عوالم الشعر وفلسفة الوجود
شيخة الفجرية | كاتبة عمانية
الشعرُ تعويذة الخلود في معركة البقاء، من أجل ذلك رصَّع المصريون القدامى جدران أهراماتهم بالأناشيد والأشعار، التي أُطلِقَ عليها تسمية (متون الأهرام)؛ لتسهم في تسهيل معراجهم نحو الخلود. وإذا أردنا تتبع شرارة البداية بالقول: متى كان الشعرُ في الوجود؟
هل كان من أجله أن تضرع زارا دشت (599 _ 521 ق م) إلى ربه قائلًا: “علّمني أيها الرب الحكيم، أفضل الكلمات والأفعال من خلال هيمنة ملكوتك أنت من تجعل الوجود مجدّداً حقاً طبقاً لمشيئتك”؟
ليأتي بعده الشاعر أوفيد(بين عامي 43ق.م- 18م) ابن سولمونه في شرقي روما، الذي أسهب بأشعاره في الحديث عما يليق وما لا يليق إلى أن تم نفيه بين مريديه ومع ذلك صرَّح في كتابه (فن الهوى) بامتعاض “من يقرأ الشعر؟”. ويمكننا عدَّ قول الشاعر أوكتافيو باث تفسيرًا لقول أوفيد؛ إذ يقول: “أي هل هم قلة أو كثرة، لا معنى لـه، لأن هؤلاء القراء، وسواء كانوا قلة أو كثرة، فهم رأس المجتمع وقلبه، إنهم نواته المفكرة والفاعلة”، ويزيدها الشاعر (ت. س. إليوت) تفسيرًا بقوله: “قليلاً ما يهمنا أن يكون لشاعر جمهور كبير من المستمعين في عصره، إن ما يهمنا هو أن يكون له دائماً على الأقل، جمهور قليل من المستمعين في كل جيل”. أما كلمة “عوالم” فقد أتت في لسان العرب: من الجذر (علم). والشعر لغة: فيُعرف في معناه اللغويّ على أنَّه كلُّ كلام موزون ومقفّى، واصطلاحاً فإنَّه: “القول الذي يتألف من أمور تخيلية”، وعناصره: العاطفة، والفِكرة، والخيال، والأسلوب، والنظم.
كان ارتباط الشعر بالفلسفات قديم، ولكن القليلون ممن تَنَبَّه لذلك، أولهم كان أرسطو، الذي فطن للطاقة الفلسفية التي تستبطن جوانية الشعر نفسه؛ فقال: “إن الشعر أكثر تفلسفاً وأهم من التاريخ لأن الشاعر يتعامل مع الكليات”، كما قال الفيلسوف (كيركجارد) أيضًا: “إن الرغبة في المعرفة قد أنستنا معنى الوجود”، ويقول (لوسين): “إن الفلسفة هي وصف التجربة”، بينما يعتبر(لوكاتش) أن الفلسفة “مجرد رؤى للعالم”، و(شاتليه) يعتبرها “مشروع خطاب”. لذلك يقول فريناند ألكييه في كتابه (معنى الفلسفة): “ما من تعريف دقيق للفلسفة في وسعه منذ البداية أن يؤخذ به، وعلى ذلك فإننا مرغمون على القيام ببحثنا بالاعتماد على صيغة مشاعر غامضة”. ويخلص الفيلسوف ألكييه إلى القول: “إن الفلسفة الحقيقية، بحكم ذلك، تبدو موعوداً بها، أكثر مما هي مضمون محدد”.
من كل ذلك يمكننا أن نخلص إلى أن الفلسفة والشعر ينبعان من أصل واحد، وهو قول يكاد يتفق عليه الكثير، وعن ذلك أفلاطون: “إن منبع الفلسفة هو الدهشة”، ويقول أرسطو: “إلى الدهشة التي اعترت الناس يعزى أنهم يبدأون الآن كما بدأوا أول مرة في التفلسف”، وقد يقول قائل، هل كلمة الدهشة تختص بالشعر فقط؟ السؤال منطقي، والدهشة تكمن في كل قول بليغ أكان شعرًا أم نثرًا؛ وإن كان حديث الفلاسفة مقتصر على الشعر في أمر الدهشة. ويذهب الفيلسوف فريناند ألكييه إلى أن الشعر أسبق من الفلسفة، لأنَّ “ما يقوله ويعيشه الفلاسفة، قد عاشه الشعراء وعبروا عنه”، ويقول أيضاً: “إن الشعر في أعلى مستوياته، ليس بخلق، ولكنه اكتشاف ووحي، وعودة إلى حقائق أساسية، ورد واستبعاد لكل المظاهر، لكي نعود إلى الوجود، وتهديم للعالم المصنوع بعاداتنا، طموحاً للكشف عن عالم أكثر صحة، بحيث يمكن الخوف من أن تصبح الفلسفة هي التي تنسى مهمتها، في الحين الذي يظل فيه الشعر وفياً لمهمته”.
أمَّا الوجودية، فتتفق الكثير من المعاجم في تعريف ومعنى الوُجوديّة بأنها:
” اسم مؤنَّث منسوب إلى وُجود، والوُجُودِيَّةُ (بالمعنى الأَعم): فلسفةٌ تَرَى أَنَّ الوُجُودَ سابقٌ على الماهيَّة، والوُجُودِيَّةُ (بالمعنى الأَخص): يذهب (سارتر) إلى أَنها تقوم على الحرّيَّة المطلقة، التي تمكّن الفردَ من أَن يَصنعَ نفسَهُ ويَتّخِذَ موقفَهُ كما يبدو له، تحقيقًا لوجوده الكامل”. وأنها:” مذهب فلسفي يقول بأن الإنسان قد وجد أولًا وجودًا شبه ميتافيزيقي أو ما ورائي، وهو يخلق نفسه بعمله. وقد بني هذا المذهب على آراء الفيلسوف الألماني هايدجر، والفيلسوف الدانماركي كير كجارد، وسواهما”، وعن جذور كلمة الوجود جاء في لسان العرب: “وجَد مطلوبة والشيء يَجِدُه وُجُوداً ويَجُده أَيضاً، بالضم، لغة عامرية لا نظير لها في باب المثال؛ قال لبيد وهو عامريّ:
لو شِئْت قد نَقَعَ الفُؤادُ بِشَرْبةٍ
تَدَعُ الصَّوادِيَ لا يَجُدْنَ غَلِيلا
بالعَذبِ في رَضَفِ القِلاتِ مَقِيلةً
قِضَّ الأَباطِحِ، لا يَزالُ ظَلِيل؟
قال سيبويه: وقد، قال ناس من العرب: وجَدَ يَجُدُ كأَنهم حذفوها من يَوْجُد؛ قال: وهذا لا يكادُ يوجَدُ في الكلام، والمصدر وَجْداً وجِدَةً ووُجْداً ووجُوداً ووِجْداناً وإِجْداناً؛ الأَخيرة عن ابن الأَعرابي، وقالت شاعرة من العرب وكان تزوجها رجل من غير بلدها فَعُنِّنَ عنها:
مَنْ يُهْدِ لي مِن ماءٍ بَقْعاءَ شَرْبةً،
فإِنَّ له مِنْ ماءِ لِينةَ أَرْبعَا
لقد زادَني وَجْداً بِبَقْعاءَ أَنَّني
وَجَدْتُ مَطايانا بِلِينةَ ظُلَّعا
فَمَنْ مُبْلِغٌ تِرْبَيَّ بالرَّمْلِ أَنني
بَكَيْتُ، فلم أَترُكْ لِعَيْنَيَّ مَدْمَعا؟”.
