راهبات في بيوت العظماء

عبد الرزّاق الربيعي | شاعر ومسرحي وصحافي

قبل سنوات، قرأت عن كتاب الدكتورة ملك أبيض، رحمها الله، ” ذاكرة اللواء” الذي تتحدّث به حول  نتاج زوجها الشاعر السوري الراحل سليمان العيسى، فتذكّرت ملازمتها له خلال لقاءاتي بهما في صنعاء أواسط تسعينيات القرن الماضي، فلم يكن بالنسبة لها زوجا، فحسب، بل  رفيق كفاح في دروب الحياة، وصديق رحلة طويلة، في البيت والكتابة، فقد شاركته في تعريب مجموعة للشاعر الجزائري “مالك حداد” هي “الشقاء في خطر” عن الفرنسية، وقصص الأطفال الأجنبية، وحين سألتها عن السبب الذي جعلهما يشتركان في ذلك المشروع، قالت “في مرحلة لاحظت أنّ سليمان مكتئبا، ولا يوجد شيء يشغله، فاقترحت عليه أن نتعاون على ترجمة تلك المجموعة، فوافق، وبالفعل نجحتُ بإخراجه من حالة الحزن التي كان يعيشها .
الدكتورة ملك أبيض التي لم تكتف بدور الملهمة، بل تعدت إلى أبعد من ذلك، فكانت سندا، ويدا حانية، وجاء كتابها ” ذاكرة اللواء” تكملة لـكتاب سابق هو “لمحات”، ومن خلاله تصرّ على مواصلة مشوارها مع العيسى رغم رحيله عن عالمنا، وجاء هذا الجهد ردّ جميل، له، وبالمقابل فإن العيسى كتب العديد من النصوص في ملك أبيض من بينها قصيدته التي يقول في مطلعها:
أنا الثمالة شدّيني إلى جسدي*** يا آخر النبضات الخضر في كبدي
واحتفاؤه بزوجته هو جزء من احتفائه بالمرأة، وقد قام بجمع نصوصه في كتاب حمل عنوان (وأكتب. . قصائد صغيرة لي ولها)، وحين أهداني نسخة من هذا الكتاب سألته عن سبب كتابته له، فأجاب” كنت في دمشق وكانت الدكتورة ملك أبيض  فرحت أستعيد في ذاكرتي الكثير من اللمحات الجميلة التي عشتها وإياها، وسجّلتها في (قصائد صغيرة) تألّفت من سبعين مقطوعة أعدّها شيئاً خاصاً جداً، لكن بعض الأصدقاء المقربين أصروا على نشر هذه الومضات، وكتب لها صديقي الشاعر الكبير د. عبدالعزيز المقالح مقدمة، وأصر صديقي الأديب الأستاذ خالد الرويشان وزير الثقافة والسياحة – الأسبق – في اليمن على نشرها، لأنها في رأيه (قصائد صغيرة لي ولها وللاَخرين. .) وهكذا نشرت المجموعة”
وحين سألته :كيف التقيت رفيقة عمرك التي تدين لها بالكثير من نجاحاتك؟ أجاب” ” زوجتي د. ملك إنسانة مثقفة ثقافة عالية، وأنا أملك نصف ثقافتها، وأنا مدين لها حتى الاَن بنصف نتاجي، إذ كانت الدافع الرئيس لكثير من مشروعاتي الأدبية، في الكتابة، والترجمة، تقرأ لي، وتلخص عشرات الكتب، وتخترع لي موضوعات إذا توقفت عن الكتابة، اشتركنا بترجمة أكثر من خمسمئة قصة للأطفال من كل أنحاء العالم، ويسترسل العيسى فاتحا ذاكرته قائلا” لقائي الأوّل بها لا يخلو من ترتيب القدر، فقد كنّا شباباً متحمسين نفكر بتغيير وجه التاريخ،! وكنت مدرّساً في ثانوية حلب، وذلك  بعد عودتي من الدراسة في بغداد، في تلك الفترة طلب مني أحدهم أن أعطي دروساً خاصة لأسرة لبنانية كريمة، فكانت مجموعة من البنات، وذات يوم لاحظت حرف (الميم) منقوشاً على وسادة من الوسائد، فسألت عن صاحبة هذا الحرف، قالوا: إنها شقيقتنا (ملك) التي تدرس في (بلجيكا). وبعد أكثر من عام جاءت (ملك) بعد انتهاء دراستها، فالتقيتها، وكانت تحلم أحلاماً كبيرة، وتنوي أن تعود إلى (أوروبا)، ومن اللحظة الأولى اكتشفت أنها هي المرأة التي خطرت ببالي، فطلبت منها أن نتجول، فوافقت، وتحدثنا كثيراً بالسياسة، والأدب، واستمرت مشاويرنا تحت ضوء القمر لأكثر من شهرين من دون أن يخطر ببالنا أن نتكلم بالحب، وذات يوم كنا نسير على الطريق نفسه، ونأكل (السندويتشات)، سألتها: متى تعودين إلى بلجيكا؟ فأجابت: قررت إلغاء الفكرة، فسألتها ثانية: لمَ لا نكمل مشوار العمر معاً؟ فوافقت على الفور، وعندما وصلنا إلى البيت أخبرنا الأهل: إننا خطبنا بعضنا بعضاً، فباركوا لنا هذه الخطبة، وهكذا بدأنا المشوار”
والذي لا يعرفه الكثير من المتابعين، أنّ العيسى له قصائد كثيرة في المرأة جمع بعضها في كتاب حمل عنوان”: المرأة في شعري” ضم أكثر من (150) قصيدة على امتداد (600) صفحة كتبها خلال نصف قرن بدأها بعام 1947م، فكانت مجموعة شعرية كبيرة كفيلة بأن تجعل دارسي أدب (سليمان العيسى) يضيفون (المرأة) الى مجمل اشتغالاته العديدة، ويبدو أنّه بهذه المجموعة أراد لفت انتباه الباحثين إلى الحيز الكبير الذي شغلته المرأة في شعره، وهو حيّز كبير، وواسع، فالمرأة لديه ليست جسدا عامرا بالفتنة، ولا وجها صبوحا، بل هي (اللمحة المضيئة، قطرة الندى، سكرة الصمت، واحة المسافر المشدود) كما يصف؛ فأراد بهذه المجموعة أن يستظل بفيء هذه النخلة، ويجمع حبّاتها التي تساقطت على عباءته خلال رحلة الحياة، وقد تساءل في المقدّمة “لماذا المرأة؟ ألانّها هي الجمال في أحلى صوره، وأبدع تجلياته؟ فهي نبضة الشعر الأولى، منذ كان النبض، وكان الشعر هي التي وضعت الكلمة الجميلة على شفتي أول محب، فأصبح شاعرا هي الطفلة التي كبرت، وما زالت الطفولة، والأطفال سرّها الأول، ونحن جميعا أطفالها هي مُلهِمة، ومُلهَمة، وعاشقة، ومعشوقة،  إنّها الأنثى نصف كتاب الحياة”.
إن الشاعر (سليمان العيسى يحاول من خلال قصائده التي كتبها للمرأة أن يردّ دينا في عنق قصيدته للإنسانة التي رأى فيها طفولته، فكانت الرمز الثوري، والتراثي، والنغمة العذبة في معزوفته التي ظلّ يرددها حتى غادر عالمنا لتبقى ذكراه حيّة في قلوبنا و(ذاكرة اللواء).
حكاية ملك أبيض مع العيسى تختلف بجوانب كثيرة مع الفاضلة عطية الله إبراهيم زوجة نجيب محفوظ، لكنها تلتقي معها كونهما وقفتا إلى جوار مبدعين عربيين كبيرين، يقول محفوظ في حديث أدلى به لرجاء النقاش عن زوجته التي تصغره بــ 35 سنة ” كنت بحاجة إلى زوجة توفّر لي ظروفا مريحة تساعدني على الكتابة، ولا تنغّص عليّ حياتي فاخترتها “؛ فكانت عطية الله التي توفّيت قبل شهور المرأة التي تقف إلى جوار العظيم لا خلفه .
وهناك أمثلة أخرى لنساء وقفن إلى جوار العظماء، فابنة أخ ميخائيل نعيمة (نموذجًا) للمرأة الراهبة التي رفضت الزواج، وبقيتْ إلى جانب عمّها معتبرة هذه الوقفة خدمة للأدب، والفن، والجمال.
° مقال كتبته قبل سنوات، ونشرته في ملحق” رواق” العدد (9) الصادر في ديسمبر 2015 عن مركز الدراسات والبحوث، أعيد نشره بمناسبةاليوم العالمي للمرأة، وكلّ عام، و(ربّات الأقدار) بخير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى