تعليق على قانون الأحوال الشخصية بخصوص التعدد في الزواج
د. أحمد حسين ، باحث وقاص مصري
مسائل الأحوال الشخصية بين العلاج الفردي والعقل الجماعي
لقد أحدث القانون المرتقب الخاص بحبس الزوج وتغريمه عند عدم إعلامه زوجته الأولى جدلا واسعا في الوسط الفقهي،بل في الوسط الثقافي على اختلاف طبقاته وفلسفاته،وليس الغرض من التعليق على القضية هو الانحياز أو الإدلاء بسبب فيها؛ لكن الغرض هو أن نضع أيدي المجتمع على المنهج الذي لابد أن تتمتع به الطبقة المثقفة المنوط بها قضية الإصلاح والتطوير خاصة .
أولا:الجهة المنوط بها بحث المسألة.
الأصل في القانون وما يصدر عنه من بنود ألا يتعارض مع الشريعة؛ لأنها المصدر الرئيس للتشريع بنص الدستور ( المادة الثانية) ، فإذا تعلق الأمر بالأحوال الشخصية ـ كان الأمر أكثر بروزا في هذا الجانب؛ لما أطبق عليه علماء القانون من أن الأحوال الشخصية مأخوذة جملة وتفصيلا من الشريعة الإسلامية،فكان الطريق الأليق أن تلقى مهمة الإعداد لهذا المشروع إلى هيئة كبار العلماء والمجامع الفقهية ، ولأنني أقطع بأن الفقه الإسلامي هو فقه الواقع ـ فلا بأس بأن تشترك الأطياف المختلفة وفقا للتخصصات ، بحيث يصدر المقترح عن (علماء الفقه وعلماء الاجتماع وعلماء القانون) ، والقارئ لاشك يدرك أبعاد تخصص كل جهة من هؤلاء عند مدارسة المسألة ، فالإسلام أوسع بكثير من اختصاص الفقهاء، باعتبار أن ميدان الفقه الإسلامي هو الحياة، مما يجعله بحاجة إلى كل صنوف المعرفة ومناهجها، ومما يجعل أي مفكر في أي حقل نافع قادرًا على أن يساهم في عملية الإنتاج الفقهي خاصة في القضايا ذات البعد الاجتماعي.
ثانيا : موقف العلماء من هذه القضية.
لقد تباين موقف العلماء حول هذه القضية بين مؤيد ومعارض ، فمنهم من يرى أن هذا يصون بيت الزوجية من التصدع ويقضي على حالات الطلاق ويوفر فرص للحياة أكثر استقرارا ، ومنهم من يرى أن هذا فيه شرط مخالف لم يرد به الشرع .
ولست هنا في موضع الترجيح والتصدر ، ولكنني هنا في مقام المدارسة والمباحثة ، فالمنهج قد يكون أولى من رصد النتائج؛ لأن في استقامته استقامة للمحصلة التي يرجوها كل عقل نزيه يريد الحقيقة.
ثالثا: التعليق على موقف التيارات الفكرية حول القضية .
محاورة الاتجاه المؤيد :
نلمح في هذا الاتجاه الاندفاع والتسرع، وكان من المفترض أن يكون الحوار خاضعا للمناقشة من وجهة نظر الجهات الثلاثة الآنفة الذكر ( الفقهاء – رجال القانون – علماء الاجتماع )؛ حتى تكون القضية منبثقة عن علم ودراية شأن مدارسة القضايا الجلل في البلاد المتحضرة التي تؤمن بأن الحقيقة هي قِبلة كل عقل نزيه.
– لم يقدم لنا هذا التيار وفلسفته إجابات جادة عن الحالات التي يحتاج فيها الزوج إلى الزواج لأمر ما متعلق بالغريزة أو غيرها ويكون في الإبلاغ – لما يعلم من شأن زوجته – الشقاق والطلاق ، فالقانون حين حاول مراعاة الزوجة أغفل حاجة الزوج.
إن الشريعة الإسلامية تضع في اعتبارها احتمال وجود ظروف وأسباب تجعل الزوج عاجزا عن الاكتفاء بالزوجة الواحدة .. وليس في الناس من يمتري ويجادل في وجود هذه الأسباب في كثير من الحالات ، ولا شك أن هذه الأسباب تعلن عن وجودها وشدة سلطانها على الرجل في المجتمعات الغربية ، أكثر مما تعلن عن وجودها وفاعليتها في المجتمعات الإسلامية ؛ ونظرا لأن الناس ما كانوا ولن يكونوا يوما ما ملائكة معصومين ، فإن الزوج في هذه الحالة أمام سبيلين اثنين لا ثالث لهما ، أحدهما أن يستعصم بالعفة ويرقى إلى مستوى الملائكة وهذا لا تقوى عليه طبيعة الإنسان … وثانيهما أن يضيف إلى زوجته التمتع بامرأة أخرى ، وهذا ما يجنح إليه الناس في المجتمعات الغربية ، لكن الغرب لم يضبط هذه العلاقة الثانية بأية ضوابط تحفظ حقوق المرأة، وتقي من اختلاط الأنساب وكثرة اللقطاء، إذن فالجنوح إلى التعدد جامع مشترك بين العالم كله ، والفرق بين الشريعة الإسلامية وغيرها أنها قيدته بضوابط وشروط من شأنها رعاية كرامة المرأة، في حين أغمضت الأنظمة الأخرى عيونها عن هذه الضوابط ، فأيهما الحريص على كرامة المرأة وحقها ؟ وأيهما المتهاون فيها وفي حق المجتمع كله؟
– لم يقدم لنا القانون حدود الضرر الذي يلحق الزوجة الأولى؛ فتطلب الطلاق هل المقصود الضررالمعنوي أو المادي ، وما حدود الضرر المعنوي إذا تمكنا من ضبط الثاني منهما.
-هل حقا هذا القانون سيقلل حالات الطلاق؟! ، وهو ذات القانون الذي شدد على عدم وقوع الطلاق الشفوي فيكون متناقضا في مقاصده ، وهل هذا الإجراء في ظل تكدس حالات العنوسة سيحمى المرأة الواحدة وهي من توفر لها الزواج ، وسيظلم النساء؟ !!!.فنطلق عليه إن صح التعبير (قانون حماية الزوجة لا المرأة) ؛ مراعاة للدقة .
التعليق على الرأي المانع .
لقد غالى هذا التيار في الرفض ، واعتبر أن هذا فيه افتيات على الشرع وإقحام لشروط لم ترد به الحنيفية البيضاء ولنا هنا وقفات:
الأولى :إن مسائل الدين تدرس بروح غير التي تدرس بها مسائل الدولة، فالدين (العبادات) ينظر إلى العلاقة بين العبد وخالقه، فهذا لا يتغير ولا يجب أن يتغير، أما مسائل الدولة فالنظر فيها يكون نظر مصلحة وتدبير،أضف إلى ذلك أن القانون لم يمنع التعدد- ولا يمكن أن يمنعه- ولم يبن على عدم العلم البطلان ، فكل مانريد فعله أنه أوجب علم الزوجة دون أن يكون رفضها أو عدم رفضها سببا في المنع أو الإمضاء ؛ فما سيترتب على ذلك هو تقبلها لهذا الوضع فتطلب الطلاق أو ترضى به ، دون أن يمس على الإطلاق الزواج بالثانية وصحته .
ثانيا : إن الخلفاء -رضوان الله عليهم- عليهم تصرفوا في قضايا الأحوال الشخصية ، وربطوا ذلك بالمصلحة، ولم يقل أحد من ذوي الفهم أن عمر- رضي الله عنه – كما هو وارد في صحيح مسلم وغيره- حين روى عنه: إن الطلاق على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم” – أن ذلك افتيات على الشرع ، بل إنك لتعجب حين يجعل الإمام النووي أمر الطلاق تبعا لعادات الناس في بعض وجوهه يقول النووي في شرحه على هذه الحديث: “وأما حديث ابن عباس فاختلف العلماء في جوابه وتأويله فالأصح أن معناه أنه كان في أول الأمر إذا قال لها أنت طالق أنت طالق أنت طالق ولم ينو تأكيداً ولااستئنافاً يحكم بوقوع طلقة لقلة إرادتهم الاستئناف بذلك، فحمل على الغالب الذي هو إرادة التأكيد، فلما كان في زمن عمر -رضي الله عنه- وكثر استعمال الناس بهذه الصيغة وغلب منهم إرادة الاستئناف بها حملت عند الإطلاق على الثلاث عملاً بالغالب السابق إلى الفهم منها في ذلك العصر، وقيل المراد أن المعتاد في الزمن الأول كان طلقة واحدة وصار الناس في زمن عمر يوقعون الثلاث دفعة فنفذه عمر، فعلى هذا يكون أخباراً عن اختلاف عادة الناس لا عن تغير حكم في مسألة واحدة.”
ثالثا: إنه يجوز لولي الأمر تقييد المباح؛ إذا رأى ثمة مصلحة من وراء ذلك.
نستطيع أن نستخلص مما سبق الآتي :
- إن الفقه الإسلامي لم يبخس حق المرأة كما يقولون ، فلو بحث المخلصون في دواوين الفقه لوجدوا أن الفقه الإسلامي – وهو فقه الحياة والاجتماع – راعى مثل هذه المسائل، فعند الحنابلة نظرية الشروط عريضة جدا ، بل صرحوا بأن المرأة كما يقول ابن القيم:” التي من عادة أهلها عدم تزويج بناتهم على ضرائر يعتبر بين المرأة منهم وبين زوجها شرط ملحوظ ألا يتزوج عليها وإن لم يلفظ به في العقد ؛ لأن المعروف كالمشروط “.
- إن القضية خاضعة للمصلحة ، ولا يجب للعاقل أن يعترضها ، فكل منا نريده أن تكون تصرفات الدولة ذات مقاصد حقيقية تحمى مجتمعاتنا من التصدع ؛ دون أن يكون الغرض هو مغازلة تيار بعينه أو رضوخا لإرادة خارجية .
- إذا اتفقنا على أن التعدد شريعة ربانية فإن عشوائية التطبيق لهذا الأمر تحدث خللا في الحياة ، وإذا كان للتعدد فوائد جمة فله أضرار أخرى تنجم نتيجة الخطأ في الممارسات ، وهذا يقتضي أن تقام هذه العملية تحت مظلة القانون ؛ حتى تكبح زمام كل من يتخذ الشرع وسيلة في تحقيق إرادات شخصية غير عابئ بالمخلفات الاجتماعية .
فليست القضية محصورة في العلم وعدمه أي ليست القضية قضية المرأة وحدها بقدر ماهي عامة يجب أن تراعى فيها حالة المجتمع كله ، تلك هي النظرة التي لابد أن تصدر عنها آراؤنا ونحن نناقش قضايا الأسرة التي تُكون المجتمع وتشكله،فهذا خير من حصرها في مسألة شخصية تحدث لنا خللا في التطبيق ، فنحمي فردا ونهلك مجتمعا.
خامسا: نموذج لإصلاح الأحوال الشخصية في المنطقة العربية.
ولأنني – وفقا للتخصص- مهتم بالتشريعات أضع أمام المشرع نموذجا عمليا للإصلاح الأحوال الشخصية ،وهو مشروع قانون الأحوال الشخصية الموحد بين الإقليمين المصري والسوري.
وكان القائمون على هذا القانون رجال الفقه والقانونومنهم: 1- مصطفى أحمد الزرقا، رئيسًا للجنة.2- الشيخ حسن مأمون مفتي مصر سابقًا.3- الدكتور عبد الحكيم عبد الحميد فراج، وكيل مجلس الدولة.4-محمود عبد القادر مكاري، القاضي وعضو الإدارة العامة للتشريع بوزارة العدل للإقليم المصري.
ـ السبب في وضع هذا القانون ومنهجهم:
أقيم هذا المشروع؛ “لأنه كان في كل بلد إسلامي مستقل عن غيره يسود فيه مذهب فقهي من المذاهب الأربعة، ويصادف أهل كل مذهب في أحكام الأسرة مشكلات كثيرة لا حلول لها في مذهبهم ، ولكن الحل المقيد موجود في المذاهب الأخرى، أو في إطالة النظر في أصول الشريعة وقواعدها الثابتة الخالدة، وفي آراء غير أصحاب المذاهب المدونة كاملة، وإن البلدين المصري والسوري ينطبق عليهما هذا الواقع“.
وفي ضوء هذا الواقع ومشكلاته، خاصة ما يتعلق بالطلاق ومآسيه في البلاد الإسلامية مما ينشأ من حماقات بعض الرجال، وانتهاك بعض المفتين لحدود الله – تعالى- عن طريق إيقاع ما لا يقع أو العكس، ففي ضوء كل هذا تقرر وقت الوحدة بين مصر وسوريا عام( 1958م ـ 1961م)، توحيد عدد من القوانين على رأسها قانون الأحوال الشخصية.
وقد بلغت مواد المشروع (451) مادة.
وقد استهلت اللجنة برئاسة الزرقا المشروعبمقدمة وضعت فيها كافة الأحكام الاستصلاحية التي توصلت إليها اللجنة ، فلتنظر هناك.
ـ مصير هذا المشروع:
هذا المشروع على الرغم من كثرة مزاياه، وكثرة الحلول التي توصل إليها مدعمة بصحيح الدليلين العقلي والنقلي لم يكتب له الصدور لكي يصبح مفعلاً في القطرين: المصري والسوري بسبب انفراط الوحدة بينهما، فأصبح المشروع هيكلًا معطلًا لم تنفخ فيه الروح، بل دخل في حيز النسيان.ثم حاولت جامعة الدول العربية توحيد أحكام الأسرة، فعهد إلى مجلس وزراء العرب وضع لجنة لذلك سنة (1982م)، ولم تلتفت لمشروع الزرقا القديم.
ثم بعد الانتهاء منه، دعا مجلس وزراء العدل العرب في أواخر الثمانينيات لجنة من متخصصي كل الدول العربية لمناقشته، وتقرير تبنيه أو عدمه.
فاجتمعت اللجنة أيامًا في عمان، وبسبب تحفظ ممثلي بعض دول الخليج على بعض الإصلاحات الجديدة، ومنها الوصية الواجبة التي حلت بها مشكلة ابن المحروم في الميراث تقرر عدم تبني المشروع كنظام موحد، بل يترك الخيار لكل دولة أن تقتبس منه ما تشاء إذا أرادت وضع نظام قانوني للأحوال الشخصية،وهكذا شيعت جنازة المشروع إلى المقبرة.
أردت من الحديث عن هذا المشروع كيف تكون لجان المناقشة وكيف تكتب المقاصد التي نقنع المجتمع بها .
وأود التنبيه إلى أن القانون ناقش هذه القضية- أقصد قضية إعلام الزوجة بالتعدد- ونص على الآتي :أنه إذا تزوج الرجل على زوجته حق للزوجة السابقة أن تطلب فسخ زواجها منه ما لم ترض بزواجه الجديد، وإذا كانت الزوجة الجديدة لا تعلم أنه متزوج من غيرها حق لها أيضا طلب الفسخ” ، ولست هنا في مقام مناقشة ما توصل إليه المشروع،ولكنني أردت فقط أن أبين المذكرة التفسيرية للمشروع سلكت مسلكا قويما في المباحثة وعلى المشرع في بلادنا أن يعيد النظر في قضيته وأن يسير على نهجه عند الإصلاح.