القرآن والتاريخ الحضاري (1)
محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري
إذا كان الماديون قد أهملوا الإنسان لدرجة أن جعلوه عنصرا غير متفرد من عناصر الطبيعة، وبخسوا قدره لدرجة أن ساووا بينه وبين الأشياء، الوضيع منها والحقير في الكون.. فإن القرآن قد جاء بخلاف ذلك؛ ليكرمه ويحفل به ويحتفي؛ بل ليجعله مدار الأهمية في الكون، ونقطة الارتكاز، ومن سخر له الكون بما فيه؛ حتى قال بعض (الفيزيائيين): “أن الكون قد عد لاستقبال هذا الإنسان وتهيأ لقدومه”.. وسخر له البر والبحر كي يحقق بغية الاستخلاف والإعمار، ويقوم بحق ما أنيط به، ألا وهو تحقيق العبادة لله الواحد وإفراده بها.
فقد جاء القرآن حافلا بتاريخ الكون منذ نشأته، ثم تاريخ الإنسان الذي طرأ عليه، وإن كان نزوله في حقبة زمنية معلومة مشهودة، إلا أنه قد تجاوز هذا الحاجز الزمني القبلي والبعدي، فأوغل في الإخبار حتى ذكر حديث نشأة الكون بشيء من الإيجاز تارة والتفصيل أخرى، ثم ذكر قدوم الإنسان عليه وبداية خلقه بكثير من التفصيل الذي يعجز العقل البشري الآني والبعدي، ويتحدى كشفه المتقدم في الزمن أن يأتي بحجة مباينة لما قدم أو بيان من علم أوضح أو أدق أو أعلم مما أتى بذكره.
وكثيرا ما ينقلنا من بدايات الخلق وأغراضه إلى أخبار الأمم السابقة على مرحلة نزوله، ثم يسقط الحوادث التاريخية على أناس عصره، ويؤكد على نمطية العنصر الإنساني النفسي والعقلي المستعلي بما حف به من النعم ، وما أغدق عليه من الفضائل وما أكسب من مهارة التسخير حتى أسس الحضارة وأسرف في الترف واستغمر في صنائف النعم حتى نسي عهده الأول، فكانت الحضارة سببا في بطره ودافعا إلى تنكره لسابق عهده وحكمة خلقه، فينسى ويبطر وينكر ويدحض ويجحد، ثم يشام بأنفه أن جعل له من الملك وأن أجرى له الأنهار وألهم من العقل والعلم ما سخر به السهل والبحر.
ينقلنا القرآن بين حوادث التاريخ غير معني بسنيها وتواريخها إنما فقط بالعبرة المستخلصة ، والدرس المستفاد، والوقفة المعتبرة والقلب المتفقه المتذكر، والسمع المصغي، والعين المبصرة؛ يأخذ بأسماعنا وأبصارنا وحواسنا وعقولنا إلى هذا المشهد الذي يتشكل فيه خلقه من النطفة ثم العلقة ثم المضغة إلى أن يغدو على الأرض له وئيد، ودبيب، فيجمع ويمنع ويبطش ويفجر .. فيأتي هذا المشهد العجيب واصفا تكوين الخلق الأول (آدم)، والخلق المتناسل من هذا الماء المهين، وهذا التعدد المرحلي من ضعف إلى ضعف متتابع حتى يصير إلى قوة، ثم إلى ضعف وشيبة .
ثم ينقلنا تارة أخرى إلى التاريخ القادم، أو مشهد النهاية بمعنى أدق، وتفاصيل هذا المشهد الذي يعج بالعجائب من الموت والبعث والنشور والحساب والجنة والنار.. وهذه الحوارات المتناقضة المتعارضة بين أهل الكفر وأهل الإيمان والملائكة والشياطين، واستعراض أمر الحياة الدنيا كأنها يوم أو بعض يوم، أو ساعة من ليل أو نهار، أو أكثر أو أقل (عشية أو ضحاها)، والتنابذ بين الشياطين وأتباعهم والتبرؤ والتنصل وتقاذف التهم .. ثم هذا الاحتفاء والتهاني والتداعي بين أهل الإيمان (المقربين وأهل اليمين) والافتخار بالفوز والفلاح والنعيم.
تعرض القرآن للحضارة البشرية التي شيدها العنصر الإنساني بمعزل عن التوحيد والعلم بالله، خالية من القيم والأخلاق، فجاءت وبالا على أصحابها وأسبابا لإهلاكهم واستبدالهم بقوم آخرين، فجاء ذكر عاد وثمود ومدين وإرم وفرعون ذي الأوتاد، والأنهار والأشجار والجنات والقصور، والنحت والتصوير.. وعن هذه الأسباب التي تقام على أصولها الحضارات، وتعكس صور التمكين للأمم وقوة الاستخلاف وعظم الانصياع الكوني لهم، ثم ما تلبث أن تكون هلكة لأهلها، ودمارا ووبالا على أصحابها إذ لم يذكروا فضل من أنعم عليهم ، وظنوا أن التمكين الذي فتح عليهم كان بما عندهم من العلم، وأن الحياة تعطي بأسبابها بعيدا عن رب الكون وخالق الأسباب، فتكون عاقبة الغرور والغفلة الهلكة والاستبدال.
كذلك يعرض لنا كثيرا من هذا الصراع الأزلي بين إبليس وذريته من طرف، وآدم وذريته من طرف آخر.. فيجلي لنا أسباب هذا الصراع وبداياته ومشهد الاستعداء والتوعد والوعد الذي قطعه الشيطان على نفسه بأن يهلك آدم وذريته إن استطاع لما امتلأت نفسه من الحسد والكبر وحمق الاعتراض على الحكمة الإلهية التي ترفع وتخفض وتكرم وترذل وتصطفي وتبعد بمشيئة سامية لا تشرئب لفهمها نفس بشرية أو ملائكية أو شيطانية إلا أن يفتح ربي من أبواب رحمته علما وفهما!!
هذه المشاهد التاريخية التي تزدان ببراعة السرد وبلاغة الخطاب وفصاحة اللغة وسلاستها، تبز بها كل كتاب تاريخي أتى بعد أو قبل، ثم التوقف لاستخلاص العبرة، مع استحضار كوامن النفس البشرية ونوازعها، واستدعاء حواس الجسد الفطرية لتكون جد حاضرة لاستيعاب الدرس من خلال حضور العقل واستماع القلب .. هذه العبرة التي تتأتى جلية من هول ما أحاق بالأمم السابقة من الصواعق والنوازل والكسف والخسف، وما من به الله على بعضها من التمكين والتوريث والاستبدال من حال الضعف إلى مواطن القوة، وامتلاك الأسباب وتسخير الطاقات البشرية والكونية بما أسلموا وآمنوا وأقاموا منهج الله في أنفسهم وفي الأرض التي مكنوا بها.
نستعرض بعضا من رحلة القرآن التاريخية الثرية الحاضرة ابدا بين أيدينا، وإن انتهت أحداثها وغبرت أشخاصها في ثنايا التاريخ وطي صفحاته، إلا أن المشاهد حاضرة في سطور الكتاب، وقوانينها وسننها لا تعرف التغيير ولا التحويل .. لنرى من أنفسنا من خلال هذه المشاهد والحوادث ونعرف أماكننا من التاريخ والتمكين وما ينتظرنا في قوابل الأيام والتاريخ والحوادث.