ولأهمية الشعر بجميع فلسفاته في حياتنا، نظمت جامعة السلطان قابوس ممثلة في قسم اللغة العربية بكلية الآداب والعلوم الاجتماعية بالتعاون مع النادي الثقافي ندوة عنوانها: “عوالم الشعر وفلسفة الوجود”، قدمها الدكتور محمد الحجري، وكان الدكتور أحمد يوسف من الضيوف، وقدم ورقة بعنوان: “فلسفة الشعر وانطولوجيا هايدجر”، قال في مقدمتها: “هذه الورقة تحاول أن تتأمل ما طرحه هايدجر الثاني وليس الأول كما سنرى، من منظور التأمل الانطولوجي المتعلق بفلسفة الوجود وعلاقتها بفلسفة اللغة. إن مارتن هايدجر هو ذلك الفيلسوف الألماني، هو ذلك الفيلسوف الذي يصعب أن نقتحم أسواره بيسر، سواء في عمق طرحه، أو في لغته، حتى عيب عليه من قبل الوضعانيين المنطقيين بأن لغته لا معنى لها”. بعد ذلك تحدث الدكتور طارق النعناعي في ورقته: “ملامح الوجود في الشعر المكتوب والمغنى: نماذج من اللغات السامية واللغة الهندو أوروبية”، قسم ورقته إلى عدة عناوين وأسئلة هي: ما الوجود؟ ما علاقة الوجود بالشعر؟ ما أدلة المؤيدين لطرح هايدجر؟ ما ملامح الوجود؟ ما ملامح الوجود في الشعر المكتوب والمغنى؟ ثم جاءت ورقة الدكتور يوسف ناوري متوافقة لما قدمه الدكتور أحمد يوسف والدكتور النعناعي؛ وهي بعنوان: “الشعر وطريقة في الوجود”. إذ لم يخرج هذا التوافق عما قدمه هايدجر، الذي ألهم الدارسين والنقاد لتفكيك تفاصيل فلسفته. وقد أورد فرانكو فولبي (Franco Volpi)، أحد الحُذّاق الإيطاليّين في فلسفة هايدغر، وله أعمال متألّقة أشهرها كتاب “هايدغر وأرسطو”. قولة مأثورة عن ليو شتراوس (Leo Strauss) هذا نصّها: “هناك أمر مُحيّر جدّا ألا وهو أنّ هايدغر هو أكبر مفكّر في وقتنا الحاضر”. قال شتراوس ذلك على الرغم من أنه كان من المُعجبين بـماكس فيبر (Max Weber)، ولكنه بعد أن استمع إلى دروس هايدغر كتب إلى صديقه روزنزفايغ (Rosenzweig) قائلا: “فيبر، بالمقارنة مع هايدغر يبدو لي يَتيما من حيث الدّقّة والعمق والكفاءة”. وفي مناسبة أخرى كتب إليه: “لقد استمعتُ إلى التأويل الذي عرضه هايدغر لبعض المقاطع من أرسطو، وبعد ذلك استمعت إلى فرنر ييغر (Werner Jaeger) في برلين حيث كان يُؤوّل نفس تلك النصوص: مبدأ الرّحمة يَجعلني أكتفي في مقارنتي بالإشارة إلى أنه ليس هناك وجه للمقارنة”.
من جهة أخرى، هناك من كشف الوجه المظلم البعيد عن الفلسفة الشعرية لهايدجر، فقد بدأ “فاي” بحوثه عن هايدغر في محاضرة ألقاها سنة 1925 بعنوان “الصراع الراهن من أجل نظرة تاريخية للعالم”. كشف فيها عن العلاقة الفكرية بين هايدغر، والكُتّاب العنصريّين ما قبل نَازِيّين مثل “إيريك روتهاكر”، و”ألفريد بويملر”، و”أوسكار بكّر”، والمُنظّر العنصري “لودفيغ كلاوس”، الذي اعترف أمامه هايدغر قائلا: “ما أعتقده في قرارة نفسي سأبوح به عندما أصبح أستاذا مُحاضرا”. فهايدجر هو صاحب العبارة الشوفينيّة الشهيرة: “نحن
الشعب الوحيد الذي بقي عنده تاريخ وقدر عرقيّ”، وعبارته الأخرى:
“الانتقاء العرقي هو ضرورة ميتافيزيقية”، وأن ” التفكير في العرق ينبع
من تجربة الوجود كذات”، و” الجوهر الألماني الذي لم يُطَهَّر بعد”، ولو
تأملنا عبارة هايدجر سنجد أنها تتكون من ذات المصطلحات التي
استخدمتها النازية؛ وهي: “فصيلة (Stamm)”، و”عرق (Rasse)”.
ويتهم هايدجر أنه عدَّل نصَّه الذي كتبه عن “نيتشه” الصادر سنة 1961
بتحويره وحذف الكثير من فقراته؛ وأن دروسه المنشورة مؤخرا تكشفه أكثر أمام مريديه.
أمَّا الدكتور مبارك الجابري فقد كانت ورقته مغايرة، وجاءت بعنوان مختلف عن فلسفة هايدجر؛ وهو:” الشعرُ بوصفه تيهًا”، وضع الوجودية بين دائرتين؛ هما: الفلسفة والشعر، عرض من خلالهما مجموعة من النماذج الشعرية العربية القديمة مثل: الشنفرى، وكذلك عرض النماذج الشعرية العربية العمانية الحديثة مثل: زاهر الغافري، وهلال الحجري؛ وسماء عيسى. وإن أتينا إلى مفهوم التِّيهُ، فقد جاء في لسان العرب لابن منظور: ” التِّيهُ: الصَّلَفُ والكِبْرُ. وقد تاهَ يَتِيهُ تَيْهاً: تكبر. ورجل تائِهٌ وتَيّاهٌ وتَيَّهان ورجل تَيْهانٌ وتَيِّهانٌ إِذا كان جَسُوراً يَرْكَبُ رأْسَه في الأُمور، وناقة تَيْهانةٌ؛ وأَنشد:
تَقْدُمُها تَيْهانةٌ جَسُورُ،
لا دِعْرِمٌ نامَ ولا عَثُورُ
قال ابن دريد: رجل تَيَّهانٌ إِذا تاه في الأَرض، قال: ولا يقال في الكِبْر إِلاَّ تائِهٌ وتَيّاه، وبلد أَتْيَهُ. والتَّيْهاء: الأَرض التي لا يُهْتَدَى فيها.
والتَّيْهاءُ: المَضِلَّةُ الواسعة التي لا أَعلام فيها ولا جبال ولا إِكامَ. والتِّيه: المَفازَة يُتاهُ فيها، والجمع أَتْياهٌ وأَتاوِيهُ. وتَيَّه الشيءَ: ضَيَّعَه. وتَيْهانُ: اسمٌ”.
والشاعر أبو تمَّام أشهر من قال في التيه:
مسْتَنِفرٌ للمَادِحينَ، كأنَّما آتيهِ يمدحهُ أتاهٌ يفاخرهُ
وقال أسامة بن منقذ:
قد زدت في التيه ومن لا يرى مثلاً لَه يُعذَرُ في التِّيه
كما قال ابن الرومي:
أيّ حين أتاهُ طالبُ جدواهُ أتاه في حينه وأوانِهِ
أمَّا ابن رشيق القيرواني الأزدي فقال:
تِيهي عَلى البِيضِ وَکسْتَطِيلي تيهَ شَبابٍ عَلى مَشيبِ
وبعيدًا عن الفلسفات الحديثة، لقد فَهِمَ الشّاعر الجاهليّ الشعر على أَنّه رؤية معرفية تنطوي على مجموعة من القيم النفسيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة، تتلخص في قول حسان بن ثابت:
لَكِ الخيرُ، غُضّي اللّومَ عنّي، فإِنّنـي
ألم تعلمي أنــي أرى البُخْـلَ سُبّـةً
أُحبُّ من الأَخلاقِ مـا كـان أَجمـلا
وأَبـغـضُ ذا اللّوْنـيـن والمتنقّـلا
أما الفلسفة الأخرى فقد كانت بلاغية صرفة نبه إليها الخليفة عبدالملك بن مروان حين حث شعراءه قائلًا: تشبهونني مرة بالأسد، ومرة بالبازي، ومرة بالصقر، ألا قلتم كما قال كعب الأشقري في المهلب وولده:
براك الله حين براك بحرًا
وفجر منك أنهارا غزارا.
الشعر هو الشعر، أيًّا كانت توجهات الشعراء، وأيًّا كانت تعليقات النقاد على أفكار الشاعر البعيدة عن نصّه الشعري، فحين تلقينا رائعة إيليا أبي ماضي التي قال فيها:
“جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت
ولقد أبصرتُ قدامي طريقاً فمشيت
وسأبقى ماشياً إن شئتُ هذا أم أبيت
كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟
لست أدري”
أحببناها، بعيدًا عن الأيديولوجيا المتعصبة ضد فكر الشاعر وبعيدًا عن اقتفاءات ورصد النقاد والمفكرين للأفكار الشعرية، هل تمثل هذه القصيدة المعنى الأمثل للوجودية؟ لست أدري.