مذكرات الملك فاروق (2) تليفون سِرّيّ
تنشرها: فريدة شعراوي| باحثة في التاريخ والمصريات
وهكذا قطعنا المسافة بين المنتزة وقصر رأس التين بأقصى سرعة هروبا من الدبابات والعربات المصفحة، كنت أريد أن يعبر ابنى هذه الشوارع حيا، وليحدث مايحدث بعد ذلك، فجلست وتوليت قيادة العربة بنفسى وإلى جانبى طيارى الخاص حسن عاكف مسلحا بمدفع رشاش، وفى الخلف جلست ناريمان وابنى والمربية الإنجليزية “آن تشير سايد”
ونجحت فى تفادى دورية صادفتنا وانحرفت بالسيارة سريعا ووصلنا قصر رأس التين وبدأ رجالنا المخلصون يتوافدون للدفاع عن القصر بعد نجاحهم فى الإفلات من دورية حظر التجوال، وبحلول الرابعة صباحا اكتملت الفرقة العسكرية السودانية حتى وصل عددها إلى 800 رجل، فقاموا بتأمين نوافذ الطابق السفلى فى القصر، ووضعوا المدافع الرشاشة على طول الممرات.
فى الوقت الذى وصلت فيه بناتى الثلاث بعدى بوقت قصير وقد أصابتهن الدهشة والخوف، وحاولنا بصعوبة إقناعهن بالخلود إلى النوم وطلبت ناريمان أن تنال أيضا قسطا من النوم، وقبل الفجر مباشرة رقدت إلى جوارها ثم استيقظنا بعد ساعتين حيث كانت مئات القوات تقترب إلينا من نقاط السكة الحديد .
فخرجت إلى الشرفة لأستطلع الأمر وتبعتنى زوجتى حافية القدمين يغالبها النعاس، أما بناتى الثلاث فقد بدأت الإثارة على وجوههن التى ألصقوها بزجاج النافذة، وترقبنا جميعا الموقف فلم تظهر القوات المتقدمة نحو القصر أى علامات تشير إلى نيتها فى مهاجمتنا، فقد كان قائدهم يشير إلينا لطمأنتنا، فقال أحد حراسى: لعلها التعزيزات القادمة إلينا من القاهرة .
وكنت آمل ذلك أيضا، فمن الصعب جدا آنذاك استيعات فكرة استيلاء حفنة من المتمردين على الجيش بأكمله، وكان من الصعب على أيضا إعطاء أوامر بإطلاق النار على رجال يرتدون نفس الزى الرسمى الذى أرتديه. وهكذا وقفت فى الشرفة مترددا .
وبهذا التردد ارتكبت خطأ كاد يكون قاتلا لأننى سمحت للمتمردين بالدخول إلى الدائرة الخارجية لدفاعتنا والتقدم لمسافة مائة وخمسين مترا، وفجأة ودون تحذير أطلق من الخلف ضابطان النار من مدفع رشاش صغير .
ومن المعلوم عسكريا أن الإنسان لايستطيع رؤية وميض المدفع الرشاش إلا إذا كانت فوهته موجهة إليه مباشرة، فرأيت هذا الوميض المباغت، فأمسكت ناريمان من شعرها وجذبتها على الأرض حتى شعرت أن أحجار المبنى تكاد تهوي فوقنا وفجأة أطلق أحد حراسى صيحة ألم إثر إصابته بطلقة أدمته وأعجزته .
وما إن رأيت هذا المشهد حتى أصابنى الرعب والهلع على بناتى، فانبطحت أنا وناريمان أرضا ثم زحفنا إلى الخلف وقد بدت ناريمان شاحبة الوجه شعثاء الشعر من أثر التراب المتساقط فوقها من الحائط المتهالك، وحمدت الله أن بناتى مازلن أحياء ينطلقن كالأرانب البرية.
لكنهن لم يبكين أو يبدين أى علامة من علامات الخوف إلا بعد انتهاء المعركة واكتشافهن أن كلابهن وفرس فريال العربى قد قتلوا بواسطة رجال نجيب بلا أدنى مشاعر إنسانية، فكان لابد من تبادل النيران، وقد أظهرت فرقتى السودانية مهارة فائقة لم أشاهدها فى حياتى .
وحانت الفرصة واصبحت فى وضع يتيح لى تصويب مسدسى نحو رجال نجيب، فأنا حاصل على الشهادة الدولية لأساتذة الرماية ولكن نفسى لم تطاوعنى بقتلهم، ولكنى أصبت رجلا فى ساقه، وأحد حاملى المدافع الرشاشة فى كتفه لكنها كانت عملية مقززة لم أسعد بها .
وسرعان ماتطورت الأمور فحاصرتنا قواتهم وقطعت خطوط التليفونات فى سنترال الإسكندرية ولم يعرفوا مثل البريطانيين عندما حاصروا قصرى عام 1942 أننى أحتفظ دائما بخطي تليفون سريين لمثل هذه الطوارىء.
وعلى الفور بدأت بالاتصال بعلي ماهر رئيس الوزراء وأخبرته بما حدث فأصابته الدهشة والقلق حيث فوجئ بتطور الأحداث، وخاصة أن رجال نجيب لم يخبروه بنواياهم فى الهجوم على القصر ، وطلبت منه أن يفعل أى شىء إيجابى.
وأسرعت بالاتصال من جانبى بسفير الولايات المتحده “كافرى” وشرحت له الأحداث بصورة موجزة وطلبت منه تكريس كل جهوده ونفوذه لإنقاذ حياتى وحياة عائلتى.
فطمأننى بقوله: إنه سيقيم الدنيا ويقعدها فى سبيل تحقيق طلبى لكنه أضاف: قد يأخذ الأمر بعض الوقت فعليك أن تكافح بنفسك حتى لايباغتك الوقت.. انتهى كلام الملك .
فى هذا الوقت كان الملك فاروق على خلاف شديد مع بريطانيا، لأن الأخيرة اشترطت على الملك فاروق أن يتنازل عن السودان لها، مقابل أن تعطي لمصر استقلالا تاما عنها، لكن الملك رفض رفضا شديدا أن يتنازل عن السودان .
فى الوقت نفسه كان هياجا فى الشارع المصرى للمطالبة بالاستقلال عن بريطانيا، دون علمهم بما يدور على مائدة المفاوضات، كل ذلك كان قبل قيام انقلاب يوليو بأيام .و عندما تحدث سفير أمريكا “كافرى” إليهم بما حدث من اتصال الملك فاروق له ردوا عليه: هذا شأن داخلي والملك يهوِّل الأمر .
لا أعرف كيف خرجت السودان من حكم مصر، لكنها خرجت للأسف الشديد، خرجت بعد رحيل الملك بعد أن ظل محافظا عليها حتى آخر يوم فى حكمه.. الملك الفاسد!! كما يطلق عليه تاريخنا.