تحولات الموقف الإسرائيلي من سوريا: من العمل لتقسيم البلد إلى التسليم ببقاء النظام

نهاد أبو غوش | عضو المجلس الوطني الفلسطيني

انشغلت إسرائيل وحكومتها وصحافتها خلال الأسبوع الماضي بأخبار الفتاة من مستوطنة موديعين التي اجتازت الحدود إلى سوريا، وجرت مبادلتها بما لا يعرف أحد على وجه التأكيد. في البداية تسربت الأنباء عن اجتماع سري وغامض للحكومة، ثم اتضحت الأمور نسبيا بشكل تدريجي: يجري نقاش موضوع إنساني له علاقة بسوريا، هنا اندلعت الشائعات، بين قائل أنهم قتلى عملية السلطان يعقوب، إلى من يتحدث عن جثة الجاسوس الإسرائيلي الشهير إيلي كوهين الذي أعدمته سوريا في العام 1965. وسبق ذلك تداول أنباء عن عمليات بحث وحفريات روسية في مقابر مخيم اليرموك، وقد عمدت الحكومة الإسرائيلية إلى فرض حظر على النشر مكتفية بالصدى الأولي الذي أحدثه الخبر عن البعد الإنساني في الموضوع. بعد وقت وجيز تبين أن الموضوع يتصل بالفتاة الهاربة، وقيل أن صفقة أبرمت بعد تدخل الروس بمبادلة الفتاة مع أسيرين سوريين من الجولان السوري المحتل هما نهال المقت شقيقة الأسير المحرر البارز صدقي المقت، والأسير ذياب قهموز، ليتبين بعد ذلك أن نهال المقت ليست أسيرة أصلا، وأنها هي وقهموز يرفضان الإبعاد إلى سوريا، بعدها انتشرت قصة الإفراج عن راعيين سوريين اجتازا الحدود بالخطأ، ووسط هذه الفوضى، وفيما يشبه الكوميديا السوداء برزت قضية قيام إسرائيل بدفع أثمان لقاحات الكورونا التي قدمتها روسيا لحليفتها سوريا، في الوقت الذي لا يخلو فيه شهر من غارة إسرائيلية على سوريا، ولا توجد منطقة في سوريا إلا وقد أمطرتها الطائرات بمختلف أنواع القذائف والصواريخ، التي استهدفت مخازن أسلحة، أو أرتالا متحركة، أو معسكرات تدريب، وغالبا تدعي إسرائيل أنها تستهدف تجمعات أو قوافل تابعة لحرس الثورة الإيراني أو ميليشيات تابعة لحزب الله اللبناني.

القضية حظيت بتغطية واسعة غلبت عليها السخرية في الصحف الإسرائيلية، فالمعلق البارز ناحوم بارنيع وصف كلا من الرئيس بوتين والرئيس السوري ورئيس الوزراء بنيامين نتانياهو بالأم تيريزا، متهكما من الإنسانية التي هبطت فجأة على الجميع.

معروف أن نتانياهو لا يفوّت أي فرصة مهما بدت صغيرة إلا ويستثمرها في دعايته الانتخابية وتحسين فرص بقائه في السلطة، وإظهار نفسه بمظهر الأب العطوف على الإسرائيليين، فعل ذلك حين بذل جهودا خاصة واستثنائية لإطلاق سراح الفتاة الإسرائيلية المتهمة بحيازة المخدرات نعمة يسسخار والتي كانت مسجونة في روسيا، واصطحبها بنفسه على طائرته من موسكو إلى تل أبيب، واللافت أن نتانياهو لا يبدي مثل هذه اللفتات الإنسانية حين يكون الثمن السياسي باهظا وقد يؤثر على شعبيته كما هي الحال بالنسبة لصفقة الإفراج عن الأسرى والجثامين المحتجزة في غزة.

لكن موضوع الاتفاق الملفّع بالغموض مع سوريا بشان الفتاة من مستوطنة موديعين، التي يبدو أنها هربت من أهلها ومن بيئتها الدينية المتشددة، وسبق لها أن حاولت الهروب إلى غزة، يعيد تسليط الأضواء على العلاقات الملتبسة والإشكالية بين إسرائيل وسوريا، ويكشف الغطاء عن قدر من التغيير في الموقف الإسرائيلي الرسمي من النظام السوري وهو الموقف الذي تحوّل من العداء المكشوف وترقّب سقوط النظام ودعم خصومه وخاصة جبهة النصرة المتشددة التي هي الفرع السوري لتنظيم القاعدة، إلى موقف اقل ما يصفه القول بتسليم إسرائيل ببقاء النظام السوري بعد عشر سنوات من الحرب الأهلية الطاحنة، كما تشير الواقعة على حقيقتين اثنتين في غاية الأهمية، الأولى هي مركزية الدور الذي تلعبه روسيا في سوريا سواء في الوقت الحالي أو ما يمكن أن تلعبه هذه الدولة مستقبلا في التوسط بين سوريا وإسرائيل، والثانية هي استخدام إسرائيل لأداة جديدة من أدوات قوتها الناعمة، وهي لقاحات الكورونا هذه المرة، سواء بنقل عينات من المخزون الفائض لدى إسرائيل، أو دفع ثمنها كما في حالة سوريا، حيث نقل موقع سبوتنيك الروسي بالعربية عن مصادر إسرائيلية، أن إسرائيل تعتزم إهداء 19 دولة صديقة بينها دولة موريتانيا العربية، كميات من لقاحات الكورونا تتراوح بين ألف وخمسة آلاف جرعة، مقابل مواقف سياسية داعمة لإسرائيل من هذه الدول ومن بينها هندوراس وغواتيمالا، والمجر وجمهورية التشيك، مع العلم أن الإجراءات البيروقراطية الإسرائيلي وتحكمها بالمعابر الفلسطينية ما زالت تعيق حصول ملايين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة على مثل هذه المطاعيم.

بالتزامن مع قضية الفتاة الهاربة، وقع ما هو أهم ولكنه لم يحظ بتغطية إعلامية مماثلة، ففي تصريحات لشبكة سي.إن.إن في التاسع من شهر شباط الجاري، امتنع وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكين عن إظهار تأييده لقرار الرئيس الأميركي السابق ترامب بشأن السيادة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل، مكتفيا بتفهم الأهمية الأمنية لهضبة الجولان بالنسبة لإسرائيل، وقال “الأسئلة القانونية شيء آخر”، كما ربط الأمر بتطورات الأوضاع في سوريا وتوقف التهديدات التي يشكلها النظام السوري وحلفاؤه لإسرائيل.

نتانياهو ردّ على الفور وقال في بيان أصدره مكتبه وفي لغة أقرب إلى مناكفة بلينكين وإدارة بايدن أن “هضبة الجولان سوف تبقى إلى الأبد جزءا من دولة إسرائيل”.

طوال فترة الأزمة السورية المحتدمة والتي ستنهي عقدا كاملا من السنوات في منتصف آذار المقبل، تدخلت أطراف دولية وإقليمية كثيرة، سواء بشكل عسكري ومادي مباشر كما فعلت إسرائيل وروسيا والولايات المتحدة وإيران وتركيا وحزب الله وميليشيات أخرى متعددة الانتماءات، أو بشكل مالي وسياسي واستخباري كما كان دور السعودية وقطر والإمارات ومصر وحتى الأردن، وكان الدور الإسرائيلي مرتبطا بمصالح إسرائيل نفسها وبمستقبلها وحساباتها الإستراتيجية، وقد تعددت أشكال التدخل الإسرائيلي في الأزمة السورية وإن كان أبرز أشكال هذا التدخل وأكثرها وضوحا هو التدخل العسكري الذي استهدف بشكل خاص قوات النظام السوري وحلفائه وخاصة الإيرانيين وحزب الله، كما اتخذ التدخل الإسرائيلي شكل الدعم السافر والغريب لتنظيم جبهة النصرة، التي سيطرت قواتها بين العامين 2014 و 2018 على أجزاء واسعة من محافظتي درعا والقنيطرة، وبالتحديد على المناطق المتاخمة للجولان السوري المحتل، في البداية زعمت المصادر الإسرائيلية أنها تخشى من وجود هذا التنظيم المصنف إرهابيا في العالم كله على حدودها المباشرة، لكن المخاوف سرعان ما تبددت، وتكشفت أشكال عدة للدعم الإسرائيلي لجبهة النصرة أبرزها تقديم المساعدات الطبية والعلاج لجرحى التنظيم، وبالتحديد في مستشفى زيف في صفد، وتقديم الدعم اللوجستي، وخاصة التسليحي والتزويد بالذخائر للتنظيم، والضرب المتكرر لمحاولات النظام محاصرة هذه القوات والقضاء عليها كما فعل في كثير من تجمعاتها في باقي المحافظات، حيث ظلت مواقع تنظيم جبهة النصرة المحاذية للمناطق المحتلة، آخر معاقل التنظيم التي سيطر عليها قبل إبرام اتفاق نقل عناصره إلى محافظة إدلب .

من الواضح أن إسرائيل كانت معنية بإضعاف الدولة السورية واستنزافها إلى الحد الأقصى الممكن. في بداية الأزمة، وبحسب تقرير مدار الاستراتيجي لعام 2012، رجحت التقديرات الإسرائيلية التي تتوقع انهيارا وشيكا للنظام السوري على غرار باقي الأنظمة العربية التي انهارت تحت ضربات الربيع العربي. لكن الخوف ظل قائما من وقوع الفوضى ومجيء سلطات راديكالية وإسلامية متطرفة، ومع تشابه مواقف إسرائيل ومخاوفها من تأثير ثورات الربيع العربي، يلحظ التقرير تميز موقف إسرائيل تجاه ما يجري في سوريا، حيث أن الموقف أكثر وضوحا وسلبي في الأساس، بسبب مواقف النظام التاريخية من إسرائيل وتحالفه مع إيران، وفي حين دعا بعض السياسيين مثل أفيغدور ليبرمان إلى التأييد الصريح لإسقاط النظام السوري، ظل موقف نتانياهو (الذي عاصرت حكوماته المتعاقبة كل مراحل الأزمة السورية) حذرا مع استمرار الحرص على إضعاف النظام وتحاشي وقوع الفوضى الشاملة، وفي بدايات الأزمة وجدت إسرائيل مصلحتها في استمرار غرق سوريا في الفوضى لأن ذلك سوف يشطب سوريا من معادلة القوة التي تواجهها إسرائيل في الشرق الأوسط (تقرير مدار لعام 2013 من إعداد فادي نحاس) واختلال ميزان القوى الإقليمي في غير صالح إيران بحسب تقديرات المحللين الإسرائيليين في بدايات الأزمة.

الموقف الإسرائيلي المبطن من إضعاف الدولة السورية وإنهاكها وتشجيع عوامل تقسيمها وتفتيتها، لا يختلف عن مساعي إسرائيل السابقة ودعمها لتقسيم لبنان وقيام دويلات وكيانات مارونية ودرزية وسنية، وتقسيم غيره من الدول العربية كالعراق إلى دويلات طائفية وإثنية وعرقية، في الحالة السورية يبدو التقسيم نموذجيا لطموحات إسرائيل، التي ستبدو لو حصل ذلك دولة “يهودية” طبيعية ومنسجمة مع محيطها من الدويلات الدينية والطائفية والمذهبية.

كما أن تأجيج الصراع السوري الداخلي، يساهم في تهميش وإضعاف الاهتمام بالقضية الفلسطينية من جهة، ويعزز رغبة إسرائيل وحكامها بتصدر الهموم والهواجس الأمنية على حساب كل ما عداها من قضايا وملفات كموضوع التسوية السياسية، ويزكي مطالبها الدائمة بضمان تفوقها العسكري النوعي، وحاجتها إلى حدود آمنة و”يمكن الدفاع عنها” حتى لو كانت مقتطعة ومحتلة من أراضي الآخرين، أما الجائزة الكبرى التي ستحصل عليها إسرائيل من تقسيم الدولة السورية، فهي هضبة الجولان السوري المحتل، التي ستسقط كثمرة ناضجة في حضن إسرائيل طالما أن الدويلات والكيانات السورية المتصارعة سوف تواصل مقاتلة بعضها البعض، وسيفقد كل منها شرعية وأهلية المطالبة بعودة الجولان المحتل.

ومع استمرار صمود النظام السوري في وجه التحديات العاصفة، تحول القلق الإسرائيلي إلى تعاظم نفوذ إيران وحزب الله في سوريا، وزيادة القدرات العسكرية وخاصة الصاروخية للحزب اللبناني وحصوله على مزيد من الأسلحة سواء من إيران عبر سوريا، أو حتى من مخازن الجيش السوري التي كان بعضها مشرعا أمام سيطرة قوى المعارضة.

عاما بعد عام، ومع تطور الأحداث الدامية في سوريا، وعلى الرغم من استمرار وجود قوات عسكرية أميركية في سوريا وتحديدا في المناطق الصحراوية على الحدود مع العراق وكذلك في المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية الكردية شمال شرق سوريا، وكذلك وجود قوات تركية في عمق الأراضي السورية، واستمرار سيطرة قوى المعارضة المسلحة على معظم محافظة إدلب وعدد من الجيوب في محافظات حلب وحماة. إلا أن الغلبة باتت تميل بشكل واضح وتدريجي لصالح النظام المدعوم بقوة من روسيا التي تدخلت بشكل مباشر في القتال، وكذلك من إيران وحزب الله اللبناني، ومن بعض التشكيلات الميليشيوية العراقية. وهذا دفع إسرائيل إلى نوع من التسليم ببقاء نظام بشار الأسد، والإقرار بأن روسيا باتت لاعبا رئيسا، وربما تصبح اللاعب الأهم في منطقة الشرق الأوسط في حال استمرار الانكفاء الأميركي عن هذه المنطقة المضطربة. وهذا التسليم دفع إسرائيل إلى وضع خطوط حمر جديدة، كما يورد تقرير مدار الاستراتيجي لعام 2017، في باب “المشهد السياسي والعسكري” الذي أعده أنطوان شلحت، حيث باتت إسرائيل تضع انسحاب إيران، وعدم بقاء أي وجود عسكري لها في سوريا شرطا لأية تسوية مقبلة في هذا البلد.

وتراهن إسرائيل على أن الدور الروسي المتعاظم في سوريا سوف يمكنها دائما من إيجاد طرق ومداخل مناسبة للحديث مع الروس أو التفاهم معهم حول ضرورة تأمين المصالح الأمنية الإسرائيلية في أية تسوية أو وضع قد ينشا مستقبلا في سوريا بدعم الروس، ومردّ هذا الرهان يكمن من دون شك في شبكة العلاقات والمصالح المشتركة والمتداخلة بين روسيا وإسرائيل والتي تشمل جوانب اقتصادية واجتماعية وثقافية وأمنية واسعة ومتعددة، وتسمح مثل هذه التشابكات لإسرائيل حتى بمواصلة القيام بأعمال عسكرية وشن هجمات تستهدف بشكل خاص القوات الإيرانية من دون الاقتراب من مناطق عمل القوات الروسية وضرورة إبلاغها المسبق عن مثل هذه التحركات حسب المصادر الإسرائيلية التي سبق لها تبرير مسؤوليتها عن سقوط طائرة روسية في أيلول 2018 على يد المضادات الأرضية السورية، وادعت إسرائيل وقتها أنها أبلغت روسيا مسبقا عن تحركها لكن روسيا رفضت التبرير في حينه وحملت إسرائيل المسؤولية عن سقوط الطائرة ما دفع نتانياهو لاحقا للاعتذار. ويبدو أن تشعب العلاقات الروسية الإسرائيلية واتساعها باتت تشمل مجالات هي من صميم الاختصاصات الداخلية والسيادية للدول، ففي ذروة أزمة الفتاة الهاربة من موديعين، نقل موقع “يسرائيل ديفينس” في نشرته يوم العاشر من شباط الجاري، أن كبار قادة إسرائيل هاتفوا في وقت متقارب نظراءهم الروس، فنتانياهو هاتف الرئيس بوتين، ووزير الخارجية أشكنازي هاتف الوزير سيرجي لافروف، ووزير الدفاع بيني غانتس تحدث مع وزير الدفاع الروسي سيرجي شويغو بشأن التحديات الأمنية التي تواجه البلدين ومنها على سبيل المثال كيفية الحد من محاولات المحكمة الجنائية الدولية التأثير على قدرة البلدين في محاربة الإرهاب! وفي المناسبة عينها كتب الوزير أشكنازي قائلا أنه أجرى محادثة مثمرة مع لافروف تركزت على سبل منع إيران من الوصول إلى إنتاج سلاح نووي، ومنعها كذلك من توطيد نفوذها في المنطقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى