الخيار الإبداعي عند شاعر المقاومة أشرف حشيش ج٢

ثناء حاج صالح | شاعرة وناقدة سورية

ثانيا: المستوى الأيديولوجي

علينا أن نلاحظ أولا أن شاعرنا قد أظهر في شعره تمسكه بالعقيدة الإسلامية إظهارا قويا.
بحيث أنه جعله أحد مفاخره الشخصية .
وبمقارنة هذه السمة مع ما هي عليه عند شعراء المقاومة الأوائل سنكتشف ضعفها وهزالتها عندهم ومعظمهم منتمون إلى الحزب الشيوعي الملحد. ولقد كان تنصلهم من العقيدة وضعفهم فيها كفيلا بإضعاف التفاف الجماهير المسلمة حولهم.
لولا طاقاتهم الإبداعية العبقرية العالية التي قدموا فيها بدائلهم الأيديولوجية المبهرة النابعة من روح المقاومة والتي التصقت بضمير الإنسان الفلسطيني ومعاناته في الداخل والخارج.والتي فجروها في الوجدان العربي اليائس على المستوى النفسي الجماعي، فأثمر ذلك في دفع الجماهير المتعطشة للأمل لقراءة أشعارهم السياسية بوصفها الخيار الوحيد لإنعاش الروح المعنوية المنهارة لدى للمتلقي العربي ،في وقت خلت فيه الساحة الأدبية إلا من البكاء والعويل واليأس منذ ما أعقب النكبة الفلسطينية عام 1948 وحتى الظهور الساطع والمتألق ﻷدب المقاومة الفلسطينية الحداثي خلال فترة الستينيات من القرن العشرين.وخاصة ما بعد النكسة عام 1967.
فهم من أحيا الأمل وهم من عالج جراح الكرامة العربية بالتحدي والصمود وإيقاد جذوة المقاومة وهم من عبر عن معاناة المنكوبين الذين تجاهلتهم البشرية وحكامها.
وقد فعلوا كل ذلك بلغة شاعرية شفافة بسيطة فهمها كل من سمعها فامتلكت وجدانه.
ولا شك أن سمات البساطة التعبيرية والسلاسة الإيقاعية والالتصاق بمعاناة الإنسان الفلسطيني وبالأحداث الميدانية على الأرض هي من أهم وأبرز ما اعتنى به الشاعر أشرف حشيش وحافظ عليه من زخم الإرث الشعري الذي حصل عليه من شعراء المقاومة.
وسنحاول في هذه القراءة استكشاف خياراته الإبداعية التي تبرز من خلال الخصائص الفنية والأيديولوجية الأبرز في قصائده .
ولا شك أن هذه الخصائص هي ما دعت بعض المعجبين بشعره لتلقيبه (بالشاعر النهر )، هذا اللقب الذي يعكس السلاسة الإيقاعية والتدفق العاطفي الصادق المشبع بالتحدي والانتماء والولاء.
غير أن الخصوصية في أسلوبه تتبدى في التفاصيل الجمالبة الناعمة التي تترتب على خياراته الإبداعية.
1- تأكيد الشخصية القوية للشاعر :
معظم نصوص الشاعر أشرف حشيش تؤكد حضور الشخصية القوية للشاعر الإنسان صاحب النص من خلال ولائه للأرض وتفاعله مع الحدث الحي المقاوم فوقها.
2-العتاب:
يتلازم استخدام الضمير الشخصي ( أنا) عند الشاعر مع استخدامه ضمير المخاطبة المؤنثة (أنت ،أو كاف المخاطبة) ولكن هذه ال(أنت )ليست امرأة . بل هي الأرض المعشوقة. هي (فلسطين ) التي يلح الشاعر في تأكيد انتمائه إليها بتكرار مخاطبتها وتكراره في معظم نصوصه بلهجة قوية ممزوجة بعتاب مستمر . وبهذا العتاب المسكون بالولاء والانتماء يتمكن الشاعر من فصم تلك الشخصية المخاطبة (المزدوجة) إلى شخصيتين، تمثل إحداهما الأرض المعشوقة بينما تمثل الأخرى شخصية أنثوية مستبدة غيرمعينة تحاول تجاهل حضور الشاعر وطمس تأثيره.
في قصيدته( أنا موطني لغةٌ وأمّي ثورةٌ )
يقول الشاعر :
مــــا دام تــاريـخـي يـثـيـرُكِ عـــاودي … فــيــه الــمــرورَ , ولـــو كــطـاغٍ مـــاردِ
ثـم اطـرحي “الـطبريّ” جـنبا واتـركي … مـــا قالـه عـنّـي وعـنـك “الـواقـدي
وروائــــعُ الأحــــداثِ أســفــرَ نـبـضُـها … عــن ألــفِ نــصٍ فـي عـرينِ قـصائدي
كيف اختلفتِ معي على الصوتِ الذي … غــنّـاكِ فـــي وطــن الـغـرام الـخـالدِ؟
في البيت الأول يوجه الشاعر الخطاب لشخصية أنثوية غامضة يطالبها بمعاودة قراءة تاريخه الذي يثيرها، حتى ولو كانت تلك القراءة متصفة بالطغيان. ومادام التاريخ تاريخه هو ،والطغيان محتمل منها فسوف يبعد عن ذهن المتلقي أن تكون المخاطبة هي الأرض الفلسطينية.
لكن الشاعر الذي يستحضر التاريخ عبر ذكره المؤرخين الطبري والواقدي في كتابيهما “تاريخ الطبري(تاريخ الغزاة والممالك )و (فتوح الشام ) مع تأكيده أنهما قد كتبا عنهما معا يعيد المتلقي إلى احتمال كونها الأرض .

أيـخـاصـم الـطـيـرُ الـفـضاءَ ولــم يـكـن … لــــولا الــفـضـاء بــشـاهـقٍ وبـسـائـدِ
ومــتـى الـبـطولة خـاصـمت فـرسـانها … هــل فـي مـلاحم أمّـتي مـن شـاهدِ
فـــأنــا وأنـــــت حــكــايـةٌ أضــواؤهــا … شــعّـت إلـــى الـدنـيـا بـلـفـظٍ واحــدِ
ولأنـــتِ فـــي قـلـبـي وإن عـانـدتني … ســأظـل طـــوع الـنـبض غـيـر مـعـاندِ

وهي تعانده وهو باق غير معاند لها .وهو صبور عليها لين معها. على العكس مما كان عليه في مطلع القصيدة.
أهـدي الـزهور لـمن أحـب وفـي يديْ … ســيــفٌ يـطـاوعـهُ طــويـلُ الـسـاعـدِ
وفــتـحـتُ نــافــذة الــتـفـاؤل حــالـمـا … فـــي فــرحـةٍ تــأتـي بـبـسمةِ عـائـد
لــيَ صـولـةٌ فـيـها يـراسـلني الـشذا … مـتـخـطـيا بـالـعـطـر ســـور الـحـاسـدِ
فــي نـظرتي الأمـل الـمغامر لـم يـزل … يَـقِـظـا,وغمض الــطـرف لـيـس بــواردِ .

فلماذا إذن استخدم الشاعر لهجة العتاب القاسية في البيت الأول؟؟؟
لا شك أن الإيحاء بمخاطبة الأنثى (المرأة ) بلهجة العتاب كان تقنية فنية ناجحة من الشاعر لشد المتلقي وجذبه لمتابعة القراءة .

3- لا غزل أنثوي :
ولا شك أننا نحاول البحث عن ظلال المرأة في هذا الخطاب الإبداعي الغامض .غير أن بحثنا لن يصل إلى مستقر نقف فيه على خطاب يبتعد كثيرا عن العتاب. كما هو الحال مع محمود درويش الذي مزج في شعره الغزلي بين الحبيبة (المراة )وبين فلسطين .
فالخطاب الموجه للمرأة الخالصة في شعر أ. أشرف حشيش ليس غزليا – وإن كان قد كتب بعض قصائد الغزل . لكن الغزل ليس هو الغرض عنده حتما. ونوضح ذلك في موضعه. ليس الغزل موضوعا متكررا وملازما لتجربته الإبداعية . والشاعر يوضح ذلك تماما
(أنا ليس لي في الحب )
فيقول:
أقـيـمـي بـوجـداني وإن شـئـت غــادري … وكُــفّـي ظــنـون الــسـوء لــسـتُ بــغـادر

