قراءة الوجود المرئي والخيالي.. في ديوان “جدارية أخرى” للشاعر هشام محمود
د.هشام محفوظ | القاهرة
أكاد أجزم بأن كتب الشعر – من دواوين لشعراء من مختلف عصور الشعر، وكتابات نقدية لنقاد من مختلف مدارس النقد ومذاهبه – بكل ما تزخر به من مادة لها ثقلها وأهميتها الإنسانية والتاريخية والفكرية والاجتماعية والثقافية، تمثل ركنا مهما من أركان المكتبة العربية قديما وحديثا.
فالشعر ديوان العرب، ويستحوذ على منزلة أثيرة ومميزة بالوجدان الجمعي العربي والإنساني، ولدى المثقفين في الشرق والغرب على حد سواء.
نجد ذلك في كتب كبار أدباء اللغة العربية، المحدثين والمعاصرين، نجد ذلك الاهتمام بالشعر والشعراء واضحا في حياتهم الخاصة، وفي عطائهم الأدبي والفكري وسيرهم الذاتية، وفي المصادر الكبرى للتراجم، مثل: الشعر والشعراء لابن قتيبة، والأغاني للأصفهاني، ويتيمة الدهر للثعالبي، ووفيات الأعيان لابن خلكان، والبيان والتبيين للجاحظ، والعمدة لابن رشيق..، وتطول قائمة الاستشهادات لو أسهبنا في سرد أسماء دراسات المعاصرين والمحدثين في مجال الإبداع الشعري ذاته، أو حول منطوقاته النصية.
قديما كان الدارسون والمؤرخون يعتمدون في تاريخ الوقائع والأحداث ودراسة الأوضاع الاجتماعية والثقافية، يعتمدون على الشعراء الذين تركوا بصماتهم في الحياة، وإبداعاتهم الشعرية، حيث كانت تتم دراسة هذه الإبداعات، لما لها من صلة بالأوضاع التي كانت سائدة إبان حياة المبدع، لكننا اليوم نتلقى خطابات شعرية أصحابها مفرطون في شغفهم بالرمز وعمق الخيال، وهو شعور ناتج عن أسباب ربما ترجع إلى اتساع الاطلاع الفلسفي، وعلوم العصر، والتقنيات العلمية الحديثة، ومعارك مواقع التواصل الاجتماعي..
عندما تكون القصيدة من منطلق اللامحدود من وشائج الصلة بالتاريخ وبالحاضر، واستشرافات المستقبل البعيد، أو بما يحتوي عليه من تساؤلات غاضبة أو غامضة؛ فإن هذه القصيدة تكون أقرب إلى النص المتحرر، مثلما صادفني في ذلك ديوان الشاعر هشام محمود “جدارية أخرى”
يقول هشام محمود:
دونما خجل
لم نخن غدنا.
هل هذه دعوة من الشاعر يقول فيها بشكل غير مباشر إننا بحاجة إلى انتفاضة فكرية وثقافية؛ للمحافظة على هويتنا العربية وإرثنا وتاريخنا، لكي نقدم للأجيال القادمة ما يوقظ ذاكرتنا الجمعية الإبداعية؟ ربما..
ولكن كيف ذلك وكلمة “شعر” على صفحة الغلاف غير متصلة الأحرف؟
الأمر على هذا النحو يشي بأن ثمة خطبا ما قد لحق بالشعر، أو بالشعراء، أو بهما معًا!!
لذا نجد في صورة غلاف الديوان قبعة مفصولة عن الكتفين، لا توجد رقبة ولا توجد رأس، ويبدو الظهر جليا في حضور عتمة شديدة، وكتل تعلو الكتفين من الحجارة أو من الطين، أو ما يشير إلى أن ثمة انفجارا قد حدث للرأس، ولتلك الرقبة، وهذه الكتل الصغيرة المتطايرة حول القبعة الطائرة في الهواء فوق الكتفين، من آثار هذا الانفجار، هل لهذا علاقة بدوامات وأمواج هذا الألم الهائل، المتدافع في عبارات نص “جدارية أخرى”..؟ ربما!!
وهذا أمر وثيق الصلة بتلك الرؤية، التي تنتظم عبارات هذا الديوان، متجلية في منطوقه الشعري.
نحن ـ إذ نقرأ هذا المنطوق الشعري، في ضوء هذا التوزيع التصويري لمفردات التشكيل الغلافي، لهذا الكتاب الشعري ـ نستطيع بشكل أو بآخر قراءة صورة الذات الشاعرة، في ضوء رؤية الآخر..
هناك مؤرقات إنسانية عديدة في الآونة الأخيرة تحار الأبحاث السوسيولوجية في تناولها، ولما أصبح للخيال السوسيولوجي دوره البارز في إعادة النظر في عصرنا الرقمي، تطورت القصيدة نتيجة نوع التساؤلات التي يثيرها الشعراء مع ذواتهم وإبداعهم، فأسهَم كل ذلك في بناء تراكُم كمي ونوعي وثقافي، شكل رؤية شعرية، مع منبثق العقد الأول من الألفية الثانية، وكان لتلك الرؤية أن تزداد عمقًا يومًا بعد يوم، هي رؤية تعتمد المفارقة سبيلًا للتعبير، فالرؤية وفق تعبير أنطون المقدسي في كتاب “الصورة العربية عن الحضارة الأوروبية والاستجابة[1]لهذه الصورة ضمن العلاقات بين الحضارتين العربية والأوروبية” وكذلك وفق ما أورده محمود نسيم في كتابه[2]هي فعل جماعي، إجمالي، عفوي، سابق على التحليل، يتألف من مجموع الصور والتصورات والأفكار والأحكام والمعتقدات والأعراف، في ذهن فرد ما أو جماعة، ويترجمها هذا الفرد أو تلك الجماعة، في مواقف وحركات وسلوكات، والآخر الذي تجسده الصورة هو فعل وذات، وهذا أحد عوامل تحرر نص “جدارية أخرى” للشاعر هشام محمود، الذي يقول في تصدير ديوانه: “كأنه إهداء..
إلى محمود درويش،
اشتباكا معه،
وإعجابا بفكرته،
عن كتابة معلقة،
في جدلية الحياة والموت”.
ويبدو استحضار “محمود درويش” في الإهداء استدعاء لقضيته، التي هي قضيتنا جميعًا، بكل ما يتصل بها من أبعاد إبستيمولوجية، ورهانات عربية وإنسانية مستقبلية، فالنص المتحرر يظهر من محتوى غلافه، الذي يتماس على نحو حيوي مع بنائه الجمالي العام، فكلمة “شعر” متباعدة الأحرف، جاءت منبثة على الغلاف، باللون الأحمر، لذلك نجد في عالم النص الشعري كلمات تقول:
جرح
وظل سحابة عبرت،
زمان لا يلائمه مكان،
نحلة ترفو شعاعا شاحبا،
ومقاتلون مدربون على الهزيمة،
نصف كأس فارغ بيد الهواء،
ونصف سكر،
موعد لم يأن بعد،[3]
في حضور هؤلاء المقاتلين المدربين على الهزيمة، نجد أنفسنا أمام لونية مقصودة، ومفارقة يتم فيها التعبير بما يوحي بتناقض المعنى، أو التنافر، بهدف تعرية اللحظة التي تمر بها ذات الإنسان الآن، وتلك اللونية ينبغي ألا تغيب عن الوعي القرائي، ونحن نقرأ هذا الديوان، واضعين في الاعتبار هذا التوزيع لمفردات وعبارات هذا الديوان “جدارية أخرى”، خاصة وأن المحتوى اللغوي لكلمتي العنوان، هو أيضا باللون الأحمر، وكذلك اسم الشاعر.
وهناك عصر تأثرت فيه العلاقات الإنسانية، نتيجة العديد من التحولات التي تحكمها المصالح، لذلك فالشاعر تكتنفه الأضواء الجارحة، وتخيفه الكنايات، حيث..
“يمضي بلا هدف،
وتتبعه كنايات،
وضوء جارح..”[4]
وكذلك لا يثق في المشاعر، لأنها أصبحت رؤى تقليدية، وتصورات قديمة، تحتاج إلى مراجعات إبستيمولوجية.
إذا قالت لك امرأة: أحبك،
لا تصدق،
ربما ظنت
ـ بمحض خيالها الفطري ـ
أن في الإمكان أسر الظل،
أو ترويض أسئلة المجاز،
وفضلت..
أن يحمل الإيقاع كذبتها،
إلى رجل ملول طيب،
ولربما قالت: أحبك؛
كي تهدد شاعرا..
لم يكترث للموت،[5]
ولماذا يكترث بالموت في عصر رقمي مرعب؟ تحكمه المصالح والبراجماتيات المذهلة، التي أصبحت أكثر تعقيدًا والتباسا..؟!!
إن ديوان “جدارية أخرى” أشبه بنار شديدة التوهج، باحثة عن مخرج لها، يجعلها لا تنطفئ، هذا المَخرج هو المفارقة، بمجازية فارغة، للتعبير عن لحظات التناقض الإنساني الكبرى، وضيق الأرض ـ رغم اتساعها الظاهر، يقول الشاعر:
إذا قالت لك امرأة: كرهتك،
فابتسم،
وانظر بعينيها،
وصدق،
لا مجال هنا لتأويل غريب،
أو مجاز فارغ،
صدق،
وقل للبحر: تكرهني،
وقل للريح،
قل للطير،
قل للنهر والشجر،
ابتسم،
وانظر بعينيها،
وقل: وأنا أحبك،
غير أن الأرض ضيقة،
وإيقاع الكهولة جارح،[6]
الأرض ضيقة في عين الشاعر، لتشابك الهياكل الخرسانية، مع اللامساواة بين قوى العالم، وما يتصل بذلك من تحولات متسارعة، وانتقالات فارقة في الزمان والمكان، ولعل لكل هذا علاقة مفسرة من بعض الوجوه، لأن تأتي كلمة “شعر” غير متصلة الأحرف، وفي ظهر الغلاف الخلفي تأتي هذه الكلمات، تحت صورة فوتوغرافية للشاعر، بنظرة مليئة بالتساؤلات، مترعة بالقلق والارتياب، الذي ربما ينطق بهذه الكلمات، يقول الشاعر:
“حسبتني القصيدةُ لجة،
فكشفت عن ساقيها،
بينما شمس مجازية تسكب ألوانها..
في عين الشاعرِ.
لا لشيء،
إلا لأن البحر رائقٌ،
والموجةَ واثقةٌ في إيقاعها،
بدرجة كافية لجعل السماءِ..
تتحللُ ذاتيًّا”
ونحن ـ إذ نعيش عصرًا يضمد الواقع بيد، ويخدشه بالأخرى ـ نجد أنفسنا تحت “سماء تتحلل ذاتيًّا..!
ولضبط المقصود القرائي لما نعنيه بالنص المتحرر، يتوجب علينا إثبات عدة أشياء ذات صلة بحرية المبدع الإيجابي، ونحن نقدم هذه القراءة الحرة لهذا الديوان:
أولا: روح الشعر في هذا الخطاب الشعري الجمالي، نعم، نحن أمام نص شعري له تميزه في مسار الشعرية العربية، لما فيه من محفزات تدعو القارئ لإعادة النظر في كم من الرؤى التقليدية الشعرية لدى آخرين.
ثانيا: ظهور البناء اللغوي الشعري الخليلي داخل البناء العام للنص، ولعل ذلك من منطلق هذا القول المحكي على المستوى الشعبي، إنه الإخلاص فيما يبدو لقدر من الثابت التاريخي، عملا بقول الأقدمين “من فات قديمه تاه”، ولذلك فإن عين الشعر في “جدارية أخرى” ترصد وتحلل بروح تحترم التاريخ، من منطلق احترام عطاء إخلاص وجهد من سبق، وتحتَ رقم (١٧) أودع الشاعر هشام محمود في خلايا نصه تلك السبيكة الشعرية العمودية:
عبروا وما عبروا لأنهمو
يمضون والإيقاع متهم
وعلى جروح نصالهم سبل
للعابرين وجرحهم لغم
هل بعد حزن الأرض متسع
ولكل حزن يفزع السأم؟
من ألف ألف دم يجردني
هذا النزيف وقبضتي حمم[7]
ويجب ملاحظة تكرار التعبير “عبروا وما عبروا”، لأن النقطة التي علينا أن نصل إليها لم تظهر بعد، وإذا ظهرت فستكون مجرد نقطة تماس، يتوجب التحرك من بعدها للعبور الأمثل المنشود، الذي يجعل الآخر لا يلفظني، ولا يخرجني من حسابات العصر، لذلك نجد القصيدة في “جدارية أخرى” تعاني يُتما مؤلما..! وتلك هي الأزمة في مختصر شعري جمالي:
“لي حجر لأرجمهم،
ووقت لاحتواء الموت،
لي يُتم القصيدة،
واحتفال الروح بي..
جسدا يلائمها،
ولي بيتي القديم؛
لأسند الإيقاع،
لي صمتي المجلجِلُ..
عندما يتكلمون،
وهيكلي العظمي،
يحمل حزنه اليومي،
لي فرحي المؤجلُ،
غرفة التحقيق،
إيقاعات فوضاي البديلة،
شهوة الإفضاء والإيماء،
طعم القبلة الأولى،
ولي صَفارة الإنذارِ،
لي شعر (المعري) و(ابن برد)،
لي حرائق دهشتي،
لي غيمة يرتاح فيها الظلُ،
لي وجهي،
ولي ضوء يخاتلني..
فتجرحه رؤايَ،
ولي صدايَ،
ومعصمي،
وسلاسلي،
والسِجنُ،
والسجانُ،
والقضبان،
لي نثر الفراغ إذا تهيأ،
لي مجازاتي تعيد صياغتي،
وصياغة الأشباه والأضداد،
لي نزف الهواء،
وغُنجُ راقصة الخليفةِ،
والخليفةُ،
وابنه،
وابنُ ابنه،
لي حزبُه،
وأمانة التنظيم،
لي مفتيه،
بصاصوهُ،
جلادوه،
كل كلابهِ،
لي رقعة الشطرنج،
كل عساكري لي،
والفراغ مرابط دوني،
ولي أدوات تعذيبي،
وقصر الحكم،
مارش عسكري في حديقته،
ولي صمتي أمام القصر،
والغاز المسيل للدموع،
ولي احتراقي في موائدهم،
ولي ألا أموت أمام أعينهم..
لئلا يحزنوا،
ولي الخسارة،
كيف أربحُني – إذا – لو شئتُ..؟[8]
إن الإصرار على تكرار كلمة “لي” ينفي أي رجم بالغيب، أو تخمين قرائي، بانقطاع صلة الناص والنص، بتلك اللحظة الإنسانية المشوشة، التي تثير حساسية الإبداع الحقيقي.
وللمحافظة فيما يبدو على هذا الاتصال الجوهري بالوضوح، على الرغم من رمزية الأداء الشعري الموغل في الخيال، قام الناص بضبط أحرف كلمات المحتوى النصي للديوان/ القصيدة، بحيث أظهر علامات الإعراب على جميع حروف كلماته، ربما “لتبقى القصيدة في خدرها المستعار.[9]
ويبدو استحضار “محمود درويش” من شعراء المقاومة، ليس بحثًا عن بيضة الديك، وإنما لإثبات نموذج لمن “عبروا وما عبروا”، لأن الجرح الذي عاش “درويش” من أجل إيقاف نزيفه ما زال، والعالم يقف ساكنًا، وكأنما الدماء العربية النازفة قد تساوت والماء..!!
ثالثا: القصيدة المتحررة من ضيق الرؤية، تحتوي على مجاز مخاتل، الذي يوغل في صناعة الإحساس القرائي، بأنه واقع معيش، مما يندرج تحت مظلة ما يعرف بما هو أغرب من الخيال في هذا الواقع..! يقول الشاعر:
“وكيف يراودك الوقت،
والظل يسكب خمرته..
في فضاء الجسد..؟[10]
ويبدو حضور الخمر في فضاء الجسد، تقريبا للبعيد، ولإنتاج صدمة صحية إيجابية لدى المتلقي، عن طريق هذا الالتباس بما يحيط بعلاقة الخمر بالجسد، فالخمر هنا ـ إذ تستقر في هذا الحيز الجغرافي الخاص، المكون من العظم والجلد واللحم، في حضور الدماء ـ إن هي إلا ما يؤلم الشاعر، من نكوص الذات العربية، وفقدان الوزن المناسب للقوة المنشودة، لتحقيق المناعة العربية الذاتية، لمواجهة أتون تحديات الراهن.
ويقول الشاعر معبرًا عن ضيقه بواقعه الإنساني، الذي لا يحقق لقصيدته أن تعبر إلى ما تنشده كلمات كل شاعر إنسان:
“أضيق من جسدي الواقعي
لذا ستضيق القصيدة بالحب والموت”[11]
رابعا: تماس البناء التقفوي العمودي مع النثر، من حيث التوافق الصوتي لكثير من خواتيم العبارات، فالشاعر يؤكد أننا نمتلك ماضيا، لكن هذا لا يكفي، حيث يحتاج هذا الماضي إلى ما يمكن أن نفعله، ليصبح هذا الماضي قادرا على التعامل والمواجهة مع الحاضر، وكذلك مع المستقبل، كقوة مؤثرة في حماسة واضحة، يمكن أن يطلق عليها (طاقة المواجهة لصياغة عالم جديد أكثر خيرا وجمالا)، أو ما يمكن تسميته بالمناعة الذاتية العربية.
لقد استعاض الشاعر هشام محمود عن العناوين الداخلية في “جدارية أخرى” بالترقيم، فهو نص عام مكون من ستة وأربعين جزءا، وهو أشبه بالحلقات التي يفضي بعضها إلى الآخر، وبقدر تعمق القراءة، نجد اتصالا جوهريا بين كل هذه الأجزاء، إنها ذكريات تنساب على هذا الأساس، يقيم بها الشاعر توازنا يقترب إلى ما يشبه الكمال، الذي يرتبط بإعادة اكتشاف الذات لنقاط القصور، أو هي محاولة لإعادة تشكيل الحياة، في صور أكثر انطلاقا وأكثر حرية وجمالًا.
خامسًا: النص والناص معا في هذا الديوان/ القصيدة “جدارية أخرى”، يحمل موقفا هو أشبه بالتحذير من غوايات الكنايات، وعلى الدارسين أن يبحثوا عن أسباب ضيق شاعر العصر بالواقع والخيال، لقد وصلني هذا الديوان بعد نحو ٥٥ يوما من بداية “طوفان الأقصى”، الذي بدأ في السابع من أكتوبر ٢٠٢٣م، في حين أن الشاعر أثبت أن ديوانه كُتِبَ في أكتوبر ٢٠٠٩م، أي قبل أربعة عشر عامًا من نشره، فهل هذا أيضا من باب “من فات قديمه تاه”..؟ أم من أبواب أخرى يتوجب علينا أن ندلف منها، لمتابعة عطاء قصيدة تلك اللحظة من تاريخنا الإبداعي الشعري المعاصر..؟
يقول الشاعر هشام محمود، في مقطع يحمل رقم (٢٦) من بحر البسيط:
“أنثى تغني هواها وهي تتبعه
إيقاعها في ضمير الغيب موقعه
رواؤها الغض رؤياه وموعده
ووعده وحناياه وأضلعه
يزجي له شفقا ينثال في دمه
وترتجيه – إذا غنى – مسامعه
تراه في غفوة الأضواء منتشيا
إن يبكه فرحهُ تُضحكه أدمعه[12]
ويقول الشاعر معيدًا ترميز الموروث الوجداني الديني، المتعلق بضرب نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ عصاه، فانبجست منها اثنتا عشرة عينا:
“أكمل الشاعر خلق بهجته،
فانبجست من القصيدة عين،
كأنها الجحيم”[13]
إن العين المنبجسة هنا، غير تلك العيون المنبجسة من ضرب نبي الله موسى عصاه، لأن ثمة متغيرات، فالشاعر ليس موسى، وليس مع الشاعر اليوم ما يضرب به في ميدان التداول الحضاري والتقني والثقافي، في ظل سطوة العولمة والفضاء الرقمي، والذكاء الاصطناعي، ومحاولات بعض القوى فرض هيمنة الدولة الواحدة على كل الأصعدة، إنها حقا جحيم، لو كانوا يعلمون..!! يقول الشاعر”
“لم يتغير في هذا العالم شيء،
غيري (تقريبا)،
صرت ملولا أكثر،
وأقل استعدادا..
لتحمل ما يؤلمني،
وبريئا حد الدهشة،
أكثر حبا للورد،
وأكثر حزنا (نوعا ما)،
ما عادت تزعجني..
سطوة هذا النسيان،
ولا فرط الذكرى.[14]
ويقول:
“هأنذا أمضي..
في برزخ وقتي،
أشهد موتي،
وأشاهدُ………..[15]
ويقول استنادًا لتلك المنطلقات، التي تؤسس هذا الراعد الراهن:
“أضحك ملء دمي،
كي يعرفني.. [16]
ومن ثم تستشعر الذات وجودا، هو والموت سواء، يقول الشاعر:
“للموت تبتكر الحياة بريقها الوقتي،
يعرف كل موت كيف يأتي”[17]
ويقول:
“لا إيقاع يفلت من حصار الموت،
حزني جمرة،
والأرض مائدة الجحيم،
إذا سواء موتُنا وغرامُنا،
دمنا ونخب الشمس،
يُتمُ الظل في عين الهواء..”[18]
سادسًا: يثير الديوان جدلًا ـ لم يحسم حتى الآن ـ بين النقاد، حول مدى جدوى تناول النصوص قرائيا، دون فصلها عن الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي كتبت أو أبدعت في أجوائه، وفي ظل أحداثه، يقول الشاعر:
“في الموت يبدو كل شيء ناعما..
وملائما للموت:
نظرتنا إلى الشمس،
اشتعال هوائنا،
وفضولنا،
إيقاع هذا الموت غض ناعم،
لتوحش المعنى يجرده المجازُ،
وقد تطل كناية كيمامة..
لجناحها لغة..
تراود فتنة التأويل عن جسد،
فتأتلق استعارات..
يطيرها نزيف الأبجدية،
واحتفاءُ الظل في أفق يُرائيه.
لأن حصارها الأزليَ..
لا يعني حصارا،
واحتراق مجازها..
يعني حضورا ممكنا للرمز
ـ إذ يبدو كطيف ـ
ليس أكثر.[19]
هذا لأن سطوة هذا الوجود الراعد الراهن البديل، كشفت عن ذاتنا العربية، التي لا تكاد تجاري سرعة الثورة التكنولوجية والرقمية والصناعية الحاصلة الآن على مستوى العالم، ويقول الشاعر:
“أنام لأحلم،
ولِيَشهدَ الواقعيُّ ضآلتهُ..
في خيالِ الخياليِّ،
هل من سبيلٍ..
لأجلد بحرا تبرأ من جسدي..
بعد موتين..؟”[20]
وفي النهاية يمكن القول: إذا كان كل عمل فني عبارة عن مجموعة من الانطباعات المتماسكة في ترتيبها، فعندما يحدث أي تغيير في أي جزء من مجموعة الانطباعات، فإن تأثير التغيير يظهر في كل المجموعة، والعمل الفني لا يميزه عن أي تصوير ميكانيكي لمنظر طبيعي، إلا تماسك ذلك التنظيم، وليس لمجموعة الانطباعات التي تظهر في العمل الفني، كتنظيم واحد، لا تنظيمات كثيرة، يمكن أن يقودنا هذا إلى القول بأن أي تغيير في المجموعة يؤدي إلى اضطراب المجموعة كلها، وليس في جزء واحد فقط”.[21]
وهذا بالضبط ما نجح هشام محمود في تحقيقه في ديوانه “جدارية أخرى” مؤكدًا ما أكده “تي. إس. إليوت” في أكثر من موضع، “أن هم الشاعر ليس نقل الفكرة، بقدر ما هو العثور على معادل عاطفي لهذه الفكرة، وأن وظيفة الشعر ليست فكرية، بل عاطفية، بما لا ينكر الجانب الذهني أو الفكري عند الشعر، فكلما كان الشاعر ذكيا، كان ذلك مدعاة لجودة شعره، وثراء تجربته الفنية.[22]
وهذا موطن الثراء في هذا النص، اللاهث نحو التحرر من هذه المفارقات الإنسانية العالمية، التي يبدو فيها جسد العصر ضامرا نحيلا، وإن زعم الزاعمون فيه القوة والبأس.
(1) الدار التونسيه للنشر – تونس – ص 92،
(2) “المخلص والضحية.. رؤى العالم لدى محمود دياب وصلاح عبد الصبور” – سلسلة كتابات نقدية – الهيئة العامة لقصور الثقافة – عدد 48 – فبراير 1996 – ص 281:
(3) ديوان “جدارية أخرى”، ص ٨.
(4) النص، ص ١٠.
(5) النص، ص ٢٢.
(6) النص، ص ٢٥ و٢٦.
(7) النص، ص ٤٨.
(8) النص، ص٥٤:٥٠.
(9) النص، ص ١٦.
(10) النص، ص ٦٦.
(11) النص، ص ٦٩.
(12) النص، ص ٧٢.
(13) النص، ص ٧٣.
(14) النص، ص ٧٤.
(15) النص، ص ٨٥.
(16) النص، ص ٩١.
(17) النص، ص ١٠٠.
(18) النص، ص ١٠١ و١٠٢
(19) النص، ص ١٠٥ و١٠٦
(20) النص، ص ١١٢ و١١٣
(21) من كتاب “علم الجمال والنقد الحديث” للدكتور عبد العزيز حمودة، الهيئة العامة للكتاب، 1999م، مكتبة الأسرة، مهرجان القراءة للجميع، سلسلة الأعمال الفكرية، ص 48.
(22) السابق، (علم الجمال والنقد الحديث) دكتور عبد العزيز حمودة، ص 132.