارة 21/10/2017م.
  • ينظر: اغبارية، لطيفة: حوار مع الأديب الفلسطيني : سلمان ناطور. 18 تشرين ثان 2011. http://www.diwanalarab.com/spip.php?article30574. تاريخ الزيارة 21/10/2017م.
  • ينظر: الأسطة، عادل :  سلمان ناطور: هي، أنا والخريف. جريدة الأيام الفلسطينية. مرجع سابق.
  • ينظر: ناطور، سلمان: هي، أنا والخريف. ص21.
  • ينظر: السابق. ص 44-49.
  • ينظر:السابق. ص 58-59.
  • ينظر:السابق ص 58-66.
  • ينظر: ناطور، سلمان: هي، أنا والخريف.ص 109.
  • ينظر: السابق.ص112-135.
  • ينظر : السابق. ص153.
  • السابق. ص 143.
  • ناطور، سلمان: هي، أنا والخريف. ص165.
  • ينظر:السابق.ص176.
  • السابق. ص205.
  • ينظر: السابق.ص206.
  • السابق.ص 235.
  • ناطور، سلمان: هي، أنا والخريف. ص 255.

                                                                                                                                                          

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى