أصوات الراوي عند الروائي خليل الجيزاوي
د. محمد زيدان | ناقد وأكاديمي
الراوي في الرواية المعاصرة هو المؤسس الحقيقي للحكاية، ليست الحكاية داخل الرواية، ولكنها حكاية القص الحقيقية التي تنشئ الكتابة، وبالتالي فإننا أمام رواة متعددين في النص الحكائي المعاصر، وبالأخص الرواية، الراوي الأول والمؤسس هو المؤلف، وهو يُمثِّلُ المرجعية الحقيقية لأية تحولات داخل النص، ثم يأتي دور الراوي داخل الحكاية، وهو راوٍ من صنع المؤلف، يَمسكُ بزمام أموره، يُحرِّكُهُ كيف يشاءُ، ويُحوِّلُهُ من صورة إلى صورة، ومن مكان إلى مكان، ثم يأتي دور الراوي الثالث وهو راوٍ داخل الحكاية الثانية التي يرويها الرجل الثاني في الرواية، وبالتالي فإنها حالة من السرد الحكائي يُفْضِي بعضها إلى بعض، ويُقدمُ بعضها البعض تقديمًا جماليًا في المقام الأول، حالة متشابكة، تشابك المواقف اليومية، والنزعات الإنسانية والفكرية الكثيرة التي تنتابُ الإنسان المعاصر؛ ولذلك كلما اقتربَ المؤلفُ من الحالة السردية التي يُقدمُهَا كان أكثر صدقًا، وهو يُقدمُ الرواة داخل العمل الأدبي، ولهذا يلجأ الرواة عند الكاتب “خليل الجيزاوي” إلى مجموعة من أدوات السرد وطرائقه تجعلُ منه ممثلاً نوعيًا للفكرة من ناحية، ومُكملاً لدور المُؤوّل في النص من ناحية أخرى، ومن هذه الأساليب:
ـــــ أسلوب الراوي الفاعل للحدث.
ـــــ أسلوب الراوي المُشارك في الحدث.
ـــــ أسلوب الراوي المُشاهد للحدث.
ـــــ أسلوب الراوي العليم والمُحرِّك للحدث.
هذه الأساليب تأتي مجتمعة أحيانًا في نص واحد، وقد يلجأ المؤلف إلى تشكيل حكائي واحد يرصدُ فيه حالة واحدة من حالات السرد، ويلجأ إلى تضفير هذه الحالات بعضها البعض، حتى يُقدمَ نصًا مُمثلاً للصورة التي تبتكرها ذاكرة الراوي، ويريدُهَا المُتلقي في آنٍ واحد.
الراوي الفاعل للحدث:
في رواية “يوميات مدرّس البنات”، يلجأ الروائي خليل الجيزاوي إلى تقديم الراوي الفاعل للحدث، بمعنى أن السردَ يُمثِّلُ الراوي تمثيلا حيًا وذاتيًا في الوقت الذي تتحولُ الأحداث والأفكار داخل النص إلى أداة من أدوات هذا الراوي في تحريك الحالة السردية أو في رصد أبعاد الموقف الإنساني؛ لذلك نجده يُكثرُ من الحوارات التي تمثله أحيانًا، أو تمثل الآخر، وبالتالي يقومُ بدور مُماثل لدور الراوي، لكن من خلال الراوي نفسه، وليس من خلال العناصر السردية الأخرى.
يقول المؤلف في فصل بعنوان “يوم ماجدة“:
“أيتها الماجدة: أكتب إليكِ، قد تستطيع كلماتي أن تنقلَ إليكِ خفقات القلب الذي يفيضُ شوقًا إليك، يا كل أملي في هذه الحياة، بي الشوق يُمزقُ الأسوار، يُفتتُ الحواجز، يُلغِي القيود التي تُحاولين أنتِ صنعها، ثقي تمامًا أنكِ مهما تُحاولين لن تستطيعي إبعادي عنك، بكافة الطرق، بمختلف الوسائل، بي الشوق إليكِ أصبح أملاً أحيا به، أعيشُ عليه، هواء أتنفسه، طيفك يلازمني، يؤانسني، يحيا معي، هواء يمتزجُ بكل ذرة في كياني، يسيرُ في دمي يختلطُ به، أحبك، وحبك شهيق يعطيني زاد الحياة، يمنحني الأمل في الغد، يا بلقيس عرشي ومملكتي، كوني كما تشائين. رواية “يوميات مدرس البنات، ص 25”
هنا تتحول الأحداث الحكائية إلى منولوجات من صنع الراوي؛ لأن المؤلف جعل الحاكي هو صانع هذه الأفعال، وبالتالي لا يمكن أن تجدَ فرقًا، أو مسافة بين المؤلف والراوي، والفعل الحكائي؛ لأنها حيل سردية يلجأ إليها الكاتب لإلصاق الفكرة بالمتلقي عن طريق محو الفواصل الزمانية والمكانية من الحكاية محوًا يَصلُ بالفكرة من العقل إلى العقل، ومن القلب إلى القلب، وهذه هي طريقة الراوي الفاعل للحكاية، لا مسافات بينه وبين الأشياء، ولا مسافات بينه وبين نفسه، فهو يُمثلُ الأوجه المتعددة للحكاية، وفي الوقت نفسه، يُقدمُ الآخر من خلاله هو، فلا مسافة – أيضًا – بينه وبين الآخر.
الراوي المُشارك في الحدث:
أما في رواية “أيام بغداد”، فقد انتقل الروائي خليل الجيزاوي إلى الراوي المُشارك في الفعل الحكائي؛ لأنه يُمثلُ جُزءًا من الحكاية، ويُمثلُ الآخر بصوته جُزءًا منها، تمثيل الراوي جاء في السرد الذاتي والوصفي الذي قدمه عن حياته في مصر، وفي ذكرياته وهو طالب انتقل من الريف إلى المدينة، وفي حكاياته وهو في بغداد، أما تمثيل الآخر، فجاء بتوجيه من الموقف الحكائي نفسه، حيث مَثَّلَ الموقفُ جُزءًا مُهمًا من الحالة السردية/ الواقعية/ النفسية التي عاشها، وأعطت لنفسها – أي الحالة – قدرًا من توجيه الراوي؛ لأن الراوي في هذه الحالة لا يمسك بزمام السرد كله، وإنما يُمسكُ ببعضٍ منه، فهو يتبادلُ الأدوار مع الموقف والأحداث والأفعال التي تقابلُهُ، فهو “راوٍ مُشارك” في الفعل في تقليب حالة الفعل، وفي توزيع أدواره ودلالاته، وتأويلاته داخل النص.
يقول الراوي في رواية أيام بغداد:
“مع بداية الأسبوع الأول للاحتفال بذكرى يوم عاشوراء، كانت كل غرف الفندق مشغولة تمامًا، وبدأت كريمة موظفة الاستقبال ترد الزبائن، وعند منتصف الليل حضرت امرأة في بداية العقد الرابع من العمر، وعلى قدر كبير من الجمال، وظلت تُلِّحُ على كريمة في طلب غرفة، وكريمة تُؤكدُ لها أن غرف الفندق كلها مشغولة، والمرأة تُلِّحُ بشكل غريب، وهي تقول لها:
ـــــ يا ابنتي، وين أروح في نص الليل، وهذا خامس فندق أراجعه، وماكو غرف، ماكو غرف، والرجال يطاردونني لنهش لحمي بالشارع، أريد مكانًا يحميني حتى الصباح”. “أيام بغداد، ص41”
الموقفُ يُمثلُ جُزءًا، وقدّم الراوي جُزءًا منه، وقدّمت الحالة بقيته على النحو التالي:
ـــــ الراوي يُمثِّلُ التمهيد للموقف.
ـــــ موظفة الاستقبال تُمثِّلُ تتمة الموقف.
ـــــ المرأة تُمثِّلُ دلالة الموقف.
ـــــ الاحتفال بذكرى عاشوراء يُمثِّلُ الحلقة الاجتماعية والدينية للموقف.
والشاهد هنا أن الراوي ترك مساحة لغيره ليقدّمَ تطويرًا فنيًا للحكاية من جهة، وتصعيدًا في الدلالة من جهة ثانية، وفي الوقت نفسه هو المُشارك الحقيقي في السرد، بل إن خلفيةَ السردِ تدورُ كلها حول الراوي.
الراوي المُشاهدُ والراوي العليم:
الراوي المُشاهدُ جُزْءٌ من الحالة السردية عند الروائي خليل الجيزاوي، وهو يتناسبُ مع عدد من الآليات السردية التي يستخدمها المؤلف، ومن هذه الآليات:
ـــــ أن الراوي المُشاهد يصلحُ للحكاية عن الغائب، وهو الأسلوب الوصفي.
ـــــ يلخصُ الراوي المُشاهد/ الموقف كما هو، ولا يتدخل فيه.
ـــــ الحكاية على لسان الراوي المُشاهد دائمًا ما تتماشى مع الموقف الأيديولوجي.
ومن هنا فإن الحكاية يُمكنُ تأويل الأفعال فيها بأكثر من طريقة:
الأولى: التأويلُ المُتممُ للفكرة.
الثانية: التأويلُ المُفسِّرُ للفكرة.
يقول الراوي في رواية “الألاضيش”:
“سعيد بركات يُفكرُ في نفسه، وهو يشتركُ في جنازة زعيم الأمة، ثم أكد لنفسه:
عبد الناصر قتلوه الخونة يوم 5 يونيه 1967، ودفنوه يوم 28 سبتمبر 1970، ومسح بيده الدموع التي تطفر في صمت حزين، وعاد يُؤكدُ لنفسه ثانيًا: من قال إن عبد الناصر مات، فإن الشوق للحرية والعدل والمساواة لم يمت، إنها بذور تنبتُ في الرؤوس، وتتغذى من دماء الشرايين، إن الحاجة إلى الخبز والمسكن والحرية والعلم والتقدم والديمقراطية لم تزلْ تلهب المشاعر، والشوق للعدل والحرية قديم .. قديم”. “الألاضيش، ص125”
هنا تتجلى فكرة الراوي المُشارك باعتباره مصطلحًا حكائيًا من المصطلحات التقليدية التي قامت عليها الكثير من الدراسات النقدية، بل يُعد مُؤسِّسًا للحكاية في الرواية العربية؛ لأنه يرتبطُ بطريقتين من طرائق السرد الحكائي:
الأولى: الحكاية عن الغائب.
الثانية: الوصف الذي يُمكنُ تأويله.
وهما أسلوبان من أساليب الرواية، ويسيطران على مساحة كبيرة من مساحات الحكاية في الرواية المعاصرة، وفي أحايين كثيرة تتحوّلُ هذه المُشاهدة التي تُمثِّلُ “الحياد السردي” إلى مُشاركة في الفعل الحكائي، أو فاعلة للحدث السردي، هذا الراوي المُشاهدُ يتحولُ أيضًا إلى ما يُسمى بالراوي “العليم” وهو مصطلحُ يقتربُ من فكرة الراوي المُشاهد، وكلمة عليم تدلُ على أنه يعرفُ كل شيء في الحكاية، يُشاهدُ ويُشاركُ، ويُفعّلُ المواقف بأكثر من طريقة، وأحيانًا يُقدِّمُ هذه الأدوات في حالة سردية واحدة، ومن هنا فإن الراوي العليم يُمثِّلُ جُزءًا مُهمًا من الحالة السردية السائدة في الرواية العربية، فعلى سبيل التمثيل، فإن روايات نجيب محفوظ هي النموذج المثالي لفكرة الراوي العليم، وجاء عند الأجيال التالية ليقدمَ الرواية بأكثر من طريقة كما نجد عند الروائي خليل الجيزاوي في رواية “سيرة بني صالح”، وهذه هي بداية الرواية “المدخل المؤسس للنص”.
يقول المؤلف: “تنكسرُ وقدة الشمس، تهبُّ نسمة العصاري، تتمايلُ معها شواشي الشجر، حين يصيرُ الظلُّ طول الرجل تمامًا، ساعتها يبدأ الشيخ حمزة في صعود درجات سلم الجامع الخشبية المتآكلة، تراه الآن يشرئبُ برقبته الطويلة، يضعُ طرف سبابته اليُمنى في أذنه، وكفه اليُسْرى على جانب فمه وأسفل أذنه يُنادي على صلاة العصر، ويترددُ الصوت الناعم الممطوط في الفضاء الواسع يُنادي على الصلاة.
تتقلبُ الرجالُ ــــ النائمة تحت ذكر التوت ـــــ المُتعبة بحصاد القمح من بعد أذان الفجر.. “سيرة بني صالح، ص7”
هنا الراوي ينفصلُ تمامًا عمَّا يرويه، فهو يُقدِّمُ الحكاية بأسلوب العالم بكل دقائق الحالة الحكائية، وفي هذه الحالة يُمكنُ وصف هذا النوع من الرواة بأنه:
ـــــ ناقل للأفكار والأحداث.
ـــــ مُحايد في وصف الحالة السردية.
ـــــ مُفسّر وناقد للحكاية.
وبالتالي تتحركُ الأحداث وفق آليات القدر، وآليات الصدفة، أو آليات الموقف؛ لأن الراوي لا يشارك في شيء منها، وإنما يقدّمها كما هي، ومن هنا فإن تعدد الأصوات السردية داخل النص، أو بمعنى آخر تعدد الرواة في الرواية المعاصرة بصفة عامة، وعند الروائي خليل الجيزاوي بصفة خاصة يُعطي عدة انطباعات:
أولا: سمة بنائية للنص.
ثانيًا: يؤدي تعدد الرواة إلى تعدد المنظومات السردية وبالتالي تحديد للشكل الروائي.
ثالثًا: يُعبِّرُ الروائي خليل الجيزاوي عن لغة العصر السردية من جهة، ومن تراسل الفنون المُعاصرة من جهة أخرى، وبالتالي تُعطي الأصوات السردية للحكاية شكلها البنائي الذي يُسْهمُ في تقوية الروابط السردية في النص.
د. محمد زيدان