ما خلأت القصواء و ما ذاك لها بخلق

رضا راشد | باحث في اللغة والأدب | الأزهر الشريف

وإنه ليحزنني أن يتعامل الناس فيما بينهم على أساس من التهمة وسوء الظن، ولا سيما إذا لم يكن لسوء الظن مسوغ.

يعتاد الناس منك جميلا ما، ثم يغشاك من الأحوال ما يزيلك عن هذا الجميل الذي اعتادوه، فلا يكون منهم إلا إساءة الظن كأن لم يكن منك إليهم خير قط.قد ضاق عليهم كل باب لتفسير ذلك تفسيرا حسنا فما هو إلا التهمة وسوء الظن .

مررت يوما على أحدهم وكنت ذاهلا عن نفسي لِهَمٍّ غشي قلبي، فلم ألق عليه السلام فإذا به يمطرني بوابل من سهام النقد والاستفهامات الإنكارية التوبيخية :علام الكبر والغرور ؟!
إن السلام لله.إلخ… واندلق لسانه برسائل الوعظ المتتابعةالتى لا تنتهي.

ونظرت، فرأيت كأن الدنيا قد ضاقت عليه بما رحبت ففتش ونقب فلم يجد لي عنده عذرا، وهو الذي ما اعتاد منى إلا إلقاء السلام عليه: غدوا ورواحا، ذهابا وإيابا. فما كان مني إلا أن عاتبته بلطف: هل اعتدت مني على ذلك ؟فقال : لا .قلت: إذن فلم تسيء الظن بأخيك ؟ هلا التمست لي عذرا؟

أليس في جعبة المسلمين بعضهم لبعض ومعاجم ألفاظهم ما يسمى بإحسان الظن والتماس العذر ؟!

إنني إذ أدعو المسلمين إلى إحسان الظن والتماس الأعذار إنما أستحثهم على أن يلتمسوا حسن الظن من مجمل ما يعرفونه عن إخوانهم من جميل السجايا وكريم الطباع؛ فإنه لمن الظلم البين ألا تعرف عن امرئ سوءا، ثم إذا وجدت منه ما يسوء-في ظاهره- مرة عدم منك عذرا !!

وإن في هدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لما يدل على ذلك ..ففي السنة السادسة من الهجرة خرج الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة في ألف وأربعمائة من صحابته متجهين إلى مكة لأداء العمرة، ليس معهم إلا السيوف في أغمادها؛ تحقيقا للرؤيا التي رآها النبي – صلى الله عليه وسلم -، حتى إذا كانو بالثنية (الطريق المرتفع في الجبل) التي يهبط عليهم (أهل مكة) منها برَكَتْ به راحلته صلى الله عليه وسلم، فقال الناس: حَلْ حَلْ (زجر للناقة لتسير)، فَأَلَحَّتْ (تمادَتْ على عدم القيام)، فقالوا: خَلَأَتِ (بركت ولم تبرح من غير عِلة) القَصْواءُ، خلَأَتِ القصواء (ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – : ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخُلُقٍ (بعادة)، ولكن حبسها حابس الفيل، ثمَّ قال: والذي نفسي بيدِه، لا يسأَلوني خُطَّة يُعظِّمون فيها حُرُمات الله إلَّا أعطيتُهم إيَّاها، ثمَّ زجَرَها فوَثَبتْ به، قال: فعَدَل حتَّى نزَل بأَقصى الحُديبيَة).

فتأمل يا رعاك الله حرص النبي – صلى الله عليه وسلم – على نفي التهمة عن ناقته لما ظن الصحابة بها الحُرون عن القيام والمشي وقالوا: خلأت القصواء . ثم لم يكتف بالنفي قائلا: “ما خلأت القصواء”، بل نفى عنها ذلك الطبع أصلا: “وما ذاك لها بخلق”، وبعد التخلية بنفي التهمة عنها كانت التحلية ببيان سبب حرونها قائلا: “ولكن حبسها حابس الفيل”. [ومعنى حبسها حابس الفيل: أي حبسها الله عز وجل عن دخول مكة كما حبس الفيل عن دخولها]

لقد اعتمد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في نفيه عن ناقته التهمة التي اتهمها بها الصحابة رضوان الله عليهم -اعتمادا على ما بدا لهم من ظاهرها- ، اعتمد على طبع هذه الناقة وما عرف عنها من قبل وأنها لم يعهد منها الحرون وعدم المسير، فحين نرى منها ما يخالف طبعها فلا يجوز لنا البتة أن مسارع بتوجيه أصابه الاتهام لها بل علينا أن نلتمس عذرا وأن نبحث عن سبب ما فعلته مما ليس من طبعها “حبسها حابس الفيل”

أليس جديرا بنا نحن المسلمين أن نقتفي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ناقته في تعاملنا مع إخواننا ؟!
أو ليس يقبح بنا أن نرى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يحرص على تبرئة حيوان أعجم لا يعقل مما اتهم به شيئا ؛ اعتمادا على ما عرف عنه في سابق حياته ثم لا نقتدي نحن به – صلى الله عليه وسلم – في تعاملنا مع إخواننا، فترانا نسارع في اتهامهم بما هم منه برآء؛ انقيادا لظن سيئ لا تعضده قرينه ولا يقويه دليل؟! عجيب أن يكون الرسول عدلا مع ناقة وأن نكون نحن ظالمين لإخواننا!!

أليس هذا من إيذاء المؤمنين الذي نهانا ربنا عنه في قوله تعالى:《والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما عظيما》

فيا أيها المسلمون :
انفوا عن أنفسكم سوء الظن في تعاملكم مع إخوانكم ،وليكن التماس الأعذار ملجأ لكم تفرون إليه من نزغات شياطين الإنس والجن ..حينها تأوون إلى جنة الطمأنينة وواحة الهدوء وانشراح الصدر ..وإلا عشتم من سوء الظن في سعير يتلظى فيخرق قلوبكم ويؤذي إخوانكم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى