هل ترسم الصين عالم الألفية الثالثة؟
د. أحمد رفيق عوض | رام الله – فلسطين
الدبلوماسية الهادئة واللغة المحايدة إلى حد الاستفزاز والتسلل الناعم إلى دول العالم وقاراته، هي ما قد يلحظه المراقب للوهلة الأولى في السياسة الصينية، حيث تشكل السياسات الصينية بكل حمولتها الثقافية والاقتصادية والسياسية وحتى الأمنية سياقا مختلفا عما نعرفه لدى الغرب الاستعماري الذي تقوم سياسته على التدخل العنيف والنفي الكامل لكل ما هو ليس غربياً أو شبيها بالغرب.
الصين تقدم نموذجاً آخر للعالم، يقوم على مبدأ المشاركة والمنفعة المتبادلة والمقايضة والتقاسم دون محاولة التحقير والاستبعاد أو الاستعباد أو تغيير الثقافات أو الأنظمة.
حتى لا تكون هذه المقالة المكثفة تبدو وكأنها تشيد بالصين وسياستها، فإنني أستبق ذلك بالقول إن هناك كثيرا من أوجه النقد القاسي يوجه إلى هذه السياسات داخليا أو خارجيا.
لكنني في هذه المقالة أريد أن أقول أن الصين – مثل كل قوة عالمية – لا بد لها في لحظة ما من التمدد وبسط النفوذ والخروج إلى العالم، تماما مثل كل قوة تتصاعد وتكبر وتكتشف أن حدودها الطبيعية لا تكفيها، إما لتضخم رأس مالها أو طلباً لثروات جديدة أو طمعاً في مزيد من الحماية أو لوعي ورسالة تنشر.
الامبراطوريات الكبرى لا بد لها من مغادرة حدودها بسبب فائض القوة أو فائض المال أو فائض الوعي. وهذا ما يجري في الصين التي زاوجت بين اشتراكية داخلية ورأسمالية خارجية بطريقة ربما لا يجيدها إلا الصينيون، فهي لم تصطدم بالبيروقراطية الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي المنهار ولم يلحق بها أعراض التكلس والتصلب، ولم تضطر أن تعالج ذلك في انتهاج سياسات غير مضمونة، فقد ظلت اشتراكية داخل حدودها، ولكنها تعاملت مع العالم بعقلٍ تجاري رأسمالي محترف، وبهذا استطاعت الصين أن تجعل من الدخل القومي والفردي رقما مدهشاً بين الأمم.
التجربة الصينية الناجحة أو المثيرة للعجب قد تكون بسبب الثقافة الشعبية القائمة على الطاعة والتراتبية وقد تكون بسبب حديدية الحزب الشيوعي الحاكم وقد تكون بسبب الخزان البشري والطبيعي في الأرض الصينية وقد تكون بسبب التاريخ والموقع الجغرافي والتجانس العرقي، وقد يكون كل ذلك أيضاً.
هذه التجربة الناجحة تخرج الآن إلى العالم عن طريق التجارة، يعني بناء طرق مواصلات طويلة معقدة ومتشابكة تتألف من آلف الكيلومترات من الأسفلت وعشرات الموانئ ومئات المطارات في قارات الدنيا. يجب أن نشير هنا أن التجارة بما تحمل من قيم وثقافات وتعاون واتفاقيات كانت من أهم وسائل الانتشار وبسط النفوذ الثقافي والروحي، فما الذي أوصل الثقافة العربية الإسلامية إلى مجاهل أفريقيا وإلى سواحل جنوب أسيا سوى التجار والمتصوفة.
وها هي الصين، تخرج إلى العالم مرة أخرى تجارً لا يرغبون في الاستعمار أو تغيير النظم ولا يصدرون الديموقراطية ولا أكاذيب الليبرالية الحديثة ولا طرائق الفنون الاباحية ولا سينما متحللة، ولا انحيازٍلاحتلالات او قمع بشر، أو ابتزاز أنظمة أو تخويفها أو حصارها، إنما تنطلق الى العالم بلغة منخفضة تقوم كما اسلفنا على المشاركة والتعاون، ولان التاجر يريد أن يستثمر في اجواء هادئة ومستقرة، فإن الصين تجد أن من مصلحتها أن تساهم في حل النزاعات بالقدر الذي لا تتورط فيها، ولهذا فهي تستعمل لغة فيها حياد كثير، ولكن هذه الصورة الوردية ليست حقيقية أيضا فالصين تعرف أنها لا تتاجر وحدها في العالم، ولا تستثمر فيه بدون منافسين، ولهذا، فإن هذه التوجه الناعم قد يقود إلى تصرف خشن تماماً، ليس لأنها تريد ولكن لأن منافسيها قد يجرونها إلى ذلك.
ان الاتفاقيات التي تعقدها الصين في إيران ودول اسيوية كثيرة وكذلك في قلب افريقيا، ستعجل من لحظة الاشتباك مع قوى الغرب الاستعماري. ان الاتفاق الاخير مع إيران سيضع خارطة جديدة لإقليم عربي مختلف ينذر بصدمات اخرى، المشكلة هنا أن الصين لا يمكنها أن تربح كل الأطراف أو أن تحيد كل الأحلاف.
لا تستطيع الصين أن تعقد اتفاقا مع إيران ثم تعقد اخر مع إسرائيل، كما أنها لا تستطيع أن تعقد اتفاقا مع إسرائيل، فيما هي تنافس الولايات المتحدة.
فهل اتفاق الصين مع إيران سيدفع بعض الدول العربية إلى وقف تعاونها معها؟! وهل اتفاقها مع إيران سيضر بالعلاقات التكنولوجية مع إسرائيل؟
الصين بالنسبة لنا نحن الفلسطينيين دولة عظمى تساندنا في الهيئات الدولية وتقف إلى جانبنا وتغطينا دبلوماسيا، وكان آخر مآثرها إرسالها لقاحات لوباء كورونا المستشري في مجتمعنا.
ونحن في معرض المقارنة، نقول إن الصين رغم رغبتها الواضحة بتقليل احتكاكها بالمنافسين ورغم سياستها القائمة على التعاون والتنمية وتبادل المصالح إلا أنها ستجد نفسها عاجلا ام اجلا تغرق في مشاكل العالم أكثر فأكثر،فأعداؤها لا يملكون صبرها ولا حكمتها.
أخيرً، الصين صاعدة وقادمة، وهي تقدم تصورا ًعالمياً جديداً لا يقوم على الاستعمار وإنما على الاستثمار، وعلى الشراكة لا الانتهاك، تقدم الصين رؤية أخرى غير تلك التي عرفناها منذ منتصف القرن العشرين. فهل تنجح الصين في أن تقود الالفية الثالثة بأقل ما يمكن من الحروب؟