الخيار الإبداعي عند شاعر المقاومة أشرف حشيش ج٣

ثناء حاج صالح | شاعرة وناقدة سورية

في قصيدة (كن حبيبي ظالمي ) يمكن للقارئ المتابع أن يتلمس سر العتاب الذي يلازم أسلوب الشاعر في خطابه لوطن أحله محل الحبيبة من قلب الرجل. .
فهنا يسقط الشاعر ضوءا معنويا على حالة نفسية يمكننا عدها خصيصة نفسية عند الإنسان الفلسطيني القلق الذي مكث في الداخل معاندا ظروف إكراهه على المغادرة.فتكبد في النتيجة عناء زعزعته وتشبثه قلقا حرمه الحلم بحياة هادئة طبيعية هي أبسط حقوق البشر .

الليل مشتاقٌ لنبرةِ حالمِ = والحرفُ مخنوقٌ بحزنِ حمائمي

أين الخيال . وسهرةٌ ورديّةٌ = ثملتْ روائحها بعطر نسائمي ؟

فمبعث العتاب هو معاناة الإحساس بالفرق الضخم بين وطنه وأوطان الآخرين.
هكذا وطن وصل فيه الليل إلى حد الاشتياق لسماع نبرة إنسان حالم يعيش طبيعته الإنسانية كما في ليل أي وطن آخر. وكم قبل الاشتياق من حرمان وافتقاد أبطل النبرة الحالمة
. هكذا وطن مخنوق جعل حمائم الشاعر تختنق بالحزن بدل أن تطير وتتنفس بحرية، لا بد أنه يستحق العتاب. فنبضة قلبه قادرة باهتزازها على هز مدائن من اللهفة عند الشاعر. وهل تهتز المدائن والعواصم إلا بالزلزال.

وطني وما أخلفتُ قلبك نبضةً = هزّتْ مدائن لهفتي وعواصمي

ولأن الشاعر لن يترجم تفاعله مع وطنه وانفعاله به إلا بالحب والولاء . فإنه يصبح في عرف المتنكرين له( مجرما) مصنفا في تلك اللائحة .وهو بعد محب لجرائمه في حبه وولائه اشتياقه .
ترجمتها حُبّا وصرت مُصنّفا = في عُرفِ مَنْ خانوا بحبّ جرائمي

ما زلتُ في درب اشتياقك هائما = هلّا رأفتَ بحال قلبٍ هائمِ

ومبعث العتاب إذن ، أن الشاعر مايزال هو نفسه الإنسان الذي يحتاج ككل الناس في كل الأوطان ﻷن يعيش بهدوء على الرغم من أوجاعه.

وأحدّثُ الأوجاعَ: إنّ بخاطري = كالناس. في وطنٍ وعيشٍ ناعمِ

وأين العيش الناعم عند من يسخر أنينه ليمثل أنين الوطن، ويسخر عينيه ليذرف عبرهما الوطن دموعه؟ وهو المتحمل نتائج ضياع الوطن، أو ضياعه هو بسبب ضياع الوطن؟

أَسمِعْتَ أنّاتي ؟ ذرفتَ بأعيني؟ = وعَرَفتَ ما فعل الضياع بعَالَمي

ما هذه الدنيا إذا حدّثتها= عن موطني. ردّتْ بهمٍّ دائمِ

كل هذا الظلم الذي يعيشه الإنسان الفلسطيني بسبب هم الوطن الدائم الذي لا مفر منه يستحق العتاب.

فإذا ظلمتك في المحبة ردّها = ضعفا عليَّ . وكن حبيبي ظالمي

يقبل الشاعر ظلم الوطن ﻷنه هو الحبيب .
لكن قبوله لا يعني سوى الاستسلام لقدر حبه والولاء له .

4- التفاعل مع الحدث الميداني

ينتمي الشاعر أ.أشرف حشيش إلى فئة الشعراء الذين يعولون على الوظيفة التفاعلية لشعر الحدث في التواصل مع المتلقي وفي التأثير في الواقع في آن معا.
فليس عالم الشعر عنده أعز من الواقع. ولا الواقع عنده مكرس لكي يستلهم في سبيل الشعر.
هذا الخيار الإبداعي الذي يسخر فيه الشعر لخدمة الواقع وتفعيله .لا يقلل من شأن الشعر ولكنه يعظم من شأن الواقع حتى يصبح الشعر أشد ضآلة أمام مرارة الواقع.وبهذا التعظيم لمرارة الواقع نستدل على عظمة وعمق الشعور بالانتماء عند الشاعر وشدة رهافة حساسيته تجاه قضية الأمة التي ملأت وجدانه حتى لم يتسع معها لسواها.
لذا فإن تقييم الشاعر أشرف حشيش لوظيفة الشعر العربي المعاصر يرتبط بمدى قدرته على تفعيل الواقع وخدمة قضية الأمة.فإن لم يؤد الشعر وظبفة التفاعل مع الواقع وتفعيله فليذهب إلى الجحيم .وليسكت الشعراء قاطبة .
خــلِّ مـوج الـقريض خـلِّ الـبِحارا … خـلِّ كـلَّ الـحروف تـلق انتحارا
لا تُــعِــرْ لـلـمُـعـلّقات اهـتـمـامـا … لا تُــعِــرْهــا قـــــراءةً وادّكـــــارا
واعـتبرْ مـن فـحولِها ,كيفَ خَلّوا؟ … مُـقـلـةَ الـشـعرِ تـشـتكيهِ مــرارا
قـــد سُـلـبـنا بـلادَنـا ,مــا عـلـينا … لــو يُــذرّى الـقـصيدُ فـيـها غُـبارا
مــا عـلـينا ونـحـن نُـذبـحُ جـهـرا … إنْ ذبحتمْ “زُهير سُلْمى ” جَهارا
فلماذا يكتب الشاعر أشرف حشيش الشعر ؟
هو لا يكتب الشعر لينال حظا من الشهرة . ولا لينال حظا من شهوات النفس الأخرى.

مـا لي بشعري مطلبٌ في شُهرةْ … أو فـــي تــوسّـلِ لـفـتـةٍ أو نـظـرَةْ

أو فــــي إثــــارةِ كــاعــبٍ فـتـانـةٍ … أو فــي اسـتـمالةِ ظـبيةٍ أو مُـهرة

قـــد يـكـتبون بـخـام حـبـرٍ فـاسـدٍ … وأنــا دَمِــيْ حـبـرٌ يـضـيء الـفكْرةْ

يمثل شعر أشرف حشيش ما يشبه وكالة أنباء فريدة مختصة بإلقاء كل ضوء باهر على مضمون كل خبر عاجل من أخبار الثورة ،التي لا تخمد في الروح الفلسطينية . وفي أنباء شعره التفاصيل المباشرة التي تجسم لحظات انتعاش تلك الروح ، وهي بكامل حيويتها وعنفوانها في أثناء وقوع الحدث. وأشرف حشيش يقتنصها ويعيد صياغتها بالتغذية الراجعة إلى الواقع.
وهذه من أبرز السمات الأيديولوجية والفنية التي وسم بها شعره من ناحية المضمون، كما من ناحية الأسلوب المباشر السهل والقوي والحميم، والذي يتلاءم تماما مع نبض الميدان ونبض الشارع الفلسطيني الثائر المقاوم .
وعندما نقرأ قصيدته (من حيث سدوا الدرب مر الثائر ) وهو يخاطب الشهيد (مصباح أبو صبيح ) سنعلم لماذا يكتب أشرف حشيش الشعر .

إن لم أخطك في الحياة قصيدة = ما كنت معترفا بأني شاعر

في هذه القصيدة كما في كثير غيرها ،يمكننا أن نلتهب بحرارة العواطف وعنفوانها ونحن نصعد عاليا إلى قمة التحدي وقمة الفداء وقمة الولاء والانتماء . ثم نغادر القصيدة ونحن ما نزال في الأعلى .

من حيث سدوا الدرب مر الثائر = والمسجد الأقصى بشوق ناظر

إن تمنعوني القدس جئت مدججا = والروح تسبقني وقلبي طائر

مصباح نور قد تخطا وهمهم = وعلى اليمين خناجر وبواتر

كان الصهاينة قد منعوا الشهيد (مصباح) من الصلاة في المسجد الأقصى ، ومن زيارة القدس القديمة .
فمن هنا مر الثائر ، من القدس التي منعوه منها . والتي نفذ فيها عمليته الاستشهادية .
وكان المسجد الأقصى على مقربة منه ، وكان ناظرا إليه يراقبه بشوق.
وكان لسان حاله يتحداهم بأنه قد جاء مدججا إلى القدس التي منعوه منها .
جاء مدججا وروحه تسبقه إليه وقلبه يطير طيرانا لسرعة حبه الوصول إليها .
مصباح لم يتحدهم فقط. بل هو قد تجاوز وهمهم بقدرتهم على منعه من القدس . وها هو الآن في القدس على الرغم من أسلحتهم التي تترصد حركاته عن شماله ويمينه.

القدس أهدته الغرام بطولة = أما الوغى فكساه منه مفاخر

وظفرت من حصن العدو بضربة = ولأنت من حز الرقاب لظافر

الله ما أحلاه يوم زفافه = عضت على الرشاش منه خناصر

لا تطفئوا حلما بفضل ضيائه = وغرامه عاد الزمان الغابر
طلبت جنان الله رأسك مهرها = يا من لحور العين رحت تصاهر

أشعلت نار الثأر يا أسد الورى = والصبح يشهد أن نورك ثائر

إن لم أخطك في الحياة قصيدة = ما كنت معترفا بأني شاعر

ونحن نراجع سجل قصائده فنقرأ سجل الأحداث ونقرأ أسماء الشهداء وأسماء عملياتهم.
فالشهيد مصباح أبو صبيح و الشهيد فادي قنبر، وعمليات الدهس في القدس، والطفل الذي قتله التكفيريون في حلب ،والانتفاضة في الخليل ،وغير ذلك من الأحداث كل ذلك موثق توثيقا حميما في ألوان من التدفق العاطفي الذي يبدو غريبا جدا عندما يقارن ببساطة اللغة وسهولتها مع سلاسة التراكيب وانسياب الإيقاع وعذوبته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى