هوامش طاهر العلواني على قصيدة ريم سليمان الخش

 طاهر العلواني |مصر
 
منذ الخليقةِ والإنسانُ ممتحنٌ
                             فالشرُ ممتهنٌ والخيرُ والفتنُ
إنَّ الحياة صراعٌ دائمٌ قلِقٌ
                        بينَ التضادِ إلى أنْ ينقضي الزَّمنُ.
 
هذا البيت هو صدر القصيدة، وقد جمع الأزمان والأفراد والأحوال. (منذ) حرف جرّ مبني على الضم، وهو متعلق بممتحن. (الخليقة) فَعِيلة، مصدر بمعنى الخلق، ويأتي بمعنى السجية؛ تقول: زيد كريم الخليقة، أي الطبع. وهو على تقدير مضاف، والأصل: منذ بدء الخليقة. (والإنسان) الواو استئناف نحوي أو بياني حسب مراد الشاعر، فإن كان بيانيا، فكأن سائلا سأل عن أحوال الإنسان، وهل يخلو زمن من امتحانه؟ فقيل: والإنسانُ ممتحنٌ منذ الخليقة؛ فالشر، إلى آخر القصيدة. فـ(أل) في الإنسان لاستغراق الجنس، على حد قوله تعالى “إن الإنسان لفي خسر”،
 
واشتقاقه من أنس أو نسي على الخلاف المعروف عند الصرفيين، والأول أصح. وهو مبتدأ. (ممتحن) مفتعَل، اسم مفعول من الامتحان وهو الاختبار، والمحنة الخبرة. وهو خبر عن الإنسان. (فالشرّ) مبتدأ، والفاء للتفريع أو فصيحة، كأنه قيل: إن أردت أن تعلم كيف يكون امتحانه، فالشر ممتهن والخير والفتن، فيكون دليلا على الجواب وليس بجواب، وهو مبتدأ وممتهن خبره. (ممتهن) اسم مفعول من الامتهان. والمهنة الحذق والخدمة في العمل وغيره. ومهنة بفتح الميم وسكون الهاء وفتحها، وأنكر الأصمعي كسر الميم. (والخير والفتن) مبتدأ ومعطوف عليه، والخبر محذوف تقديره كذلك، والأحسن أن يكونا مبتدأين؛ من حيث إنّ الفتنَ جامعة للخير والشر، ولا يجوز أن يكون الخير معطوفا على الشر عطف مفردات؛ لأن ممتهنا مفرد، فلا يخبر به عن اثنين. (إنَّ) حرف توكيد ونصب مبني على الفتح لا محل له من الإعراب.
(الحياةَ) اسم إن، ووزنها فَعَلَة، وأصلها حَيَيَة عند الجمهور، وحَيَوَة عند المازني. (صراعٌ) خبر إن، وهو مصدر على وزن فِعال. (دائمٌ) نعت لصراع، وهو اسم فاعل من دام يدوم، أبدلت الواو همزة؛ لقربها من الطرف في اسم فاعل اعلّت عين ماضيه. (قلقٌ) فَعِلٌ، وهو نعت ثان لصراع. ولا يجوز أن يكون دائم وقلق خبرين لإن؛ لأن الحياة مؤنثة، فلا يخبر عنها بوصف مذكر، ثم لا معنى لوصف الحياة بالدوام؛ لأنها منقطعة والآجال مضروبة.
(بينَ التضادِ) بين متعلق بنعت ثالث لصراع، ولا يجوز أن يتعلق بصراع؛ لأن المصادر لا توصف قبل العمل. وهو مضاف، والتضادِ مضاف إليه، وهو مصدر على وزن تفاعُل، حذف أحد الدالين ضرورة؛ لأن الساكنين لا يلتقيان في حشو الشعر. (إلى أن ينقضي الزمن) متعلق بنعت رابع لصراع، و(أنْ) حرف مصدر ونصب، و(ينقضيْ) منصوب بأنْ المصدرية، ونصبه فتحة مقدرة للضرورة، على حد قول كعب بن زهير: أرجو وآمل أن تدنوْ مودتها**وما إخال لدينا منك تنويل. وقول عبيد الله بن قيس الرقيات: كي لتقضيْني رقية ما**وعدتني غير مختلس و(الزمنُ) فاعل ينقضي. وإن أردتَ أن تتصفحَ فضائل هذين البيتَين، لتقف على مواضع المزيّة، وتعرفَ فرقَ ما بين الذي يكون شعرا، والذي هو نظمٌ، فتستبينَ ما تهشُّ له النَّفسُ، ويعلقُ به القلبُ، ويُسرِعُ إليه الهوى، فأنعمِ النظرَ في تقديم الظرف (منذ) على عامله تنبيها على الاختصاص، وأن الإنسان لم يزل ممتحنا منذ ابتداء خلقه. ثم تفقّدْ ما يداخلُكَ من الأريحيّة من حذف المضاف (بدء) لدلالة منذ عليه، و ما يستَخِفُّكَ من هذا الاتساع في اللفظ والمعنى؛ ألا ترى أن بناء منذ على الخليقة أوحى إليك أن الامتحان في أصل الخلقة لا أزمنتها فحسب؟ فكأن الإنسان بطبعه ممتحنٌ، مجبولٌ على الاختبار في هذه الدار حتى يخرج منها. ثم تأمل ما في التعبير بالامتحان دون الاختبار، وما في الاختبار من السهولة واليسر، وما في المحنة من المشقة والعسر، تعلمْ بيانه.
ثم انظر كيف جاء التعبير بممتحن دون يمتحن، وممتهن دون يمتهن؛ لما في الاسم من الثبوت والفعل من التجدد؟ فعاد الإنسان لا يفارقه الامتحان في وقت من أوقات حياته، وفي خصلة من خصال خلقته. ثم تأمل الإيجاز بحذف الشرط، وبحذف خبر (الخير) لأن خبر الشر دل عليه. ثم أنعم نظرك في حذف جواب الشرط والإتيان بدليل هذا الجواب، وهو (فالشرُ ممتهنٌ)، يظهر لك أن المرء مختار لأفعاله، فالابتلاء بالخير والشر والفتن هو الاختبار، ولكن عُدل عن ذلك إلى أن الشر مهنة والخير كذلك؛ لأن الإنسان يفعل الفعل مختارا له، منقادا إلى ما يريد به الوصولَ إلى بغيته؛ فمن أراد الصلاح امتهن الخير، ومن أراد غير ذلك امتهن الشر. وتأملِ افتتاحَ الكلامِ بالشر دون الخير والفتن لأن الشر في كل زمان أكثر من الخير، وإن شئت فاعرضه على قوله تعالى “وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين”،
وقوله تعالى “وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله”، ثم اختبره بقوله سبحانه “والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما”، فتقديم السارق على السارقة لأن أكثر السارقين رجال، وكذلك امتهان الشر أكثر من امتهان الخير؛ تعلمْ أنها رَتَّبَتْ فأصابتْ، وشبَّهَتْ فقارَبَتْ. فإن قلت: لأي شيء جيء ب(الفتن)،
وما الفتن إلا شر؟ قلت: هذا من الإيغال وحسّن وقوعَه هنا أمران: أحدهما: أن الفتنة أكبر الشر، ولا يقال للشر فتنة إلا إذا كان مستفحلا. والثاني: أن من الفتن خيرا في مآله، وقد ابتلى الله المؤمنين تمحيصا لذنوبهم، وليُعلم الطيبُ من الخبيث،
وقد قال صلى الله عليه وسلم “أشد الناس بلاء الأنبياء….. الحديث”، وقد لاقوا من أقوامهم أعظم المحن، حتى رفعهم الله عز وجل فوق العالمين، وصاروا خاصته وصفوته من خلقه. وبين الخير والشر طباق، وبين ممتحن وممتهن جناس ناقص، وهذا من البديع الذي يقع لها اتّفاقا في البيت بعد البيتِ بلا تعمّد،
وهي في شعرها لا تحفل به، ولا تقصد إلى تكثيره؛ شأنها شأن القدماء الذين اعتنوا بعمود الشعر ونظمه على طريقة الأوائل. ولما تقرر في البيت الأول أن الإنسان بطبيعته ممتحن في جميع أزمنته، وأن الشر والخير والفتن كل ذلك ممتهن، أعقبت ذلك ببيان ما يعالجه المرء من الصراع بين شاطئ الخير، وأمواج الشر والفتن. .
فانظر إلى توكيد الكلام بـ(إنّ)، وهو أمر مشاهد لا ينكره أحد؛ لأن المعنى المقصود جليل الخطب؛ كقوله تعالى “قال رب إن قومي كذبون”، والله أعلم بذلك منه، فأكد الكلام لعظم ما فعلوا، فالتوكيد هنا إيذانا بعظم ما سيُلقى من الخبر. ثم جُعل الحديث عن الحياة دون العمر؛ لأن العمر أخص، والحياة أشمل، ثم أخبر عنها بأنها صراع، ولا يخفى ما في الإخبار بالمصدر من المبالغة، فشمل الصراع كل أوقات الحياة، ثم أُكّد ذلك الشمول بقولها: دائم. فإن قلت: هلا قيل: إن الصراع حياة دائمة، فيكون من باب القلب، وهو أبلغ وأنسب لطريقة الشعراء، ثم فيه تعدد للخبر، وهو أقوى؟ قلت: لما كان الحديث في أول الكلام عن قولها: منذ الخليقة، ناسب ذلك إسناد الكلام إلى الزمان كما كان في أول الكلام، ولو قيل: إن الصراع حياة، لكانت (أل) في الصراع عهدية تعود إلى المفهوم من امتهان الشر والخير والفتن، فكأنه قيل: إن هذا الصراع بين الشر والخير والفتن هو الحياة الدائمة التي يعيشها الإنسان، ولو كان كذلك لم يكن فيه قلب، وكلا المعنيين حسن كما ترى. فقد أعلمتُك سببَ إسراعِ القلب إلى البيتَين، وقربِهما منه، مع خلوّهما من التصنّعِ، وبعدِهما عن البديع المتكلَّفِ، مع رونقِ الاستعارة اللطيفة التي كستْهما تلك البهجة، ورأيتَ موقعَهما من الغرابةِ والحُسن، وتَمَيُّزَهما في الرشاقةِ واللُّطفِ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى