رؤية نقدية لرواية “تبغ وشوكولاتة” للأديبة المصرية زيزيت سالم
نهال القويسني | كاتبة وناقدة مصرية
حين قرأت للأستاذة زيزيت سالم لأول مرة كنت أرى أنها مغرقة في الرومانسية، رومانسية الفكر أكثر مما هي رومانسية المشاعر، وحين ناقشتها في بعض النقاط، تركت لدي انطباعا بأنها تفكر بمثالية لم تعد متناسبة مع واقع الحياة العصرية .
فلما طالعت روايتها الأخيرة “تبغ وشوكولاتة”، شعرت أنها بهذا العمل قد وثقت مشاعر ووجدان جيل بأكمله، فأسلوبها في رسم الشخصيات ووصف مشاعر الحب بين الجنسين هو بكل تأكيد رصد للمشاعر الإنسانية والعاطفية خلال العصر الماضي .
وعلى الرغم من تداخل بعض معطيات الحداثة في النسيج الدرامي للقصة، مثل منصات التواصل الإجتماعي، فإن سياق الأحداث واختيار الشخصيات ينم عن قدر كبير من مثالية المعايير، بالصورة التي كانت تتصف بها الحياة والمجتمع المصري خلال القرن الماضي.
بقراءة موضوعية متأنية للعمل الأدبي وجدت أن كاتبته دون وعي منها، قد وثقت للملامح العريضة والسمات الدقيقة لأجيال مضت، أجيال أنتمي أنا شخصيا إليها، وهو أمر يتضح بصورة جلية من فكر وحوارات شخصيات الرواية بما يعكس مرجعية قيمية تكاد تكون اختفت في معاملات الأجيال الحديثة .
رسمت الأستاذة زيزيت شخصية “نادر” في الرواية بمثالية ملحوظة، وحملتها كل أفكارها عن نموذج من الرجال لم يعد موجودا بيننا على أرض الواقع بهذه المواصفات، ولكنها عكست الصورة الوجدانية الكامنة في أعماقها من سنوات نشأتها وحياتها في مراحل مبكرة .
أجادت الكاتبة رسم شخصية بطل الرواية منذ نشأته الاولى، ورصدت ملامح النبوغ التي ميزته في مراحل حياته المبكرة، فبدت الشخصية متسقة مع ذاتها، واضحة الرؤية بصورة كبيرة، ذات جذور قيمية وأخلاقية قوية، نزاعة إلي الحرية والمثالية في الفكر والتصرفات بصورة ملموسة .
كما أحسنت أيضا وصف تطور الشخصية خلال مراحل العمر المختلفة، من الشباب إلي اكتمال النضج، مما جعل الشخصية الرئيسية في الرواية مقنعة إلي حد كبير في فكرها وتصرفاتها .
وفي تقديري أن الحوار يعد من نقاط القوة في الرواية، حيث اتسم حوار بطلي الرواية نادر وحبيبة من خلال الرسائل النصية المتبادلة، بالذكاء في الصياغة والحساسية الواضحة في رصد انفعالات ومشاعر الشخصيات، كما أنه كان أداة فاعلة في تعريف القارئ بطباع وسمات وأفكار شخصيات العمل الأدبي بصورة سلسة وشيقة وجذابة، وقد أحسنت الكاتبة توظيف الحوار من خلال هذه الرسائل في خدمة البناء الدرامي لروايتها .
هناك أيضا نقطة هامة لفتت أنتباهي كقارئ، وهي الرسالة التي حاولت الكاتبة توصيلها من خلال الرواية، ومفادها أن الحب عاطفة راقية، وليس خطيئة كما يحكم عليها المجتمعأ وان المشاعر الإنسانية الجميلة من ود وألفة وتفاهم لن تقود بالضرورة لتجاوزات أخلاقية، وهذه النقطة بالتحديد أراها رؤية أنثوية خالصة للمشاعر، ومغايرة لرؤية المجتمع، فالمرأة في المجتمعات الشرقية هي دائما الحلقة الأضعف في مثل هذه الأحوال، والمجتمع يحملها وحدها تبعات الإنجراف وراء المشاعر كائنا ما كانت نتائجه .
الرواية توضح لك بذكاء الفرق بين مشاعر الرجل ومشاعر الأنثى، فالرجل بإمكانه أن يحب أكثر من امرأة بصدق ودون خداع، أما المرأة فإنها إن أحبت وهبت كل كيانها ومشاعرها ووجدانها لمن تحب، حتي تقتصر الدنيا على شخص المحبوب، فلا ترى في الدنيا سواه، والأمر لا علاقة له بالإخلاص أو الخيانة، إنما هي اختلاف في طبيعة الجنسين تركيبتهم النفسية والوجدانية .
ويبقي لى مأخذ على بناء الرواية، حيث اعتمد على قدر لا نهائي من المصادفات، فالشخصيات كلها مرتبطة ببعضها البعض بصورة تعتمد على المصادفة إلي حد بعيد، وإن كنت أدرك أن الحياة بها من المصادفات ما يفوق كل خيال ويعجز عنه أعتي الحالمين، إلا إني أرى أن تعدد هذه المصادفات وتداخل خيوط العلاقات الإنسانية بهذه الصورة ربما أضعف البناء الدرامي للرواية .
ومن ناحية أخرى قد يشعر القارئ بشئ من الربكة في بداية مطالعته للرواية، فهناك قطع مفاجئ ومبتسر بعد الحوار الأول يجعل القارئ يتوه بعض الشئ، ولكنه يدرك أن عليه أن يقرأ الرواية بتركيز أكثر ليصل لعمق الفكرة ويستمتع بالمطالعة .
وقد تميز أسلوب الحكي والحوار في هذا العمل بالسلاسة والإنسيابية البالغة، والتي تشد القارئ وتجذبه للمتابعة بصورة تحقق له كثير من التشويق ومتعة القراءة .
ويبقي في النهاية أن أدعو كل من يقرأ هذا العمل الأدبي أن يلتفت إلي تلك المنظومة القيمية التي كانت تتسم بها العلاقات والمشاعر الإنسانية في عصر ولى بشخوصه وأفكاره وقيمه التي شكلت تعاملات البشر خلال هذه الحقبة، وإمعان النظر في الفرق الكبير الذي نراه اليوم ونلمسه في تغير سمات وضوابط وقيم التعاملات والمشاعر الإنسانية .
وخيرا فعلت الأستاذة زيزيت حين وثقت الصورة الكاملة بنمط التعامل والعلاقات في العصر الماضي، بالإضافة إلي بعض الأحداث التاريخية التي تركت بصماتها على وجدان هذا الجيل، ولست أدري إن كانت قد فعلت ذلك بوعي ونية مبيتة أم لا، ولكنها عكست ذلك كله من خلال رسم الشخصيات والعلاقات، فأهدتنا دون أن تدري وثيقة ترصد شكل العلاقات والمشاعر في حقبة زمانية ماضية، وليس كمثل الأدب أداة مؤثرة لرصد مراحل تغير العلاقات والمفاهيم والقيم وانعكاساتها علي العلاقات الإنسانية .
“تبغ وشوكولاتة” عمل أدبي شيق وجميل، يحمل أعماقا وأفكارا تستحق التأمل، وعلي قارئه ألا يتعجل في القراءة جريا وراء الأحداث، عليه أن يتأني ليحصل على متعة فكرية وأدبية مؤكدة .