من إعجاز سورة الفاتحة

طاهر العلواني | مفكر وداعية إسلامي

انظر كيف افتتح الكلام، افتتاح من يريد الإرشاد و الإعلام، وهداية العباد إلى الرابح الصالح، بأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فأمرهم في صورة الخبر بالاستعاذة به، من الشيطان وحزبه، ثم أتبع ذلك البيان البسمله، ليتبرك بها مَنْ هَمَّ بالفعل ليعمله، ثم لما كان فيها معنى الولاء والبراء، وجميل الثناء والإطراء، أتبعها بالحمد المقتضي استحقاقه كل المحامد، من كل ناطق مادح وكل لسان حامد، لا أحد يستحق منه شيئا استقلالا، ولو أتى لاستيجابه خلالا؛ ثم انظر كيف عدل عن النصب الدال على التجدد بعد السكوت، إلى الرفع المقتضي للدوام والثبوت، وكيف أنه لما استحق كل محمدة، على نعمة ظاهرة أو صفة متعمدة، أردفه ب” رب” لإيجاد معنى المنعم المالك، المتولي للمعايش والمهالك، ثم أتبعه بالعالمين مجموعا معرفا ليكون كالجامع المانع، وليدل على وجود الصانع، ثم أعاد صفتي الرحمة مبتدِأً بأعلاهما وصفا، وأبلغهما عرفا، ليعلموا أنه المنعم بكل نعمة، المتفضل بكل رحمة، على جميع ما سواه، مما خلقه فسوّاه، ثم أردفه الرحمة الخاصة، التي وهبها المؤمنين خاصة، لتعميم الدقائق منها والجلائل، والوفائر منها والقلائل غير القلائل، ليستيقن أنه الذي وَهَبَه، وأن رحمته سبقت غضبه، وأنه هو الكثير نائله، المكفي سائله، من استجار به، ولزم قرع بابه، أحسن صفده، وأقام أوده، ثم لا يكون المنعم، إلا مالكا لما ينعم، فأخبرهم أنه يوم الدين والجزاء، والذهول والبلاء، لا ملك إلا ملك من هذا شانه، ولا سلطان إلا سلطانه، وإنما أُضيف الملكُ له، وإن كان قد ملَكَ الزمان كله؛ لأن مالكه مالكٌ غيرَه بالأولى، ولا ملك لغيره فيه إذ يناديهم المولى ” لمن الملك اليوم ” بالصوت والحرف المبين، فيقال ” لله رب العالمين “، ثم لما وصف بتلك الصفات، الفاصلة له عن غيره من الذوات، تعين لديهم بلا ارتياب، فانتقل عن الغيبة إلى الخطاب، وذلك في البيان الالتفات، وهو أم من الأمهات، وكذلك رعاية للصفات المقدمة، المنبئة المحكمة، أنه لا يستحق العبادة سواهُ، ولا حقيق بالاستعانة إلا هو، فقدم الضمير عن موضعه وغيره، وأعاده وكرره، ثم انظر كيف قدم العبادة؛ لأنها الوسيلة، وأَخَّر الاستعانة؛ لأنها الحصيلة، ثم كيف أطلقهما ليدل على تمام الذل والخضوع في العبادات، مع كمال العجز والرجوع في النائبات، وأن العمر راجع كله إلى التعبد، دقائقه وسويعاتِه، مذ موافاته، إلى وفاته، وأنه إن لم يستثمره لم يك له، وأكله قبل أن ياكُلَه، فلا تعلق بفانية الزند، وقد صرح المخض عن الزبد، فلما ثبت ذلك، وعلموا ما هنالك، توجهوا إليه بسؤالهم إياه مهيع المحجة، وأن يبعدهم عن السبل المعوجّة، فبيّن لهم أن الصراط الموصل له، ما بعث به أنبيائه ورسله، فسار عليه من تابعهم، وآزرهم وشايعهم، وأنهم إذا جاءهم شيء من الحق المبين، انقادوا إليه مذعنين، فلا يبغون عوجا بعد نزول الوحي إليهم، أن يهلكهم الله ويغضب عليهم، كمن رضوا بالرأي الفائل، وتركوا قوله عز من قائل، فأبت عقولهم إلا السفاف، كأن فيها الحوص والالتفاف، ورغبوا عن لباس التقوى بالإساءة، وانتعلوا بنيات الطرق الموصلة إلى المساءة. فسلكوا الرامضة الهائضة، من المسالك الغامضة، ذات الحجة الداحضة، بأدلة جمدت، وآراء جردت، فعمت وأجهدت، فكانوا فلال الطائفة الخاسفة، وعادوا صرعى جدب الفلاسفة، فحسبوها من هجائن النعمان، وهي أرخى من هزائل النعمان، حتى بعثوا محنا عظاما، وعاد إشراقهم ظلاما. فبئس ما حوى باطنهم، وشهد به ظاهرهم، وبسرت لسماته وجوههم، وقد كانت أحب الأمور إليهم، أعودها بالمضرة عليهم.

وألايحيدوا عن السبيل، بالسير وما معهم من دليل، فيضلوا عن قصد المرام وحصوله، فلا يقدموا بين يدي الله ورسوله، كمن تركوا اللب وقنعوا بالطرف، أو عبدوا الله على حرف، إذا رضوا حفظوا، وإذا أنكروا جحظوا، ولو علموا أن من كان في مثل حالهم، فتمام الإكرام له والإنعام، أن يمشي مشية الأنعام، فلا يلوي عنقا إلا بقائد، ولا يضع قدما أو يرفع إلا بهاد إلى المقاصد، ما انحرفوا ولا ضلوا، ولكنْ طال بهم الأمل وكسلوا، وتمنوا الفوز بالزائلة والقائمة، كالمستنزي لشاة عكرمة، ثم انظر كيف قرر أن النعماء رحمتُه ونوائلُه، وبنى الغضب لما لم يسم فاعلُه؛ فإن المنعِمَ بما يقتضي الفرح، لا يقابل إذٍ بما يستوجب الترح.

ثم تأمل كلمة آمين تلوها، الدالة على بلوغ العجز المنتهى، وكمال قدرة الله تعالت عظمته، وجلت حكمتُه، فكان حقيقا من قالها مع الفئة السالكة، فوافق قوله قول الملائكة، بأن يستر عليه عيبه، ويغفر له ذنبه.

مع احتوائها أجناسا من صناعة البيان، وألوانا من براعة التبيان، ومراعاة ملحة التسجيع، الذي هو من صنعة البديع، إذا أرسله صاحبه إرسال المطبوع، ولم يكن بالمتكلف أو المصنوع، وكل ذلك مع خلوها من تصنع من يمكث الحجج للتنكيت، وتعمُّلِ من يتعمل الحجج للتبكيت.

فسبحان من لو أنزل هذه السورة وحدها، ولم ينزل ما قبلها وما بعدها، لكفى بها آية تغمر الأذهان، وتوجب الإذعان، لا ترى كذلك حسنا وأنقا، وبهاء ورونقا، خرجت من أصدافها الفوائد كالجوهر المكنون إذ بدا ولاح، وبرزت منها الفرائد كما تبرز من خدرها عروس الأفراح، هي الوافية في كل موطن بمعاهد التنصيص، والشاهدة على أمر الله بشواهد التخليص والتلخيص، حوت من أسرار البلاغة، ومكنوزات البراعة، ما نزلها من الكلام كما نزل من العين بؤبؤها، وحازت من الفضائل والشمائل ما حاز من الدر لؤلؤها، فلم يكن عجبا أن تعود العرب على عجرها وبجرها، كمن أتى بين سمع الأرض وبصرها، ضعفهم ضعف عصفور، وعقلهم عقل أترور، على أنهم بنو البلاغة غذتهم بلبانها، وما لهم فيها من ندّ و لا شبيه، وأما البيان، فإنهم أبناء أمّه وأبيه، فانقلبت حلوقهم عن البيان كالهيماء، وأشدَّ يبسا من اليهماء، فأبى من أبى منهم إلا الكبر الغاشم المتهاشم، من أجل حصول النبوة في بني هاشم، على أن رسول الله كانت عينه تقرُّ بهم، عند تقرُّبِهم، وقد كانوا المطبوعين على العزة مهدا، ولم يعرفوا للذل عهدا، فذاقوه أشد من ذل العبيد، وأمر عليهم من طعم الهبيد، ولما عجزوا عن المجارحة باللسان، فزعوا إلى المجالحة بالسنان، فحسبوا أنهم بذلك تنتصر جموعهم، ويفرخ روعهم، وما ذاك من الأمر بمفرجة ولا مخرجة، بل ما كان سبب شرادهم وارفضاضهم، إلا الثقة في مصادهم وإضاضهم، وأنى لهم المفازة، واو جابوا آباط المفازة؟!

والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله المصطفى من خلاصة الذرى، النبي الأمي المبعوث في أم القرى، لباب البر، وينبوع الخير، صاحب النسب الأشرف في العرب العرباء، وخير من مشى بقدميه على الأرض الرحباء، من مهدت به للهدى الحجور، وانجلى بأنوار شرعته الديجور، وعلى صاحبه الرفيق، أبي بكر الصديق، الذي صدق بالصدق، ووفّى وفاء الحق، وعلى العبقري ذي الغرر و الدرر، الفاروق أبي حفص عمر، الذي تمتن العلوم و أسرجها، وعمد إلى أبواب الفتن فأشرجها وعلى جميع كرشه وعيبته، الناقلين لهديه وملته، إلى من بعدهم من أمته، الناطقين بأفصح الآثار، من المهاجرين والأنصار، الذين صبروا على نبل المصائب، وقسي النوائب، صلاة وسلاما دائمين، ما تعاقب الجديدان، وطلع الفارطان، وعلى أتباعهم على الهدى إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.

 

.                        تمت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى