هل نحن فعلا عالة على الغرب والعالم؟
سري سمور | فلسطين
جائحة كورونا زادت من حدة جلد الذات في أوساطنا، وصرت تسمع عبارات ساخرة من قبيل نحن ننتظر (الكفار) كي ينتجوا لنا لقاحا؛ لنعود إلى المساجد، وندعو الله أن يخلصنا منهم ويهلكهم.
مثل هذه العبارات المسنودة؛ بل العائمة فوق بحر من منهج ثقافي كامل، يصورنا دوما في موضع النقص والاستجداء والجهل، وأننا عالة أو حمولة زائدة مرهقة على هذا الكوكب، وأننا نهاجر إلى بلاد الغرب، ونأكل من خيرهم، ثم نتبنى (الإرهاب).
وتجد عند بعض أوساطنا (الثقافية) روحا عنصرية لا تجدها حتى عند عتاة اليمين العنصري في أوروبا أو أميركا الشمالية ضد المهاجرين المسلمين والعرب، وتمتد السخرية والازدراء حتى تصل مقدساتنا، وتلك المقارنة السخيفة التي سبق أن كتبت عنها هنا، بين علماء الدين وبين علماء العلوم التطبيقية والأطباء وغيرهم.
وتأخذ مرحلة جلد الذات مسارا أكثر سوداوية بوصفنا مجرد كائنات تستهلك ما ينتجه الآخرون، ويصل الحال ببعضنا -ومنهم مع بالغ الأسى من هو محسوب على التيار الإسلامي- أن يقول لو أفاق العالم وكنا في خبر كان، فلن تخسر البشرية شيئا؛ بل على العكس ستزول عنها أعباء وأفكار عنصرية واستنزاف موارد.. إلخ.
وكي نناقش هذه الأفكار، التي تجد رواجا وقبولا لا يستهان بحجمه لدى شرائح متنوعة عندنا، فهناك حقائق أقوى من ضجيجها.
وظيفة الإنسان
لا بد في حمأة الغرق في التفكير المادي الجاف، التذكر بأن الإنسان استخلفه الله في هذه الأرض، وأنه مخلوق لعبادة الله -عز وجل- وليس فقط ليأكل ويتمتع كالأنعام.
(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [سورة الذاريات]
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ) [سورة محمد]
فيجب ألا تغيب هذه الحقيقة عن ذهننا، وهنا قد يقول قائل بأن العلم والعمل عبادة، نعم، وفق مفهومك للعلم والعمل؛ لكن تخيل لو أنك مشرك بالله، أو إنسان وثني أو لا تؤمن بوجود الله الخالق، أو تنكر البعث والنشور، وأنت تحوز على درجة الأستاذية في أي علم تطبيقي أو نظري من أعرق جامعات العالم، هل وضع كهذا يرضيك؟ فكر مليّا.
مَن سبب جهلنا وتخلفنا؟
بلا تردد أو طول تفكير، فإن سبب الجهل والتخلف وعدم مواكبة عجلة التطور العلمي والتقني في بلادنا، هو الغرب المتسلط؛ فأوروبا احتلت بلادنا، ونهبت ثرواتنا وأذلت شعوبنا، وأزهقت ملايين الأرواح في بلادنا، ولم تعمل على تطوير الصحة أو التعليم فيها؛ بل سلمتها إلى طغم دكتاتورية ترعى مصالحها، وورث الأمريكان دور الأوروبيين، فحرصوا منهجيا على تقوية قبضة الاستبداد، وتغوّل أجهزة أمنه وطغيانه، وحال هذا بالضرورة دون تطور المجتمعات والمؤسسات، وما زال الأمريكان والغرب عموما خير من رعى الاستبداد، وفوق ذلك أقاموا إسرائيل، وما زالوا يدعمونها، ولكم أن ترجعوا إلى أي مصدر علمي رصين للاطلاع على حجم الكارثة، التي تسببت بها هذه الخطوة الكارثية، وتأثيرها على مستويات التنمية المختلفة (سياسية واقتصادية وتعليمية واجتماعية) في المنطقة، والكارثة مستمرة.
وفي حين ينعم الغرب بنظم عمادها الديمقراطية وتكافؤ الفرص والشفافية، يمنع الغرب بوسائل تأثيره الناعمة والخشنة، أن يكون لنا شيء من هذه الأشياء التي نمدحها ونتمناها عندنا.
فسياسة الغرب الثابتة -ولو سمعنا منه تصريحات إعلامية مخادعة- هي بناء وتبني الأنظمة الدكتاتورية، وتقديم كل الدعم لها سياسيا وأمنيا واقتصاديا، وإذا كانوا يعطون لبعض منا حق اللجوء السياسي، فإنهم في المقابل يسندون من كانوا السبب بتحوّل هؤلاء إلى لاجئين مشردين من أوطانهم، فتذكروا هذه الحقيقة.
مساهمتنا ليست بسيطة
المجهود الحربي لبريطانيا ساهمت فيه الهند ومصر اللتان اكتوتا بنيران احتلال الإنجليز، والمساهمة كانت في الموارد والثروات المنهوبة والعناصر البشرية التي كانت ضرورية في الحرب، وفي الحربين الكونيتين، فإن الأفارقة -ومنهم مسلمون- وعرب شمال أفريقيا دفعوا من ثرواتهم ودماء أبنائهم ثمنا باهظا لا يمكن أن يعوّض في مجهود فرنسا الحربي.
وإذا كان علينا نسيان هذا الماضي، مع أنه يجب ألا يغيب لحظة عن ذاكرتنا، كي نتخلص من عقدة النقص، ونتوقف عن جلد الذات؛ فلنتذكر الرئيس الفرنسي ماكرون في خضم جائحة كورونا حين سأل مجموعة من الأطباء من أين أنتم فتبين أن معظمهم من العرب والمسلمين.
هذا المشهد غيبه بعض المتثاقفين عندنا، وشرعوا يدافعون عن ماكرون، وينتقدون دعوات مقاطعة المنتجات الفرنسية، بعد تطاول ماكرون على أعظم إنسان، بإصراره على نشر الرسوم المسيئة له، صلى الله على سيدنا محمد. وهو بهذا يسيء إلى شريحة من مجتمعه، وليس فقط إلى جزء مهم من العالم، وهذه الشريحة تساهم في علاج المرضى، وتحريك عجلة الاقتصاد.
وبالتالي ليس كل المهاجرين إلى بلاد الغرب ينتظرون صرف بدلات البطالة من الدولة، ويعيشون عالة هناك، فهم لهم مساهمات وبصمات واضحة في العلوم والطب والاقتصاد في البلاد الغربية التي هاجروا إليها، ولولا ويلات الاستبداد والفقر التي سببها الغرب لما وجدت ما نسبته واحد في الألف منهم، يفكر في ترك وطنه.
كما أن البلاد الأوروبية هرمت وشاخت وتحتاج إلى دماء جديدة، فالمنفعة متبادلة، كما أن هناك أعمالا أو مهنا يقبلها المهاجرون ويأنف أو يتعالى عليها الغربيون؛ وهذا ما صرخ به مسؤولون ألمان قبل 30 عاما في وجه النازيين الجدد، وبالتالي هم لم يفتحوا أبواب بلادهم للمهاجرين العرب والمسلمين حبا وكرما، بقدر ما في ذلك مصلحة لهم، والدليل أن بعض الدول الأوروبية تعاملت أجهزتها؛ بل حتى صحفيين منها بكل وحشية وعنف مع المهاجرين، حتى الذين يمرون مرورا من أراضيها؛ لكن لدينا من لا يرى في (الروم) إلا وجها مشرقا ويدا حانية ومدينة فاضلة.
الثمن مدفوع.. والبضاعة صينية
في ثمانينيات القرن الماضي وما قبلها، كنت تجد كثيرا من البضائع اليابانية والأوروبية والأميركية في بلادنا، طبعا علينا التذكير أن اليابان لا تستقبل المهاجرين؛ لكن حاليا لم تعد ترى سوى البضائع الصينية، وقلّما تجد سيارات أميركية، فقد جاءت الكورية مكانها؛ لأن الأمر يتعلق بالتسويق والأسعار والحاجات، وبضائع الصين غزت أوروبا وأميركا أيضا، ومن يذهب منا إلى الصين هدفه التجارة لا اللجوء هناك، كما نعلم، فهل نحن عالة على الصين مثلا؟
وسواء كانت البضائع أميركية أو ألمانية أو صينية أو غير ذلك، فنحن لا نأخذها مجانا؛ بل ندفع ثمنها، وندفع أيضا ثمن هيمنة الشركات العابرة للقارات على حريتنا السياسية، وقدرتنا على إدارة مواردنا والتصرف بثرواتنا.
وللتذكير، فإننا معتدى علينا وحقنا مغموط، فيستكثر بعضنا أن ندعو على من ظلمنا وتسبب في نكبتنا، وزاد بؤسنا، ونحن هنا لا ندعو على من يسعى لابتكار شيء يفيد الإنسانية؛ بل على من يدعم المغتصب، ويسند الطغاة عندنا، ويرسل طائراته لتقصف وتقتل أطفالنا.
كما أن لنا منجزات علمية عظيمة قديمة بنى الأوروبيون عليها، فهذا صنو الحضارة الإنسانية، ولا أقوله من باب التفاخر الفارغ.
لدينا مشكلات وعيوب كثيرة أفرادا ومجتمعات؛ لكن يجب ألا نضع أنفسنا في خانة الخواء المطلق، ولنثق أننا لسنا عالة على العالم، ولا عبئا على الكوكب، وثبت عمليا أنه حين نأخذ فرصتنا أو قليلا منها نسهم كثيرا في الحضارة الإنسانية، مع فارق أن إسهامنا لا يقوم على الاعتداء والسرقة والنهب، ويستظل بالإيمان بالله تعالى حاملين لما كلفنا الله به في الحياة الدنيا.