الحرب خيارات الدول القوية
بقلم : عماد خالد رحمة | برلين
عرفت البشرية الكثير من الحروب الدامية في العالم، واتخذت أشكالاً عديدة وأساليب متغيرة ومتبدّلة. فالحرب هي نزاع مسلّح بين دولتين أو أكثر من الجماعات والكيانات غير المتوافقة، وهدفها إعادة تنظيم هياكل الدول من ناحية الجغرافية السياسية ،من أجل الوصول إلى نتائج محدّدة ،وتحقيق أهداف يتم تصميمها بشكلٍ ذاتي. وقد وجدنا ما قاله المنظر العسكري والفيلسوف والمؤرخ والضابط والكاتب البروسي كارل فون كلاوزفيتر في مؤلفه الهام عن الحرب أنها: (عمليات متواصلة من العلاقات السياسية، ولكنها تقوم على وسائل وأدوات مختلفة).
وتعدّ الحرب تفاعلاً ساخناً بين دولتين أو طرفين أو أكثر من القوى المتعارضة والمتناحرة والتي تنحو باتجاه ما بات يطلق عليه (صراع في الرغبات) وهذا المصطلح يستخدم أيضاً كرمز للصراع غير العسكري، مثل الحروب التي تنشأ بين طبقات المجتع الواحد. أو (الحروب الطبقية) .
الجدير بالذكر أنه لا تُعد الحروب بالضرورة احتلالاً أو إبادة جماعية أو قتلاً بسبب طبيعة ما يسمى المعاملة بالمثل كنتيجة مؤكدة للعنف، أو الطبيعة المنظمة للوحدات المنخرطة في الحرب. فهناك الحرب الباردة ،والحروب الأهلية، والحروب بالوكالة .فالحرب الأهلية تنشأ بين الفصائل المتصارعة لمواطني بلد واحد. أو بين نزاع بين دولتين تم إنشاؤهما من أصلٍ واحد،وكان لها حدود واحدة وسيادة واحدة قبل بدء الحرب. أما الحرب بالوكالة فهي التي تنتج عندما تستعين قوتان بطرف ثالث أو أكثر كبدائل لقتال دامي بين بعضهم البعض بشكلٍ مباشر .
وللحرب كيانها الثقافي والمعرفي،وسلوكها وممارستها ليست مرتبطة بنوعٍ واحد من التنظيم السياسي أو المجتمعي. عوضاً عن ذلك، فقد تمت مناقشة تلك الفكرة من قبل العديد من المتخصصين أمثال السيد جون كيغان الذي كتب العديد من الكتب الهامة في تأريخه للحرب منها: أطلس الحرب العالمية الثانية عام 2006 م، لذا فإن الحرب هي ظاهرة عالمية وليست محدودة أو خاصة بمجتمع معيَّن، وشكلها ونطاقها واستطالاتها يحدّدها المجتمع الذي يقوم بها. لقد شهدت البشرية منذ صيرورتها الأولى وعبر سيرورتها التاريخية، أنها تسير وفق سلسلة متصلة من الحروب العشائرية والقبلية شبه العالمية ،والتي تركت آثارها على شكل نقوش على الجدران والتماثيل التي تتحدث عن الحروب والانتصارات. تلك الحروب كانت شبه عالمية سجّلها الإنسان قبل التاريخ ثم جاءت وفق سلسلة حروب بين البلدات والمدن أو الدول أو الأمم أو الممالك أو الامبراطوريات .
لقد اقترنت الحروب عبر مسيرتها بالدولة كفاعل أساسي في العلاقات الدولية، وإن كانت تعود قبل ذلك إلى ما قبل ظهور (الدولة القومية) في مؤتمر (وستفاليا) عام 1648م، لتصبح خياراً أساسياً ورئيسياً للدولة، لتحقيق أهدافها ومراميها. واليوم لم تعد الحرب مقتصرةً على الدول فقط كما بيّنا، بل تمارسها القوى الفاعلة من غير الدول. ولعلَّ السبب الرئيسي للجوء إلى الحرب، عدم فاعلية وجدوى المؤسسات والهيئات الدولية كالأمم المتحدة في ردع الدول وضبط إيقاع تجاوزها على الدول الأخرى، بخاصة إذا كانت دولة من الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي ولها حق اتخاذ قرار الفيتو. ومن جهة أخرى، يعدّ انتشار القوة حكراً على دولة دون أخرى، بل حتى القوى الفاعلة من غير الدول يملكون القوة والقدرة على الوصول للسلاح الفتّاك. ومن ناحية ثالثة، لجوء الدول إلى خيار الحرب بالوكالة، كما صل في ليبيا وسورية واليمن، وحتى أوكرانيا التي تلعب دور الحرب بالوكالة نيابة عن الولايات المتحدة الأمريكية .
وفي البحث عن الدوافع والأسباب الكامنة وراء الحروب، حدَّد الباحث البريطاني ريتشارد نيد ليبو معلم النظرية السياسة الدولية بقسم الدراسات الحربية أربعة دوافع أساسية، هي: الخوف والمصلحة والمكانة والانتقام. هذه الدوافع مستقاة من دراسته لتاريخ الحروب. وقد تنطبق بدرجات متفاوتة على الحرب التي نعاصرها اليوم، وأحدثها الحرب الروسية الساخنة في أوكرانيا. وكان في العديد من مؤلفاته حول الحروب عن التغيير الجوهري في النظام العالمي بخاصة كتاب: (الهوية الوطنية والعلاقات الدولية). وكتاب (وداعا لسيطرة السلطة والتأثير في النظام العالمي). فقد أوضح في دراساته حول الحروب أن نسبة ضئيلة كانت مدفوعة بالأمن والخوف والمصلحة، وأنّ أغلب الحروب سببها المكانة والانتقام، أي الانتقام ومحاولة الثأر من دولة كانت قد نجحت في السابق في الاستيلاء على أراضي الدولة المبادرة بالحرب فيما بعد. هذا المثال ينطبق على جمهورية روسيا الاتحادية وقناعتها أن أوكرانيا أصلاً أرض تابعة لروسيا الاتحادية .
الجدير بالذكر أنّ أيّاً من تلك الدوافع لا يمكن تحقيقها على نحو فعّال عن طريق الحروب. وأن الحروب بين الدول في انخفاض وتراجع ملحوظ ، عكس الحروب الأهلية والحروب الداخلية والتي نجد أمثلتها في أكثر من بلدٍ في العالم، وقد يرجع ذلكإلى ارتفاع كلفة الحرب، وما قد تثيره الحروب من ردود فعل وتداعيات سلبية وقاسية قد لا تتحملها الدول، فالحرب العالمية الأولى راح ضحيتها أكثر من عشرة ملايين وأربعمئة ألف قتيل، والحرب العالمية الثانية راح ضحيتها أكثر من خمسين مليوناً أيضاً، ناهيك عن خسائر بمليارات الدولارات.
ولعل السبب في انخفاض وتراجع الحروب يرجع إلى التنمية الاقتصادية المستمرة، ومعالجة مشاكل الفقر والبطالة والقضايا الصحية والتعليم، فضلاً عن تزايد القوة التدميرية للحروب واستحقاقاتها، ونمو التجارة البينية والتجارة العالمية، وزيادة درجة الاعتماد والتكامل الاقتصادي المتبادل بين الدول، وقد ظهر ذلك في عمليات التصويت على الحرب الروسية ـ الأوكرانية في الأمم المتحدة، وكيف أن العالم كان منقسماً ولم يكن متحداً بخاصة وأن تلك الحرب يمكن أن تكون مفصلية في سياق قيادة العالم ، وإن كان ذلك يعدّ دافعاً قوياً لاستمرارية الحرب من ناحية روسيا الاتحادية. كما أن أحد الأسباب لتراجع وانخفاض الحروب هو انتشار الديمقراطية، وما شهدته العديد من الدول في أوروبا الشرقية من ثورات التحول الديمقراطي في تسعينات القرن العشرين وتحديداً الثورات الملونة. لذلك هناك من يتحدث عن السلام الديمقراطي في العالم ، ويبرّر عدم دخول الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الحرب لفاعلية القيم الديمقراطية بغض النظر عن عقلية الهيمنة والسيطرة، والسبب الآخر دور المؤسسات والإدارات والهيئات والأعراف والقوانين والتشريعات الدولية، وردود الفعل القوية من الدول وانتقاداتها للدول المتحاربة وما تخلفه من دمار وخراب ومآسي إنسانية .
تلعب المصالح المادية دافعاً ضعيفاً في بعض الأحيان وإن كانت مسؤولة عن ثمانية حروب في العالم. وأما المكانة الدولية والدور الريادي وتغيير بنية القوة الدولية واحتكارها من قبل دولة واحدة كانت قد حدّدت ذلك مسبقاً ،فإنها كانت مسؤولة عن إثنان وستون حرباً حول العالم. وكان الانتقام سبباً في أحد عشر حرباً طاحنة في العالم. هذا إلى جانب أن التنافس بين الدول الكبرى بدوافع السيطرة والهيمنة واستغلال موارد بلد ما على حساب دولة وشعب ما والدول التي تهدّد بالقوة العسكرية بات يهدد الأمن والسلام العالميين. وإلى جانب ذلك لا يمكن أن نغمض أعيننا وعقولنا عن الطابع والهوية القومية وبخاصة القوميات التي ترى في نفسها قوميات فوقية استعلائية على غيرها.
أخيراً يمكننا القول إن الحرب ستبقى مرتبطة بالقوة الشاملة العسكرية والاقتصادية والسياسية التي تملكها الدولة، وخصوصاً القوة الصلبة، المتمثلة بالقوة العسكرية والاقتصادية الهائلة، والتي تنحي جاناً القوة الدبلوماسية الناعمة ،وكلما كانت الدولة تملك تلك القوة الجبارة، فإنها ذاهبةٌ لخيار الحرب بشكلٍ أكبر وأسرع، من أجل تحقيق مصالحها ومراميها وأهدافها القومية، ولو على حساب غيرها من الدول والشعوب المستضعفة .