ومضات الصاحب الباهرة في حضرة المتميزين والعباهرة (24)

محمد زحايكة | فلسطين

علي جدة.. مارد أسمر في حواري القدس

ما أن تعرف الصاحب على الأسير المحرر الرفيق علي جدة أبو محمد من لحم وعظم الجالية الإفريقية المرابطة على بوابات وثغور الأقصى فيما يعرف بحبس الدم او باب المجلس، حتى وجد نفسه منجذبا إليه بكليته نظرا لسحر شخصيته والهالة المنيرة التي تحيط به وتضفي عليه إشعاعا من نوع خاص.. وقد تعاظمت هذه النظرة إلى العلي الكبير ” وفقا لتوصيفات الصاحب.. عندما طلبت محطة ال CBS التي كان يعمل معها الصاحب في بداية الانتفاضة العظمى الأولى ترتيب مقابلة مع شخصية ميدانية أو كادر من كوادر الانتفاضة يتحدث اللغة الإنجليزية فوقع اختيار الصاحب على الرفيق علي جدة وجرى الحوار على أساس عشر دقائق فقط في أحد ردهات فندق  الأميركان كولوني .. ولكن المقابلة التلفزيونية، استمرت زهاء ساعة ونصف جرى فيها تغيير  شريط التسجيل أكثر من مرة عندما لمس مجري اللقاء عمق الحوار والتحليل وغزارة المعلومات حيث بدأ المحاور وطاقم التلفزيون الأمريكي مشدوهين من براعة جدة في التحليل وتشخيص عظمة الانتفاضة واندفاعتها منذ البدايات الأولى لها وتوقعه استمرارها حتى تحقيق أهدافها الكبري  اذا لم يتم  اختطافها  والسطو  على منجزاتها من القيادة ألمتنفذة حسب التعبير الجبهوي واليساري السائد آنذاك؟

وفي الكولوني حصلت مع ابو محمد إحدى ” النهفات”  يذكرها الصاحب هنا لأن لها مدلولا  جميلا  يتمثل بحرص التنظيمات والقوى الوطنية على سمعة المناضلين  وفي أن لا تشوبها شائبة صغيرة أو كبيرة وفي أن تبقى العلاقات النضالية والرفاقية في أعلى مستوياتها.. والذي حصل أن  “أبو محمد” ما إن شاهد الصاحب صدفة  في باحة الكولوني عصر ذات يوم  حتى اخذ يسمعه بعض الكلمات الجارحة بحق  أحد الشخصيات والرموز اليسارية في الثورة الفلسطينية بدون أية مقدمات .. ولم يعلق الصاحب بكلمة لأنه أدرك أن العلي كان ثملا من  “رحيق الحياة “.. فانسحب الصاحب متعكرا لأن الأمر حصل على مرأى من عدة أشخاص.. ولدى وجود الصاحب في جريدة الفجر مساء ذلك اليوم لم يستطع كتمان الحادثة، همس بما حدث للزميل محمد أبو لبدة.. ولم تمر ساعة من الزمن حتى استنفر الرفاق الجبهويين وحاصروا أية تداعيات يمكن أن تسيء ولو بشكل غير مقصود لسمعة المناضلين حتى لو كان الأمر يتعلق بحرية شخصية لأي إنسان . وتمت مراجعة الرفيق ” العلي الكبير ” حيث أبدى اعتذاره عن هذه الكلمات والتفوهات مما يدلل على طيبة معدنه وأصالته النضالية والثورية.

في حين أثبت الجبهويون كذلك أصالة وعمق انتمائهم الوطني وعدم سماحهم أو قبولهم لأي تصرف أو مسلك من هذه التصرفات والمسلكيات الضارة .

وكان الصاحب خلال سنوات عديدة يلتقي المارد الوطني الأسمر  “العلي الكبير ” في منطقة باب الخليل  حيث عمل زمنا كمرشد ودليل سياحي.. فيدردشان في شؤون الوطن المستباح عندما يسمح الوقت بذلك.. وكان الصاحب ينبهر في طريقة توصيل المعلومة والرواية الفلسطينية الحقيقية والصحيحة للسائحين من مختلف انحاء العالم كما كان جدة بارعا في شرح عدالة موقف فلسطين والقضية الفلسطينية أمام وفود سياحية يأتي بعضها خصيصا اليه مستمتعا بطريقته في الحديث والاقناع لدرجة ان كثيرين منهم قد غيروا وجهات نظرهم وباتوا من أشد المؤيدين للشعب الفلسطيني .

والمارد الفلسطيني المقدسي علي جدة رمز من رموز العزة والكرامة الوطنية والنضالية الذي يشكل وأمثاله من المناضلين شوكة في خاصرة الاحتلال الذي يضيق عليهم ويحسب لهم في ذات الوقت الف حساب.. هذا الإنسان الراقي والمناضل الصلب الحقيقي الذي عمل على نفسه في سجنه واتقن عدة لغات اجنبية من بينها  الانجليزية والفرنسية والعبرية بعد أسر واعتقال  جاوز الـ 17 عاما بتهم أمنية أبرزها المشاركة في ” ليلة القنابل” المشهودة التي اربكت المحتلين، ليخرج في صفقة المحررين عام 1985  رفض بعنفوان  جميع الإغراءات التي تمثلت بمنحه جواز سفر أجنبيا، ليعيش في دعة في  أغنى و أجمل  الدول الأجنبية الاوروبية  بشروط حياة ومعيشة مترفة وآثر البقاء في وطنه فلسطين وقبلها الصمود  في السجن، وخاصة بين أسوار  مدينة القدس وأحيانا أسوار عكا التي بات يزورها في الآونة الأخيرة ثم يعود إلى حضنه الدافئ بين أسوار القدس مشكلا حالة تشبه رحلة الشتاء والصيف.  فالقدس بالنسبة لعلي جدة كالماء بالنسبة للسمكة.. قصة حياة او موت.

وكانت للصاحب وقفة مع كتاب علي جدة “إلى ولدي” الذي ضمنه صرخات جريئة ونقد في الصميم لبعض مظاهر الحياة المقدسية من وجهة نظر وطنية تحرص على الحفاظ على متانة النسيج المجتمعي بأطيافه المتنوعة حتى يكون قادرا على مواجهة الاحتلال والتصدي له ودحره عن الأرض الفلسطينية .

علي جدة.. مارد يكاد يكون أسطوريا في كفاحه وصموده على أرض القدس.. يحمل بين ضلوعه قلب طفل مليء بالحب والحنان .. معتد برأيه وانتمائه السياسي  الأصيل للثورة الفلسطينية بصيغتها الجبهوية  ويحافظ على علاقات ودية  حتى مع الذين يختلف معهم سياسيا 180 درجة  كصداقته التي جمعته مع الراحل د. صائب عريقات.. ويحمل كل الود لرفاق الكفاح والصمود والأسر حيث التقاه الصاحب أكثر من مرة برفقة الأسير المحرر علي المسلماني “أبو عزام” في بهو باب العمود  والتقط لهما صورة توثيقية نشرت ع صفحات الفيسبوك،  لناسها  الصامدين المرابطين فيها .

علي جدة.. حالة خاصة ومعلم من معالم القدس.. كلما وجده الصاحب جالسا في حالته التأملية على درجات باب العمود.. خامره شعور قوي بأن قدس فيها مثل هؤلاء آلأفذاذ من المحبين الصامدين والمرابطين.. لن تهزم.

ارفعوا الأنخاب والقبعات احتراما للمارد الأسمر علي جدة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى