قراءة في قصيدة هديل الغياب للشاعر عبد الحق بن سالم (1)

طارق المأمون | أديب سوداني

أولا – القصيدة

حَما بِصَدْرِكَ وَجْدٌ لَيْسَ يَبتردُ
وَ باحَ سِرَّكَ دمع منكَ يَطّرِدُ

|||

وَ حلَّ لحظَكَ سُهْدٌ لا انْتِهاءَ لَهُ
وَ زادَ بَرْحَكَ حظٌّ مالَ يَبْتَعِدُ

|||

هَذا هَديلُ فِراقٍ ناح مُشْتَكِياً
بَرْدَ الغِيابِ و بُعْداً يَشتَهيه غَدُ

|||

نَقْراً عَلى دفّة الإحساسِ حَلَّ أسىً
كَيْفَ السَّبيلُ لِمَنْ يُصْغي و يَتّقِدُ

|||

هبَّ اشتياقي و عاد القلبَ يسأله
عن حسرةٍ خلّفت في الحزْنِ ما أجِدُ

|||

و قال يُخْبِرهُ: هاجتْ عيون النوى
و لا عزاء لنا في العمر يُلتَحَدُ

|||

يا راحِلا تشْعَلُ الوجدانَ فُرْقَتُه
قضيتَ للقلب جُرْحاً نَزْفُهُ أبَدُ

|||

جعلت للسهد و الأحزان بي وطنا
بكل ما في الأسى من لوعة يَعِدُ

|||

أحْبابَ قَلْبِيَ لِلأَيّامِ دائِرَةٌ
تطوي بنهب و سلبٍ كلما تجِدُ

|||

أنتم غنائمُها تلك التي نهبَتْ
غصْباً فما ينجلي من بعدكم كَمَدُ

|||

لهْفي على الأنس منكم يا ندى عُمُري
ما ذاق من مثله مُسْتأنِساً أحَدُ

|||

هَلْ نستعيدُ أمانينا التي ذَهَبَتْ
أمْ تَنْتهي أمَلاً قد لا تطولُ يَدُ

|||

زَمان وَصْلٍ روى الإحساسَ مِنْ دَعَةٍ
كَأنَّهُ في ندى أيامِهِ رَغَدُ

|||

مَضى كطرفة لحظٍ تارِكاً أثَراً
مِنْ داعيات الهوى يفنى بِهِ كَبِدُ

|||

حَديثُ سِرّي وَ جَهْري وَ انْتِظارُ غَدي
هَلْ يُسْعِفُ الرّوحَ مِنْ إمْدادِهِ مَدَدُ

|||

ذِكْرى تُهَيِّجُ بي ما أشعَلَتْ حُرَقي
هَذا وَ ما يَنْتَهي مِنْ ذِكْرِها خَلَدُ

(على البسيط)

الفكر الذي في القصيدة غلب العاطفة وإن كانت العاطفة هي سبب القصيدة و مضمارها ولا أدري أهذا يحسب لها أم عليها ؟و لكني أرى اجتهاد مفكر حركه قلبه فطاوعته القافية. و الشواهد كثيرة. منها:

حَما بِصَدْرِكَ وَجْدٌ لَيْسَ يَبتردُ
وَ باحَ سِرَّكَ دمع منكَ يَطّرِدُ

وَ حلَّ لحظَكَ سُهْدٌ لا انْتِهاءَ لَهُ
وَ زادَ بَرْحَكَ حظٌّ مالَ يَبْتَعِدُ

حما بصدرك أي احتر والوجد عهده الإحترار والحميان، واطراد الدمع تتابع سيلانه و الدموع خلقها فضح هوى صاحبها ، و من بغيها أنها لا تفضح غير الهوى ، فكل ما سواه مباح معلن سواء أعلنت عنه أم كتمته وبعض وجد القلوب مندوب الدموع ، و العرب يخفون هواهم خوفا على من يحبونه وعلى أنفسهم إلا القارح المقدام ؛ و الخطاب من الشاعر لنفسه يلومها أو يعزيها أو يندب حظها و لا ت ساعة مندم أو معزى، و التُّؤدةُ بمعنى التأَنِّي في الأَمر فأَصلها وُأَدَةٌ مثل التُّكَأَةِ أَصلها وُكَأَةٌ فقلبت الواو تاء؛ ومنه يقال: اتَّئدْ يا فتى، وقد اتَّأَدَ يَتَّئِدُ اتَّئاداً إِذا تَأَنَّى في الأَمر هكذا في لسان العرب؛ و أجدني أخالف أستاذي محمد ثمار الذي أشار بـ(ليس يبترد) بدلا من (ليس يتئد) على الشاعر (أردت بـ ” ليس يتّئد ” أنّه مستعجل في إحماء الصّدر برأيي لو استعملت ” ليس يبترد ” لكان أنسب..) ، كما قبلها شاعرنا بصدر رحب جميل ، أقول (ليس يبترد) لا أراها أضافت جديدا ، فإن بداية صدر البيت أكدت هذا الحميان ونهايته أكدت اضطراده ودوامه، ولعل أستاذي و أخي “محمد ثمار” أراد بها أنه لا يفتر أي “حميان الصدر” فيبرد بل يزيد مضطردا و التاء في يبترد امعان في ابتراد ليس يفعله، والزيادة في الحرف تزكي الزيادة في الوصف ونفيها بمقدار وصفها . ولكن “ليس يتئد” في رأيي تعطي معانى الإستمرارية والسرعة والموران أكثر من المقابلة بليس يبترد فالأولى كسبت قوتها من إقدامها والثانية تقوّت بإحجامها و الإقدام أقوى من الإحجام ، وهو ما عنيت به الفكر الذي صاحب كتابة البيت هنا، فإن كاتبها اختار مفردته بعناية بحيث تعطي شيئا جديدا يضاف الى البيت. و قد أكد معناه عجز البيت الثاني حين قال:

و زاد برحك حظ مال يبتعد

فالزيادة تؤكد عدم الإتئاد ويبتعد تفيد نفس المراد.وكلمة مال رغم عامية استخدامها فإنها تشير الى عدم توافق مع المأمول و الميل حيود عن التمام. وهو في ميلانه يبتعد، والرياضي يعلم أن شدة الميلان تبتعد حتى تقترب. فتعيد الوضع الى أصله عند اكتمال الميل فإن أبعد ميل عن الصفر هو عند الزاوية 360 درجة والتي تطابق الصفر نفسه ، وليت قيس ليلى علمها لما قال لمن جاءه بخبرها :إن حب ليلى أغناني عن ليلى …. ولو ذهن لها شاعرنا لما شكى ابتعاد ميل الحظ ولكن الصبر عند الصدمة الأولى وأنى لها من قلب عاشق موجود.

هَذا هَديلُ فِراقٍ ناح مُشْتَكِياً
بَرْدَ الغِيابِ و بُعْداً يَشتَهيه غَدُ

وقد تحيرت أول أمري من الهديل في مكان العويل ومن البرد في موقع الاحترار وقد نصَّ الجاحظ: “هَدَلَ يهدِل هديلًا. فإذا طرَّب، قيل غرّد يغرِّدُ تغريدًا.”
والعرب اشتقت اسم الحَمام من الحميم و هو القريب الأودُ ، والشاعر جعل الهديل صوت الفراق وهو العدو الألدُ، غير أن العرب ذاتها كانت تحرك صوت اليمام والحمام لاستدرار الشجو على الفراق لما في صوتها من شجن لا تخطئه أذن فهذا ابوفراس :

أقُولُ وَقَدْ نَاحَتْ بِقُرْبي حمامَة

أيا جارتا هل تشعرين بحالي؟
معاذَ الهوى ماذقتِ طارقة َ النوى

وَلا خَطَرَتْ مِنكِ الهُمُومُ ببالِ
لقد كنتُ أولى منكِ بالدمعِ مقلة 

وَلَكِنّ دَمْعي في الحَوَادِثِ غَالِ!

و قال البندنيجي

ناحت مطوَّقة بباب الطاق

فجرت سوابقُ دمعيَ المِهراق
حنَّت إلى أرض الحجاز بحرقة

تُشجي فؤادَ الهائم المشتاق
تعس الفراق وجذَّ حبل وتينه

وسقاه من سمِّ الأساود ساقي
بي مثلُ ما بك يا حمامة فاسألي

من فكّ أسرَك أن يفكَّ وثاقي

والأساود جمع الأسود مفرده وهو ثعبان عظيم يسميه الهنود “الكوبرا” ويسميه بعض سكان بادياتنا في السودان “كرو كرو”، ومن عجب أن أهالي البادية ينجون من لدغاتها فلا يموتون إلا قليلا ، منهم أما غيرهم من غير سكانها فيموت من لدغتها إلا قليلا منهم ، بيد أنها تخشى فتهرب من مكان وجوده فمن شكى الثعابين في فنائه فعليه بالسنانير .و الشبلي

رُبَّ وَرقاءَ هتوفٍ في الضُحى

ذاتِ شَجوٍ صَدَحت في فَنَنِ
ذكرتْ إِلفًا ودهرًا صالحًا

فبكت حُزنًا وهاجت حَزَني
أتراها بالبكا مولعةً

أم سقاها البَينُ ما جرّعني

و قد انتبه شوقي لهذا فسخره في قصيدته فقال:

يمامتان في الحجاز حلتا على فنن
الى أن وصل
هب جنة الخلد اليمن لا شيء يعدل الوطن.

و ما هو إلا ما قاله البندنيجي:

إن الحمائم لم تزل بحنينها

قِدْمًا تبكّي أعين العشاق

والسؤال نسوقه بعيد قليل على لسان المعري لعل شاعرنا يشفي لنا غليلا إن أجاب عليه ، ولكننا نتساءل قبله لم وصف الشاعر الغياب بالبرد و هو يشتكي حمو الصدر و اشتعاله ؟
وأجيب عنه بأنه الفكر الذي عنيته ، فإن الغياب كائن منعزل عن الشاعر وعاطفته، أصابه البرد أي الغياب مما حدا بأن يوقد المراجل في قلب الشاعر الولهان. فهي علاقة مطردة تتناسب وحالة الغياب يزيد الغياب بردا فيزيد قلب الشاعر اضطراما ولظى ، ترى ألو قيل “برد الحضور” أيهما أوقع للمعنى أو “فيح الغياب” أو قيظه مثلا فالحضور بارد كالميت و الغياب حاضر فهو متقد كاتقاد قلب الشاعر ؟؟ ليت من قرأها يشاركنا الرأي، وللشاعر أن يحتج ألم يقل ابن الدمينة قبلا يصف صبا نجد البارد بأنه من يحمي عليه شوقه و يزيده كما زاد برد الغياب غليان الوجد في قلب شاعرنا.

ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد
لقد زادني مسراك وجداً على وجد

والفكر يتجلى في البيت الذي يلي هديل القمري الموجع ليشرح لنا :

نَقْراً عَلى دفّة الإحساسِ حَلَّ أسىً
كَيْفَ السَّبيلُ لِمَنْ يُصْغي و يَتّقِ

ولماذا يصغي إن كان يتقد وليجب ابن عبد ربه الاندلسي هذه المرة عنه و عن قبيل الشعراء:

وإن ارتياحي من بكاء حمامةٍ

كذي شجنٍ داويته بشجون
كأن حمام الأيك لما تجاوبت

حزينٌ بكى من رحمة لحزين.

ويبقى سؤال المعري الذي أجلناه يطرق باب فكر شاعرنا وفكر كل شاعر يستنطق الحمام أن يجيب عليه..أبكت تلكم الحمامة أم غنت على فرع غصنها المياد

ومن طريف اختلاف العرب اختلافهم في الفرق بين الحمام واليمام فمن قائل يقول بوحشية الأولى وأنسية الثانية، وقائل يعكس ذلك، وقائل يجعل الفارق طوقها على عنقها، فذات الطوق حمامة والأخرى يمامة وقولَ الشَّافعيِّ “المشهورُ أنَّ اسم الحمام يقع على كلِّ ما عبَّ وهدَرَ، فمنه صِغارٌ وكبارٌ، ويدخل فيه اليمامُ -وهي الّتي تألف البيوت- والقُمْرِيُّ والفاختةُ والدَّاس والفاسُ والقطا…” و قال: “الطَّائِرُ صِنْفانِ: حَمامٌ وَغَيْرُ حَمامٍ، فَما كانَ مِنْهُ حَمامًا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى فَفِدْيَةُ الحَمَامَةِ مِنْهُ شَاةٌ” يريد فِدْيةُ قتل الحمامة في الحرَم.
والجوهري جعل الدواجن التي تستفرخ كلها حماما.. والخلاف صفحت فيه الكتب لمن أراده، والشيء بالشيء يذكر….

يتبع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى