إلى أين؟
منى مصطفى | روائية وتربوية مصرية
يعيش الإنسان مراحل عمره يقطع الآمال يذرعها، يحقق نجاحًا ثم إخفاقًا، يصل لهدف ثم يستصغره، ويرنو للأكبر منه أو الأقوَم والأنفع …، تتنازعه رغائب شتى في كل مرحلة من عمره، يكون صغيرًا يترقب الشباب، شاًبا يشتهي الزواج، أبًا يخطط للاكتفاء، مكتفيًا يطمح للثروة، ثريًا يبحث عن المتعة …، وهنا تبدأ مراجعة النفس والالتفات للذي كان!
فقد سدّ حاجات نفسه بحسب أولويات كل فرد (مال أو علم أو منصب) وسار في ركاب المجتمع، وتبلورت لديه فكرة الاكتفاء، فيتذكر نفسه التي نسيها في خضم هذا البحر الهائج من الرغبات والطموحات، أو حتى من الإخفاقات والخيبات، فيجد صدى في نفسه يقول: أين عمري؟ لقد تخطيت الأربعين ولم أعش رغبة واحدة خارج سرب الواجب أو الفرض!
فنجد سيلًا من الرغبات ـ الرعناء غالبًا ـ يهاجمه، وربما يفسد عليه حياته، فهذه تريد الطلاق، اكتشفت بعد عِشرة عشرين سنة أنها لا تحبه، وذلك يريد التعدد؛ لأنه بعد زوج وولد وحياة كاملة هادئة مُتزِنة اكتشف أنه لم يعش كما كان يأمل، وثالثة متمردة على طبيعة حياته، فقد كانت تسانده واجبًا، وحان الآن أن يُفني ثروته عليها سفرًا وكماليات، ورابع يقيم علاقة وهمية عبر المواقع ليجدد مشاعره التي ذبلت …!، ما هذا الطوفان العكر الذي يتغّشى بيوتنا!
لو علمنا الغاية من وجودنا لاسترحنا وأرحنا، نحن هنا لغاية محددة هي عبادة الله عزّ وجل بمفهومها الواسع الذي يبدأ بكلمة التوحيد، وينتهي بغرس الفسيلة ولو كانت زلزلة الساعة!
يا من قررت أن تتوقف وتلتفت خلفك، تراجع رحلتك التي أوشكت على الانتهاء، أو صحتك التي بدأت في الانزواء، قال ربك الذي صنعك (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) وكلمة الرزق هنا مفهومها واسع، تشمل كل نعم الرحمن الرحيم على عباده …، فيا سيدي لا تبحث عن سعادة مطلقة في هذه الفانية؛ لأن هذا يخالف طبيعة خلق الدنيا!
واعلم ـ لا عدمت الخير ـ أنني لست ضد أن يطوّر الإنسان حياته للأفضل، ولستُ ضد أن يستكثر الإنسان من الخيرات، ولكني ضد أن يهدم الإنسان أمنه وأمانه إشباعا لشهوة عابرة أو مراجعة للنفس وقتية، أمّا إن كانت المراجعة بقصد تزكية للنفس، ومقربة لله، وتعميرًا في الأرض، فهذا مما نشجع عليه بل نطالب به أيا كانت صورته من تعدد أو إنفاق أو حتى طلاق؛ فإن اجتهد زوج وصبر سنوات لإصلاح زوجه ولم ينصلح فلا لوم ولا تثريب (أرجو عدم الخلط!)
وانتبه ـ فتح الله على قلبك ـ أن المسلم قمة الهرم عنده ليست المتع المادية كما هو في واقع غير المسلمين، فقمة الهرم لدى غالبهم هي التمتع بكل لذات الدنيا بلا وازع من دين أو عقيدة، بل نفسه وحدها هي إلهه، أما قمة الهرم لدى المؤمن فهي حسن الخاتمة، وغاية ما نطمح إليه بعد مراجعة العمر الغابر أن نتمثل هذه الآية الكريمة: (حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) وهنا أنا لا أدعو للرهبانية بل للعقلانية، ولا أنكر رغبة النفس في السعادة والأنس، بل أنكر أن نتصرف بلا هدى من نور قلبنا، أو نكسر قلوبًا بلا جريرة، عشنا معها عمرنا وما قدمت لنا إلا الخير!
يقول المستشرق الياباني ( نوبوأكي نوتوهارا ) في كتابه العرب من وجهة نظر يابانية:
” عرفت الدكتور علي حسن السمني معلما للعربية في جامعة طوكيو للدراسات الأجنبية، ثم زميلا وصديقا، كان مسلما متدينا، مستقيما، ينفّذ ما جاء في القرآن الكريم في طعامه وعلاقاته، وحياته الخاصة والعامة، كان يستيقظ في البرد في الشتاء لصلاة الفجر، وكان يصلي في أي مكان تدركه فيه الصلاة، في الحديقة، في القطار …، كان يصلي ويصوم ويمتنع عما يحرمه دينه من طعام وشراب وغير ذلك، كما أنه حج بيت الله الحرام، لقد أعطانا ـ نحن اليابانيين ـ صورة ملموسة عن الإسلام … يختم كلامه بقوله متعجبا: إلى أين يؤدي التدين بالمسلم!؟، إلى أين يصل؟، لقد تابعت حياة دكتور السمني عشرين سنة وكان في مكانه لا يتطور!، هل هذه صورة مسلم فرد أم أنها صورة كل المسلمين؟” انتهى كلام العالم الياباني!
وهذا هو الفرق في النظرة بيننا وبينهم، هم لا يعترفون إلا بالأهداف المادية الناجحة بحساب الدنيا وحدها، أما دكتور السمني في نظرنا فهو رجل في قمة السلم الإنساني، أستاذ جامعي مبتعث لأرقى الجامعات، يدعو لدين ربه، ويعلّم لغة القرآن ويلتزم بما أمره الله به، د/ السمني يشعر بسعادة وترقّي مع الله عزّ وجل، وروح تُحلق في السماء مع كل صلاة، ومع كل وضوء على كره، ومع كل آية من آيّ القرآن ، تحفّه سعادة وسعة نفس لم يحرزها هذا الياباني الذي طاف الريف المصري، وبادية الشام، وصحراء ليبيا بين الطوارق، ثم جبال اليمن وصحرائها ووديانها؛ بحثا عن شعور جديد يثير في نفسه الحياة، ولا أظنه وجده بعيدًا عن الله، وربما لو أخذ بنصيحة دكتور علي حسن السمني له وقرأ القرآن لوجد ضالته التي طاف لأجلها الدنيا حواضرها وبواديها، فلا تفقد بوصلتك أخي المسلم ـ لا أضلك الله وهدى قلبك ـ رضا الله هو طريقنا، والترقيّ في طاعته هو هرمنا الذي لا نرضى بغير قمته، والأمر يسير ـ بإذن الله ـ على من صدق، فإن جئت باريك مشيًا آتاك هرولة!
أما المصطلحات الدخيلة علينا مثل (أزمة منتصف العمر) أو ( المراهقة المتأخرة) أو ( الإنسانية ) بديلة الدين …
كل هذا من أعمال سحر الماديين، فلا تلعقك حبائلها، عش ما تبقى من عمرك سعيدًا مستمتعا ولكن دون هدم!!