عالم المسماريات والآثار د.نائل حنّون والشاعر عبد الرزاق الربيعي (وجها لوجه) [1]

خاص | جريدة عالم الثقافة

– أتمنى أن يكف البعض عن إصدار أحكام من غير أسس علمية

كتابة أسطورة “الخليقة البابلية” على ألواح الطين بشكل القصيدة العمودية إضافة معرفية، وكشف عن إبداع مبكر من إبداعات حضارة وادي الرافدين
 
لقد أساء من ترجم نصوصاً قديمة من الإنجليزية، ومنها” جلجامش”، وتصرف في النص على مزاجه بحيث بدا وكأنه نص حديث.

    الحوار مع عالم المسماريات والآثار د.نائل حنّون يعني محاورة التاريخ والادب الرافديني القديم والكتابات المنقوشة بالخط المسماري على الواح الطين ورحلة مع جلجامش، حمورابي، وآشور بانيبال. أكثر من 50 سنة أمضاها في الدراسة والتدريس والتنقيب الأثري والبحث، نشر خلالها اكثر من سبعين بحثا ودراسة  وما يزيد على عشرين كتابا. 

    ألقى عددا كبيراً من المحاضرات العامة  شارك في ملتقيات علمية ومؤتمرات كثيرة وأشرف على عدد من رسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراه.

   ترجم الكثير من  النصوص القديمة عن اللغتين الأكدية والسومرية مباشرة، ومن أبرزها وأشهرها بين الباحثين: “شريعة حمورابي”، و”ملحمة جلجامش”، و”قصة الخليقة البابلية”.

    من الصعب اختصار هذه الإنجازات في حوار، لكن من الممكن ان نضع من خلاله علامة على طريق طويل، ينتهي بإعداد كتاب. وقد وجدت مناسبة صدور كتابه الأخير “أسطورة الخليقة البابلية، النص المسماري الشعري”، فرصة للحديث عنه:

كيف تعرّف القرّاء بهذه الأسطورة وبالكتاب؟
    لقد صدر هذا الكتاب مؤخراً عن المركز الأكاديمي للأبحاث (العراق، تورونتو، بيروت، 2021م). وبداية أود أن أنوه إلى أن تسمية “الخليقة البابلية”(Babylonian Genesis) هي التي أطلقها العلماء الغربيون على هذا النص الأسطوري الشعري توافقاً مع موضوع “قصة الخليقة” في سفر الخروج، أول أسفار العهد القديم.

    والنص عبارة عن قصيدة شعرية مؤلفة من أبيات شعرية كل منها بشطرين على غرار الشعر العمودي العربي، قبل ظهور هذا الشعر وتدوينه بمئات السنين. وقد نقشت هذه القصيدة على سبعة ألواح طينية، بعدد يراوح ما بين 138 و 166 بيتاً على اللوح الواحد.

   إن إطلاق صفة البابلية على هذا النص المسماري مسألة مجازية، إذ أنه نص مدون باللغة الأكدية ووجدت نسخ منه بكلتا اللهجتين الرئيستين لهذه اللغة، وهما البابلية والآشورية، وفضلاً عن هذا وجدت نسخة منه بإحدى اللهجات المحيطية (Peripheral Akkadian)، وهي اللهجات الأكدية التي كانت تستعمل في المناطق المحيطة ببلاد الرافدين، وقد عثر على هذه النسخة في موقع سلطان تبه (مدينة خوزيرينا القديمة) في جنوبي تركيا.

   قد لا يعرف الكثيرون أنه لم يظهر في النصوص المسمارية اسم “بلاد بابل” ولم ينعت بالنسبة لبابل، لأن بابل اسم مدينة فقط، وهذه المصطلحات وضعت من قبل العلماء المحدثين، وكان يقال في النصوص القديمة “ملك مدينة بابل” و “إله مدينة بابل”  ولم يرد “ملك بابلي” أو “لغة بابلية” وما شابه ذلك. وهذا ما يختلف عن “بلاد آشور” و “الآشوريين”.

    ذلك أنه قامت في جنوبي وادي الرافدين عدة دويلات في عصور الحضارة القديمة، وكل دولة تحمل اسم عاصمتها من المدن القديمة مثل بابل، كيش، أكد، أوروك، إيسن، لارسا، أور، لجش وغيرها. أما في الشمال فهناك دولة واحدة باقية نفسها وإن تغيرت العاصمة.

   ولو توخينا الدقة في تسمية هذه الأسطورة لأطلقنا عليها اسم “قصة الخليقة الأكدية” نسبة إلى لغتها، ولكننا تجنبنا هذا لكونه تسمية غير مألوفة بالنسبة للقراء.

و ما هي الإضافة المعرفية التي يقدّمها الكتاب؟ أعني ما الجديد في مضمونه؟
     مع حرصي الشديد على أن أقدم نص هذه الأسطورة بشكل واضح وميسر لأوسع شريحة من قراء العربية التزمت أيضاً بالمنهج العلمي الصحيح في التعامل مع النصوص المسمارية. وقوام هذا المنهج أن يقدم للنص القديم بعرض تاريخ تدوينه وعدد نسخه وأماكن العثور عليها وتحديد أماكن حفظ هذه النسخ، أو كسرها، في متاحف العالم.

    ثم لا بد من عرض الأعمال السابقة التي تتناول استنساخ النص وقراءته وترجمته إلى أية لغة حية والمراجع التي نشر فيها. وبالطبع لا يشمل هذا ما يترجم من اللغات الأوروبية إلى العربية من قبل مختصين وغير مختصين، والذين هم على غير إطلاع أساساً على النص المسماري وغير ملمين باللغات القديمة أو على جهل كامل بها على الرغم من كل ما يتظاهرون به.

    وقد استهل الكتاب بتقديم هذه المعلومات الأساسية قبل أن يقدم عرضاً ملخصاً لمضمون الألواح السبعة للنص. وجاء هذا العرض بأسلوب سردي بسيط وواضح ليمهد للقارئ سبيل التعامل مع الترجمة المباشرة للنص. وهذه الترجمة لا يجوز التصرف بها ويجب أن تكون محكومة بمضمون النص وحرفيته وليس كما هو الحال فيما يخص العرض السردي.

    ولقد أساء من ترجموا نصوصاً قديمة من اللغة الإنجليزية، ومنها ملحمة جلجامش، وتصرفوا بالنص مثلما يتصرف مترجم أي كتاب إلى العربية، متظاهرين بأنهم يقدمون ترجمة مباشرة للنص القديم، فضللوا أناساً كثيرين لم يعرفوا بأن هؤلاء لم يقدموا لهم النص الحقيقي.

تضمن  التمهيد التذييلات (Colophones) التي دونت على بعض ألواح النص، ما أهميتها؟

هذه التذييلات من الممارسات الكتابية المهمة في حضارة وادي الرافدين القديمة، وكانت تكتب في حاشيات الألواح المسمارية، وتتضمن معلومات مهمة مثل عنوان النص، بحسب ما وضعه المؤلف أو الناسخ القديم، وتاريخ تدوينه واسم مالك اللوح وناسخه ونسب، أو مهنة، كل منهما وكذلك الأصل الذي نقل عنه النص إذا كان مستنسخاً.

   وقد بلغ عدد التذييلات التي قدمت ترجماتها في التمهيد ثمانية. ويذكر أحد التذييلات أن اللوح الذي يحمله هو من ممتلكات قصر آشور- بانيبال، ملك بلاد آشور. وهناك تذييل على إحدى نسخ اللوح الأول يتضمن تاريخ استنساخه، وهو اليوم التاسع من شهر أيار (مايو) في السنة السابعة والعشرين من حكم الملك الأخميني دارا (داريوس الأول، 521-487 ق.م) وهي المطابقة للسنة 495 قبل الميلاد.

كيف تتم قراءة النصوص المسمارية؟

    هناك خطوتان في قراءة النصوص المسمارية تسبقان ترجمة كل نص منها. الخطوة الأولى قراءة ألفاظ المقاطع، والخطوة الثانية قراءة الفاظ الكلمات التي تكونها تلك المقاطع.

    والمعتاد في هاتين الخطوتين أنهما تتمان باستعمال الحروف اللاتينية، غير أنني استعملت في هذا الكتاب الحروف العربية في كلا الخطوتين، ليس فقط لأنني أكتب للقارئ العربي ولكن أيضاً لأن الحروف العربية هي الأنسب لكتابة ألفاظ المقاطع والكلمات الأكدية لكون الأكدية لغة شقيقة للعربية التي لا تحتاج إلى تكييف لحروفها لنقل الألفاظ الأكدية كما حصل بالنسبة للحروف اللاتينية.

    على أنني لم أقدم على هذا إلا بعد أن وضعت نظاماً كاملاً للنقل العربي في قراءة النصوص المسمارية بلغتيها السومرية والأكدية.

واضح أن علماء المسماريات استغنوا عن الخطوة الثانية منذ عدة عقود، لماذا؟
   بسبب إمكانية ترجمة النصوص الأكدية من قراءة الفاظ المقاطع مباشرة واختصاراً للوقت الذي تتطلبه ترجمة أي من هذه النصوص ولذلك استغنى علماء المسماريات منذ عدة عقود عن الخطوة الثانية.

   ومن هنا اكتفيت بالخطوة الأولى في هذا الكتاب، وهي قراءة ألفاظ المقاطع، ولكنني قمت بالخطوة الثانية في اللوح الأول فقط لتمكين القارئ العربي من بناء تصور كامل عن ترجمة النصوص الأكدية.

ماذا عن  الترجمة العربية للنص في هذا الكتاب؟
     تقدم الترجمة  بشكل جديد، هو الأول من نوعه، إذ حافظت فيها على التشطير الأصلي للأبيات الشعرية نفسه في الأسطورة.

   فالكاتب القديم دون نص القصيدة على ألواح الطين بشكل الأبيات المشطرة على غرار الشعر العمودي العربي. وكانت عملية ترجمة هذه الأبيات إلى اللغة العربية مع المحافظة على التشطير نفسه، ببحوره القصيرة، وانتقاء المفردات العربية المضاهية للمفردات الأكدية لفظاً ومعنى مع المحافظة على السلامة اللغوية للترجمة العربية، من التحديات الكبيرة في ترجمة نص من لغة ماتت قبل نحو ألفي عام.

بعد الترجمة العربية لكل لوح أوردت هوامش وتعقيبات لغوية، لماذا؟
    لتوضيح المكونات النحوية والتصاريف التي يكتنفها الغموض في اللوح نفسه. وحين الانتهاء من الألواح السبعة يجد القارئ فهرساً للأسماء الواردة في نص الأسطورة مع تعريف بكل منها ومواردها في النص بحسب الألواح والأسطر.

    وزيادة في الفائدة أعقبنا ذلك بقائمة العلامات المسمارية المستعملة في النص وألفاظها مع التقديم لها بشرح طريقة استعمال قواميس هذه العلامات ومعرفة تسلسلها. وقد بلغ عدد هذه العلامات 261 مع ذكر أرقامها المتفق عليها في المعاجم العالمية وأصواتها بالحرف العربي.

    وأخيراً يتضمن الكتاب فهرساً بجميع الأفعال الواردة في النص مع شرح صيغ تصريفها ومعانيها ومواردها. وهذا الفهرس يمكن القارئ العربي من اكتشاف الأفعال المشتركة لفظاً ومعنى ما بين اللغتين العربية والأكدية.

    من الواضح أن هذه الأسطورة هي نص شعري مسماري يأخذ شكل الشعر العمودي العربي قبل ظهور هذا الشعر بقرون عدة، كيف يكون هذا وقد نشر البعض كتابات تنفي وجود نصوص مسمارية شعرية بهذا الشكل؟
    أطلعني بعض الأخوة على ما نشره شخص في مواقع التواصل الاجتماعي من ادعاءات وتأويلات عما عنونه “تموز في الرواية الآشورية”، وقرأت بأسف شديد اقتباس هذا الشخص لأسطر من أحد كتبي ليدعي بالافتراء خطأ ما ورد فيها.

    أنا لا يهمني ما يكتبه هذا الشخص، غير المختص والجاهل باللغات القديمة، وغيره من المتنمرين وإنما اهتم بمتابعات المثقفين والباحثين وطلاب العلم. ولكن بما أن هذا الشخص أورد اسمي واقتبس من أحد كتبي ليقدم فرية مضللة لظنه بأن لا أحد سيدقق ويراجع هذا الكتاب، الذي لم يذكر عنوانه أصلاً، فقد صار لزاماً علي أن أكشف سوء ما فعل.
    كتب هذا الشخص ما نصه: “ولما كان نساخ القصيدة أو الأسطورة قد كتبوا نصها في عمودين متقابلين، فقد دفع ذلك بعض الباحثين إلى أن يتصوروا أن هذه الطريقة في الكتابة تدل على أن البابليين قد عرفوا الشعر العمودي بطريقته العربية، فكأنها قصيدة مكتوبة بشطرين متقابلين”.

     وهو هنا يقصدني إذ يقتبس خمسة أسطر من كتابي “نصوص مسمارية تاريخية وأدبية: الترجمة المباشرة عن الأصول المسمارية مع الشروحات والتعقيبات اللغوية”،(بيروت، 2015م)، الصفحة 223، إذ يستطرد: “يقول د. نائل حنون: ’لا بد أن نشير إلى أن الكاتب القديم نظم أسطر النص على وجه اللوح بطريقة أبيات الشعر العمودي العربي، أي فصل شطري كل سطر، أو بالأحرى بيت، كما هو واضح من استنساخ النص المسماري.