سـقيتُ عـطاش الـحب صـدق عواطفي … وأطــلــقــتُ لـــلأفـــراح مــلــيــون طـــائــر

حـملتُ عـلى الـطاغي سيوف قصائدي … وكــنـتُ صـــراخ الــحـق فـــي ركــب ثـائـر

أخــــفُّ عــلــى خــيــل الـتـفـاؤل حـالـمـا … بـــعـــودة مــاضـيـنـا لــنــجـدة حـــاضــري

وأحــمــلُ قــنـديـل الـيـقـيـن بـمـسـلكي … ومــــا خـــاب فـــيّ الــظـن بالله نــاصـري

فــكـيـف اسـتـفـزّتـني الــظّـبـاء بـمـكـرها … وهـــــل كــنــتُ مــنـقـادا لــنـظـرة مــاكــر

أقـــــول لــمــن طــــاب الــغــرام بـقـلـبـها … أنـا لـيس لـي في الحب..منّي فحاذري

ويقول في أخرى
_________________________________
لا زلْتُ وحدي مبحرا فلعلني=أرسو بأحلامي على الشطآنِ
ونجحتُ في صدّ اللحاظ بخبرة=ما فسّرتْ قدراتها العينانِ
(رادارُ) إحساسي تنبّه باكرا=لدخول عينك ملعب الخفقانِ
(القدسُ) كل عواطفي . ما أمهلتْ=غزلا لزنبقة ولا بستانِ
لا تأمني جو البراءة إنني= عفت الهوى إلا هوى الأوطانِ

ومن المتوقع للشاعر مع هذا الخيار الإبداعي القاسي أن يضيق على نفسه مجال التصوير الفني الإبداعي الذي يتيحه شعر الغزل . وأن يحد من طاقة لغته الشعرية . لكن تقنيته الفنية الذكية في استخدام أسلوب خطاب العتاب الحميم الموجه للمخاطبة المؤنثة الغامضة الحاضرة بوصفها الأرض حينا ، وبوصفها تلك الشخصية غير المنصفة حينا آخر قد عوض تعويضا تاما عن غياب المرأة الحقيقية الخالصة مع مجانبة شعر الغزل .
ومع تكرار تلك التقنية الفنية بدت أشبه بالسمة الفنية في أسلوبه الفني . فنحن نجدها في العديد من قصائده
فالوطن هو الحبيبة نفسها عند الشاعر باعتراف واضح منه.
كما في قصيدة ( تطاول ليل البعد )

أصـبّرُ نـفسي فـي انتظار حبيبتي … إلـى أن يُـقضّي الله مـا كان قاضيا

فليلاك في “تيماء” يا “قيسُ” دارها … ولـيلاي “واقـدساه” ضـاقت لـما بيا
والشعر إنما يكتب للحبيبة الوطن. يقول في قصيدة (فلتصرفي عنّي العيون ) :
_________________
أزعمتِ أنّ الشعر كان خيالُهُ = زَهوا وأنّ فضاءَه تغريدُ
أو أنّ من جاش الحنينُ بصدره = فَرِحٌ . يخطّ الحرفَ وهو سعيدُ
أو أنّ من تبكي البلادُ بعينه = يهوى ارتشاف عذابه ويريدُ
الشعر “يا بعدي” وكم جوّدتُهُ = لكنهُ لم يشفه التجويدُ
ما زال مكتئبا كقلبٍ حبيبهِ = وقروحُهُ بين السطورِ تزيدُ
فلتصرفي عنّي العيونَ فإنها = أدبٌ يليق بحسنها التجديدُ
وأنا قديم الطّرف سهم نواظري = خبرتْ بلاغته المها والغيدُ
يا هذه لا تبعثيه بنظرةٍ =عشواء . لحظي عشقُهُ التسديدُ
وطني بدايتنا وآخر نبضنا = فيه نقولُ قصيدنا ونعيدُ

لكن حتى عندما يتجنب شاعرنا مخاطبة المؤنث في الوطن، نراه ما يزال مصرا على لهجة العتاب القاسية والحميمة في آن معا.
يقول في قصيدته ( كن حبيبي ظالمي )
…..
يتبع بإذن الله

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى