ومضات الصاحب الباهرة في حضرة المتميزين والعباهرة (31)
محمد زحايكة | القدس الشرقية – فلسطين
أحمد عبد الرحيم منى .. معلم الأجيال.. ومثال في التربية الودودة والحكيمة
من يقترب من معلم الأجيال أحمد عبد الرحيم منى ” أبو عماد ” على مدى 50 عاما من العطاء في صوامع العلم والتعليم، خصوصا في مدارس وكالة الغوث وهو يخطو اليوم إلى عامه السادس والثمانين بكل رشاقة وعنفوان، يكاد لا يصدق ان هذا الإنسان الدمث وصاحب الخلق الحميد والدعابة الجميلة التي لا تفارقه، صمد هذا العمر الطويل أمام جحافل الطلبة الأشقياء وبقي على مرحه وصحته وعافيته التي نتمنى أن لا تفارقه حتى آخر العمر المديد السعيد.. فمن المعروف أن المعلمين هم من أكثر الناس المعرضين للشقاء والتعاسة والأمراض بسبب طبيعة تدريس التلاميذ الصغار بشكل خاص وما يسببونه من ” فريان” المعدة كما نعبر عادة باللغة أو اللهجة الدارجة .
وإلى اليوم يلمس الصاحب مدى الاحترام الذي يكنه طلابه عندما يأتون إليه لابتياع ما يلزمهم من المكتبة العلمية في شارع صلاح الدين بالقدس الشريف، ويتجاذبون أطراف الحديث السريع معه.. هذا الحديث المفعم بالذكريات الجميلة والحنين إلى أيام لا تعود.
وعندما “يطلطل” الصاحب في الصباحات الباكرة على العم والمعلم الكبير، فيراه ممتطيا دراجته أو عربته الكهربائية لزوم المحافظة على البيئة نظيفة مجاكرة بالمخلوع ترامب!، قادما من حي رأس العمود – سلوان حيث يسكن، ويشاهده وهو يشرع أبواب المكتبة بكل نشاط وهمة لتأمين الصحف اليومية مبكرا لعشاق المطالعة وتصفح الصحف، فيغبطه الصاحب على هذا النشاط، ويتمنى له كل الصحة والسعادة والعافية وهو يناوله شيئا من “الحامض حلو”، نوع من الملبس اللذيذ، التي يضعها أبو عماد في جيبه و”يخرخش” بها قليلا قبل أن يمنحها لصاحب النصيب مع ابتسامة أو دعابة طازجة خارجة من الفرن على التو واللحظة؟
يمكن القول إن معلم الأجيال الكبير أبو عماد قد استثمر في أولاده وعائلته الصغيرة حيث يدرك الناظر إلى هذه العائلة من النظرة الأولى أنه أمام ملامح لعائلة مقدسية نموذجية، رباها على الأخلاق الحميدة وغرس فيها حب الاستقلالية والاستغناء عن الحاجة المذلة، وإنما الاعتماد على الذات، لأن الحاجة إلى الآخرين قد تكون صعبة ومذلة.. حيث بنوا بيت العز والكرم متحابين مترابطين متكاتفين لم تفرقهم بنات حوى، على ظاهر رأس العمود.. وراحوا يسبحون بشقاوة في بحيرة الحياة الراقية بعد أن زرع فيهم حب الكتاب والمطالعة والثقافة من خلال ما اختاروه لاحقا من ارتياد عالم التجارة المرتبطة بالكتاب وأدوات التعليم والثقافة الأساسية وترويج أسلوب المقاهي الثقافية في البلد.. وكأني به وهو يختار أسماء أولاده الستة منتهين بحرف الدال.. عماد وزياد وإياد ونهاد ومراد ومحمود، يريد أن يوصل رسالة وهي أن الدال على الخير كفاعله؟ رغم علم الصاحب أن أولاده طالما، أو ربما، ناقشوه في جدوى تدريسه هذه الآلاف المؤلفة التي انتهى غالبيتها إلى عالم الورش والأعمال في السوق السوداء.. وكأنهم يريدون أن يخبروه أن التركيز في التعليم ينبغي أن يكون على الكيف وليس على الكم.. على كل حال تبقى هذه وجهة نظر؟
والمدهش في تجربة هذا المعلم الكبير الشامل، أنه درَّسَ مواد أخرى إلى جانب الرياضيات، فتمكن من كسب قلوب تلاميذه رغم تدريسه لمادة الرياضيات الجافة وغير المرغوبة من جمهرة التلاميذ، وذلك بسبب عدم استعماله أسلوب، العصا لمن عصا، وإنما كان يستخدم أسلوب ” الطرق على الراس” مرارا وتكرارا بأصابعه، مذكرا بصاحب الطرق على جدران الخزان الشهيد الفذ غسان كنفاني.. حاثا طلابه وتلاميذه على” تفتيح ” أمخاخهم وتشغيل “بطيخاتهم “، حتى لا تصدأ ويأكلها العث، كما كان يحذرهم وهو يتحدث لهم عن العمليات الحسابية التي تكثر الإشارة فيها إلى أنواع المأكولات من البطيخ والشمام والخيار والموز، بل وحتى الساندوشات الوهمية التي يمكن أن يفوزوا بها إذا تيقظوا وتنبهوا للدرس.. وكأنه يهتف بكل واحد منهم.. “فتح عينك وفتح مخك، تاكل ملبن ..
الأستاذ والمعلم والمربي الفاضل ” أبو عماد منى”.. مثال الإنسان الحليم الصبور التربوي الذي ساهم في تعليم وإرشاد الآلاف من تلاميذ فلسطين في أصعب مراحل القضية الفلسطينية.. ويكفيه فخرا أنه أنشأ أسرة مقدسية حارسة للثقافة والعلوم وتعمل على ترويج الرواية الفلسطينية الصحيحة إلى العالم كافة من خلال كم الكتب العربية والأجنبية على رفوف مكتباتها والتي توصل حقيقة فلسطين إلى كل أرجاء الدنيا بصمت وصبر ونفس طويل، مستخدمة القوة الناعمة في إدارة الصراع الذي لا ينتهي .
تحية كبيرة للمعلم الكبير الأبهر أبو عماد.. فهو شخصية باهرة ومن العباهرة الذين هم الرجال الكبار والضخام في الإنجاز والأفذاذ. وعمر مديد وعام سعيد وصحة حديد ودعم رشيد.. بابا أحمد