     وهذا يدل على أن هذا النص الأدبي هو قصيدة شعرية. ومما يدعم هذا الرأي وجود الإيقاع الشعري الذي نترك دراسته للمختصين بالأدب، فضلاً على طريقة تكرار التعابير وتغيير تراكيبها‘ “- انتهى الاقتباس من كتابي -، ويواصل هذا الشخص الكتابة فيقول: “ولا يخفى أن الشعر العمودي العربي ينتمي إلى تقاليد أدبية متأخرة ومختلفة تماماً، في حين ربما أراد ناسخ هذا النص الآشوري توزيع المساحات المكانية في الكتابة وحسب”.
     إن ما جاء به هذا الشخص ليس مجرد جهل بمقومات حضارة وادي الرافدين القديمة وآدابها وممارساتها الكتابية، وإنكار لإبداعاتها الأصيلة الحقيقية، بل هو تطاول وافتراء.

كيف؟
     إن الأسطر التي نقلها عني، والتي تغافل عن ذكر موردها، هي من المقدمة التي كتبتها لأول قراءة وترجمة تقدم في اللغة العربية للنص المسماري لأسطورة “نزول عشتار إلى العالم الأسفل” (النص رقم 15 في كتابي نفسه) والتي تضمن الكتاب على صفحاته التالية (الصفحات 225-228) استنساخ نصها المسماري مثلما شطرها الكاتب أو الشاعر القديم، ثم قراءة مقاطع هذه الأبيات بالتشطير نفسه وبالحروف العربية (على الصفحات 229-242)، وبعدها الترجمة العربية في أبيات شعرية بالتشطير نفسه (على الصفحات 242-249) والتعقيبات اللغوية (على الصفحات 249-255).

     وفي النص نفسه توجد أبيات مدورة كما في الشعر العربي العمودي حين تدور بعض الأبيات. فما الذي ينكره هذا الشخص؟ هل جالت عليه نوبة عمى مؤقت فلم يلحظ الصفحات التي تلت صفحة الاقتباس المنقول عني؟ أم أنه تغافل عنها عمداً ليضلل القراء لاعتقاده أن لا أحداً منهم سيرجع للكتاب ويكشف بهتان ما جاء به؟ أليس في هذا تضليل للقراء وخيانة للأمانة في النقل وفي نشر المعلومات؟ واستخفاف بعقول الناس؟ وإذا قام شخص بهذا مرة واحدة مؤكدة فكم مرة قام بها من قبل في أعماله التي لم تخضع لتدقيق أو فحص؟  
     قد يجهل بعض الناس أمورا كثيرة، ولكن ما يستحق الاحترام هو إقبالهم على التعلم. وللناس كرامة تجعلهم لا يخوضون ويكتبون في مجالات لا يفقهونها.

    ومن تخلى عن احترامه لذاته وعن كرامته فقط هو من يستطيع أن يشهر جهله ليهاجم به ناشري المعرفة وأصحاب العلم. من خلال ما كتبه هذا الشخص وعممه في مواقع التواصل توخياً للشهرة وحجباً للحقيقة وتحريفاً لمعلومات صحيحة مفيدة يظهر أنه يجهل تماماً الممارسات الكتابية في حضارة وادي الرافدين القديمة، ولا يميز ما بين تشطير الأسطر في الشعر وتقسيم النصوص على أعمدة.

     فقد كان الكتاب في هذه الحضارة المبدعة يدونون النصوص في الأسطر من اليسار إلى اليمين. وكانوا في حالات كثيرة، ترتبط بتطور الكتابة وبالعصور التي دونت فيها النصوص، يضعون خطوطاً فاصلة ما بين الأسطر. وحينما يكون اللوح الطيني بحجم كبير يقوم الكاتب بتقسيم وجه اللوح وقفاه إلى أعمدة ويضع أحياناً خطوطاً عمودية بين عمود وآخر.

    تكون الكتابة في العمود الأول (على اليسار) بأسطر أفقية يعقب أحدها الآخر حتى ينتهي العمود، ثم ينتقل الكاتب إلى رأس العمود الثاني ويدون في الأسطر بالطريقة نفسها. وهكذا حتى يملأ أعمدة الوجه. بعد ذلك يقلب اللوح بطريقة شاقولية (رأساً على عقب) ليبدأ بأعمدة القفا التي ترتب هنا من اليمين إلى اليسار.

    ولذلك فإن العلماء المحدثين حين يقرأون النص المسماري ويترجمونه يرقمون الأعمدة والأسطر في داخل كل عمود. وقد شرحت في كتابي  “حقيقة السومريين، ودراسات أخرى في علم الآثار والنصوص المسمارية” طريقة الكتابة في أعمدة وكيف أن نصوص الملوك الآشوريين كانت تنقش على موشورات مضلعة، وقد يصل عدد أضلعها إلى عشرة أو اثني عشر ضلعاً، وكل ضلع يعد عموداً. ولم يكن الكاتب ينتقل إلى كتابة العمود التالي إلا بعد كتابة السطر الأخير في العمود الذي يسبقه.

     أما في تشطير الأبيات فلم يكن يوجد ما يتكهن به هذا الشخص بقوله أن الناسخ كان يريد “توزيع المساحات المكانية في الكتابة وحسب”، وهو قول يتضمن حكماً على طريقة كتابة النصوص المسمارية مع الجهل التام بها.

هل من مثال؟
     في كتابي، الذي اقتبس منه هذا الشخص الأسطر التي ذكرها في مقالته البائسة، قدمت استنساخ نصوص مسمارية شعرية أخرى بأبياتها المشطرة والموزونة وهي ليست بأعمدة. ومن هذه النصوص الشعرية نص “لأمجدن رب الحكمة” (النص رقم 17 في الكتاب) الذي يطلق عليه العلماء المحدثون عنوان “أيوب البابلي”، ويتألف من نحو خمسمائة بيت شعري مشطر.

    وقد نشرت في الكتاب نفسه استنساخات جميع كسره المكتشفة مع القراءة اللفظية لمقاطعه وترجمته العربية بالتشطير نفسه في النص المسماري.

    فضلاً عن هذا يأتي كتابي الجديد، وهو بيدك الآن ذلك لأن هذا الحوار أجري أصلاً بمناسبة صدوره، ليتضمن القراءة والترجمة العربية المباشرة لأسطورة “الخليقة البابلية” التي كتبت على ألواح الطين بشكل القصيدة العمودية. وفي هذا إضافة معرفية وتأكيد لحقيقة واضحة وكشف عن إبداع مبكر من إبداعات حضارة وادي الرافدين.

نستشف من كلامك إعلانا عن عمق تاريخي جديد للشعر العمودي يرجعه إلى عشرات القرون قبل تأريخه المعروف حالياً، أليس كذلك؟
لم يكن معروفاً، قبل قيامي بترجمة قصائد الشعر مباشرة من اللغة الأكدية إلى العربية، أن حضارة وادي الرافدين القديمة قد ابتدعت الشعر العمودي.

    ذلك لأن علماء المسماريات الغربيين لم يترجموا هذه النصوص إلا بالشكل الوحيد الذي عرفوه للشعر، وهو المرسل، فحرم أبناء قومنا من التعرف على إبداع أدبي رائع ومن معلومة تغير ركناً من أركان تاريخ الأدب.

   وفي الوقت الذي حرصت فيه على التعريف بما يفخر به من نتاج الحضارة التي قامت على أرض بلادنا يأتي جاهل بالتراث الكتابي وبلغات هذه الحضارة ليفتري ويحرف ما هو ماثل أمام عينيه في كتابي الذي تصفحه ليلتقط منه ما يحرفه ويضلل به القراء.

   اللهم أشهدك أني ما كتبت إلا لخدمة المعرفة وهذه الحضارة المظلومة، وأني تمنيت أن لا يقرأ ما أكتب إلا مثقف وباحث أمين وطالب علم نجيب.

   وتحققت أمنيتي حين لم يقرأ هذا الشخص الذي افترى سوى الأسطر الخمسة التي أنكر الحقيقة التي وردت فيها، ولم يقرأ ما قبلها ولا ما بعدها، ولم يطلع على النص الذي قدمت له بتلك الأسطر.

   وشرف لي أن يفتري علي شخص لا علم له باللغات القديمة والنصوص المسمارية ويجهل طرق كتابتها أصلاً. وعلى الرغم من هذا يمضي الشخص نفسه ليستعرض نفسه لقراء التواصل على أنه الملم بحضارة وادي الرافدين وحامي حماها من خلال نقله من مراجع انجليزية وعرضها عرض الفاهم المتعمق، وحتى يحللها لغوياً وهو بلغاتها جاهل.

ماذا تريد ان تقول؟
    آخر ما أريد قوله هنا هو أن كتابي نفسه الذي اقتبس منه هذا الشخص، من دون ذكر عنوانه حتى لا يرجع إليه القارئ ويكتشف الافتراء الذي أتى به، يضم نصوصاً مسمارية مقسمة إلى أعمدة، وقراءتها توضح للقارئ الفارق فيما بينها وبين نصوص القصائد العمودية في النصوص المسمارية.

    فهذه الأعمدة تقرأ وتترجم عموداً بعد عمود سواء في النصوص السومرية أم الأكدية. وهذه النصوص هي: النص رقم 2 (نص ثنائي اللغة أكدي/سومري) الذي كتب بأربعة عشر عموداً على الوجه وأخرى مثلها على القفا، النص رقم 8 (نص سمسو-إيلونا) بعمودين، النص رقم 9 (نص شمشي-أدد الأول) بعمودين، النص رقم 10 (نص أجًم-كاكريمي) بأربعة أعمدة على وجه اللوح ومثلها على قفاه، النص رقم 13 (نص أدبي لجوديا) الذي نقش على أسطوانتين طينيتين كبيرتين ويصل عدد الأعمدة على الأسطوانة الأولى إلى ثلاثين عموداً، وعلى الأسطوانة الثانية إلى أربعة وعشرين عموداً.

   ويراوح عدد أسطر كل عمود ما بين ستة عشر وخمسة وثلاثين حتى بلغ مجموع الأسطر في الأعمدة الأربعة والخمسين على الأسطوانتين ألف وأربعمائة سطر، وأخيراً النص رقم 19 (نص شُمَّ إزبُ) بثلاثة أعمدة اثنان منها على وجه اللوح وواحد على قفاه، ومجموع أسطرها 128 سطراً، والسطر الأخير عبارة عن تذييل يُذكر فيه أن النص يتضمن ثلاث وخمسين نبؤة، وهو العدد الصحيح لما يتضمنه النص.

ولكن ما هي دوافع البعض لنفي حقائق علمية فيما يكتبون على مواقع التواصل الاجتماعي؟
     إنها دوافع متعددة ومتنوعة، وعلى رأسها التظاهر بالمعرفة والادعاء بالعلم. يشوب ذلك اطمئنان زائف إلى أن لا أحد سيراجع ما يدعون به عن حضارة ما يزال الكثير من مقوماتها مجهولاً ولذلك يظنون أن الناس سيصدقون كل ما يدلون به في ظل التقاعس وهبوط المستوى العلمي في هذا التخصص بعد رحيل أستاذنا الجليل طه باقر (رحمه الله).

     قد يمكن طرح الآراء والأفكار من قبل من حصل، في تخصص علم الآثار والدراسات الحضارية واللغات القديمة، على شهادات البكالوريوس والماجستير والدكتوراه الحقيقية من جامعات رصينة ووفق مناهج موثوقة وواصل البحث العلمي بنشر عدد كبير من البحوث الخاضعة للتقويم والمنشورة في المجلات والدوريات العلمية والموسوعات العالمية وألف عدداً من الكتب في تخصصه.

    ولكن هل يجوز هذا لشخص يفتقر إلى كل ما ذكرناه ورغم ذلك يصدر كتباً بمواضيع على هواه ويطرح أفكارا وفرضيات معلقة في الهواء فيها ظلم وتشويه لحضارة عميقة التكوين واسعة العطاء مجهولة في معظم أبعادها حتى الآن؟ أترك الإجابة على هذا السؤال لكل ذي عقل ومنطق.

   ولكنني أقول لبعض ذوي التخصصات، سواء كانت في الزراعة أم الطب البيطري أم الإعلام، انصفونا واكتبوا ما يستجد في العالم بمجالات تخصصكم التي يجب أن تتعمقوا وتبدعوا فيها بدلاً من هذا التطفل على تخصص ما عرفتم منه سوى لمحات وعبارات من هنا وهناك لا تجيز لكم أن تخطئوا وتهاجموا صاحب التخصص إلا إذا تخليتم عن أبسط المبادئ الأخلاقية، وهذا ما لا أتمناه لكم.

واضح أن لك رأيا في ما ينشر بمواقع التواصل، جعلك بعيدا عنها، وبذلك تتفق مع الكاتب إمبرتو إيكو حين وصف غزو مواقع التواصل ب” غزو البلهاء”؟ 
     إن مواقع التواصل الاجتماعي والتصدر في القنوات الفضائية الوسيلة المناسبة لهؤلاء، فما يوردونه فيها غير خاضع لتقييم علمي وتمثل أفضل مجال لنشر الأفكار المضللة عن حضارة وادي الرافدين.

    شاهدت مرة شخصاً إعلامياً يتحدث في مقابلة على التلفزيون مع إحدى القنوات الفضائية عن حضارة وادي الرافدين يتحدث فيها عن اعتقاده بأن الناس في عصر معين من عصور تلك الحضارة كانت لديهم ميول نحو المركزية وتخلوا عن تلك الميول في عصر آخر.

    هذا الشخص لا يعرف تفاصيل خصائص أي عصر ولم يطلع على نصوصه ولم يصل إلى المصادر وأمهات المراجع عن عصور الحضارة القديمة وأقوامها وكتاباتها ولم يقدم دليلاً واحداً على ما “أفتى” به سوى احساسه العقيم.

    هكذا حديث ما كان حتى العلامة الراحل طه باقر يميل إلى أن يدلي بمثله، فمن هذا حتى يطلق الأحكام و”النظريات” الزائفة على الهواء؟ وهناك حقوقي يتمثل “إنجازه” الوحيد في تخصصه أنه اقترح على صدام حسين في حينه أن يحل عقوبة قطع الآذان على الهاربين من الخدمة العسكرية البائسة آنذاك. هذا الشخص يطل من الشاشات التلفزيونية مقدماً نفسه خبيراً قانونياً، ويفاجئ الناس يوماً بنقده الرافض لرأي علمي من متخصص عن حضارة وادي الرافدين القديمة.

   بأي مؤهل علمي تكلم هذا الشخص؟ وبأي دليل علمي دعم نقده؟ لم يرد هذا ولا ذاك !! هناك الكثير مما كنت أتجاهله ولا أعطيه ما لا يستحق من اهتمام ثقة مني بفطنة الكثير من قومنا، ولكن بعد أن تصاعد تكالب هؤلاء لم يعد الصمت والتجاهل مسموحاً بهما.

هل جرى مثل هذا معك، رغم أنك تميل لعزلة عن هذه المواقع؟
     دعني أرو لك واقعة حدثت قبل وقت قصير تضمنت تنمراً لا مبرر له إطلاقاً. فقد كنت ذات يوم في جلسة ثقافية مع بعض الأصدقاء، وتشعب الحديث حتى أوصلني إلى ذكر معلومة لم يسمع بها الكثيرون. وهذه المعلومة تخص ما عرف باسم “حجر التيمم” الذي تيمم به النبي محمد (ص) لأول مرة بعد نزول سورة المائدة.

     وهذا الحجر كان في الحقيقة لوحاً طينياً مسمارياً يعود إلى العصر الآشوري الحديث وحفظ مع الآثار المقدسة ومقتنيات النبي (ص) في متحف “طوب قوباي” في إسطنبول، وهو متحف شهير خاضع للتدقيق وللقواعد الصارمة في المحافظة على المقتنيات وتوثيق تاريخها المعروف وطريقة تناقلها حتى وصولها إلى المتحف. وقد نشرت معلومات موثقة عن مقتنيات هذا المتحف وصدرت مراجع مهمة عنه.

    نشر أحد الأصدقاء المشاركين في الجلسة الخبر، لأن معظم الناس يعرفون بأمر هذا المتحف ولكن الكثير منهم لا يعرف بموضوع “حجر التيمم”. ولم يكن فيما ذكرته أي استنتاج أو حكم أو تأويل، لم يكن هناك سوى نقل المعلومة.
     فوجئنا جميعاً بعد بضعة أيام بشخص ينشر تعليقاً على الخبر يدينني فيه بالاسم ويوجه نصحه السقيم لي بأن لا أتسرع في “إصدار الأحكام”.

    إنه مجرد تنمر، فهذا الشخص لا يعرف شيئاً عن المتحف والمقتنيات الموجودة فيه ولا عن الإسلام وتاريخه.

    ومن يقرأ ما كتبه يظن بالتأكيد أنني قد أصدرت أحكاماً متسرعة فيما يخص مسألة علمية ولن يخطر بذهنه أن ما قرأه مجرد محاولة رخيصة للإساءة إلي بنسبة شيء لم آت به من باب إصدار الأحكام.

     وإذا كان هناك رأي علمي فأنا لا أطرحه إلا بعد تقديم الأدلة العلمية الموثوقة التي لا يستطيع هذا الشخص ولا غيره تفنيدها ولا حتى مناقشتها.

    والغريب أن متحامقاً آخر علق على الموضوع معتبراً إياه من أبواب الدعاية للحكومة التركية من غير أن يعرف أن هذا المتحف موجود منذ عشرات السنين والعالم كله يعرف به وبتاريخه عداه هو.

    وسأروي لك في هذا الحوار أمثلة عن أناس نهشوا لحمي في مواقع التواصل من دون مناقشة دليل واحد مما قدمت. بل الأدهى من هذا حرفوا ما طرحت حتى يتمكنوا من مهاجمتي شخصياً بالزور والبهتان مع اخفاء جهلهم.

    ما المصلحة في اقتراف هذه الأفعال المسيئة شخصياً لأصحاب الجهود العلمية الذين يسعون إلى نشر العلم والمعرفة الصحيحة والحقيقية؟ مصلحتهم هي الدفاع عن جهلهم وعن الشهرة الرخيصة التي بنوها بطرح أعمال في غير تخصصاتهم ومن دون علم صحيح يستندون إليه.

    ولذلك تراهم إما يهاجمون الأشخاص ويسيئون إليهم أو يحرفوا ما كتب حتى يهاجموه، ومع كل هذا لا تجد مناقشة جدية واحدة لدليل واحد مما استند إليه صاحب رأي علمي في تخصصه. وسأعود إلى تفاصيل هذا الموضوع في هذا الحوار معك.   
   المعروف أنك أوّل من ترجم (ملحمة جلجامش) عن النص الأكدي بشكل مباشر، وهناك من يرى أن المؤرخ العراقي الأستاذ الدكتور سامي سعيد الأحمد أستاذ التاريخ العراقي القديم في جامعة بغداد قام بترجمتها من النص الأكدي في وقت سابق في ثمانينيات القرن الماضي، فماذا تعلّق على ذلك؟
     الدكتور الراحل سامي سعيد الأحمد من أساتذتنا الكبار الذين بذلوا جهداً علمياً كبيراً ونشر وترجم أفضل بكثير من غيره، واختصاصه من الولايات المتحدة هو التاريخ القديم وغير متخصص باللغة الاكدية.
     لقد قام د. سامي سعيد الأحمد في كتابه بنقل ألفاظ المقاطع للنص من كتاب كامبل طومبسون الذي صدر في مطلع ثلاثينيات القرن العشرين،وكذلك نقل ترجمة طومبسون للنص من الإنكليزية مع التعليقات اللغوية وأضاف التشابه مع المفردات العربية من الفاظها .

    أي أن ما قدمه أستاذنا الراحل هو ترجمة انكليزية أخرى ولكن من مصدر كان فيما سبق ولعقد واحد من الزمن بعد صدوره موثوقا.
    إنّ النص المسماري الذي نشره طومبسون ونقل د. الأحمد قراءته وترجمته هو ليس النص الأصلي المسماري للملحمة ولكنه النص المحرر editing. أي أن طومبسون جمع ما كان مكتشفا لغاية عام ١٩٣٠م من كسر الملحمة وأعاد كتابتها بنفسه بالخط المسماري القياسي، أي أنه عمل تحريراً للنص وليس استنساخا له.

    بعبارة أخرى نص طومبسون لا وجود له على ألواح الطين. وهذه الطريقة اتبعها عدد قليل من العلماء القدامى في المسماريات ثم تركت.
    شرحت عمل طومبسون هذا على الصفحتين ٢٥ و٢٦ من كتابي “ملحمة جلجامش”، وأوضحت أن ما اكتشف من كسر الملحمة منذ عام ١٩٣٠م حتى اليوم يفوق كثيراً ما كان متوافر من كسر في متناول طومبسون.

    وذكرت بالنص على الصفحة ٢٦: “وعلى الرغم من ذلك… نجد أن عدداً كبيراً من المختصين قصروا ترجماتهم ودراساتهم على النص الذي حرره طومبسون في كتابه ذاك The Epic of Gilgamish: text, Transliteration, and Notes.

     وهذا ما أثر سلباً على مدى معرفة جمهور المهتمين والقراء من غير المختصين، واطلاعهم على نص الملحمة”. ثم أدرجت قائمة بكل أجزاء الملحمة التي اكتشفت بعد طومبسون.

وماذا بقي في ذاكرتك من د. سامي سعيد الأحمد؟
     كان، رحمه الله، يحثّني في كل لقاء لنا في بيت الحكمة على إنجاز المعجم الذي كان يعرف أنني أعمل عليه ليساعد على تيسير تعامل المهتمين مع النصوص القديمة.

    ولم يكن الرجل، رحمه الله، يدّعي بما لا يملك مثلما يفعل الكثيرون اليوم. ولم أشر في كتابي لمحاولته بالاسم حتى لا يتخذها المتنمّرون على أنها انتقاص من جهود الرجل الذي احتفظ له بكل المحبة والتقدير.
     ولكن ملاحظة سلبية واحدة وما تضمنته من حكم خاطئ هي التي جرتني إلى هذا التوضيح. وأتمنى أن يكف البعض عن إصدار أحكام من غير أسس علمية حتى نستغني عن توضيحات تشغلنا عن المسائل التي نسعى للتصدي لها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى