البصر والبصيرة: أكان لا بدّ من بوح الشيخ حسني في الكيت كات؟

تحسين يقين | رام الله – فلسطين

سها عامل جهاز مكبر الصوت ونام في الليلة الأخيرة من عزاء عم مجاهد صديق والد الشيخ حسني الكفيف، فلم يغلق الجهاز، وخلا الشيخ لخلصائه ومريديه، وراح يبوح لهم ما يعرفه عن أسرار أهل الحيّ ، وراح صوته يفضح الأسرار:

الأرملة لواحظ صاحبته القديمة التي عاد لها، وهرم تاجر الحشيش، وفتحية زوجة الأسطى حسن التي تخونه مع هرم الذي يخفي الحشيش في بيتها، وروائح التي تهرب من زوجها سليمان الصايغ بسبب إهماله لها، وفاطمة المطلقة التي تواعد يوسف ابنه، وحكاية بيته الذي ينوي صبحي الفرارجي هدمه لبناء عمارة كبيرة، وساوم عطية صاحب القهوة الذي قبل بالخلو خوفا..

يفاجأ أهل الحي، خاصة من يذكر اسمه على الملأ، بما يفشيه الشيخ حسني من أسرار وفضائح، فيفاجؤون، فتظهر ردود الأفعال، في مشهد كوميدي عميق أبدعه كل من المخرج داود عبد السيد والروائي إبراهيم أصلان في روايته “مالك الحزين”، من ذلك منظر الهرم وهو يخرج من بيت فتحية مسرعًا والحشيش يتساقط منه.

الشيخ حسن يؤكد أنه يرى أحسن من الكل، “وفي الظلمة كمان”، فهو يتمنى أن يسوق الموتوسيكل، كما كان يسوق الدراجة الهوائية صغيرا رغم أنه كفيف. “يكبس” البوليس عليهم وهم يتعاطون الحشيش، رغم أن صاحبهم حذرهم أن ضابط المباحث قد وصل، فلا يسمعون، ورغم ذلك يكتشف الضابط أن الرجل الأعمى قد هرب. كأنه يرفض الاعتراف بأنه لا يرى، فتراه راح يتمشى مع كفيف آخر كي يكون دليله، ويصحبه الى السينما، بل و”يفسّح” الرجل الكفيف في النيل.

ترى، هل بيننا شيخ حسني آخر يبوح لنا بما يعرفه من خبايا؟

كنت طالبا حينما عرض الفيلم الذي عرض لعدة أشهر، حيث لاقى نجاحا، ربما ليس فقط لمستوى الفيلم المتقدم، بل بما فيه من محاكاة لحياة الناس. كان خريفا من عام 1991، حين شاهدت الفيلم بالصدفة، وهو من تمثيل محمود عبد العزيز في واحد من أهم أدواره، حيث ارتقى الفيلم بذائقتي في مقتبل الحياة.

رواية رائعة لإبراهيم أصلان، أحد مجددي الرواية العربية، بل وصاحب مذهب خاص في الكتابة بالاعتماد على التوثيق، التقطها داود عبد السيد، واحد من أهم المخرجين، الذين كانوا امتدادا للسينما الجادة، فراح ينهل منها، وصولا لجعلها قصة الفيلم، الذي يتناول مجتمع “الكيت كات” المعروف في القاهرة، والذي يمكن أن يكون رمزا واقعيا لبلادنا.

وهنا، يمكن أن نضيف أن الوعي الاجتماعي هو مؤسس للوعي الثقافي والفكري، ويذلك لا ينفصل النقد الاجتماعي في “الكيت كات” عن النقد السياسي؛ حيث أن عيش الناس متأثر بالضرورة بالسياسة التي هي ناظمة لجوانب المجتمع، وهل من أهم المؤثرات في حياة الناس بما فيها من سياسات اقتصادية وإعلامية.

إن تتبع حياة الشخصيات ومصائرها، هو بالتالي عرض لأثر النظم الحكاكمة على الأفراد والجماعات؛ فيوسف يود الهجرة بسبب البطالة، والمطلقة تبحث عن خلاصها العاطفي لأن زوجها ترك البلاد ولم يعد، في حين أن الشيخ حسني، وهو العليم بتفاصيل الحارة، يهرب من هذا الواقع الى عالم الحشيش، أما هرم والفرارجي وآخرون فهم يركضون في ظل هامش الحرية المتاح وراء مصالحهم، في ظل بحث النظم السياسية عن خلاصها.

 الكيت كات فيلم سياسي

في آخر الفيلم يغني الشيخ حسني لابنه (ومعه) أغنية من كلمات الشاعر العظيم سيد حجاب، وألحان الموسيقار راجح داوود، الذي أعد الموسيقى التصويرية للفيلم:

دي ايه؟ دي مدبغة

 علشان ؟ علشان صنع الجلود .. آآه ..

ودي إيه؟ دي مصبغة

علشان؟ علشان صبغ الجلود .. آآه

لكن ورا الصباغة والألوان والدباغة

في جلد كان جمل وجلد كان حمل

وأهو كلو بيتعمل جزمة وحزام وشنطة

في جلد ملوهش لون وجلد بألف لون

لو تغسلة بصابون يطلع لونة أونطة

سيبك من المصبغة وصباغة المصبغة سيبك

وبص بص شوف .. شوف الناس والظروف

يمكن تلقى الديابة لابسة فروة خروف

يمكن تلقى الغلابة فى أول الصفوف

في القصيدة التي غناها الشيخ حسني نقد للمجتمع والإعلام، بما فيها من بعد رمزي، خاصة في بلاغة التشبيه (مدبغة ومصبغة)، أي في قلب الحقائق وخداع الجمهور-الشعب.

في الفيلم عدة مشاهد ذات دلالات على المجتمع العربي، منها: حين يتمدد يوسف في قارب تاركه لماء نهر النيل، دون توجيه، السائق الكفيف (الشيخ حسني) للموتوسيكل، في الحارة وأحد الكباري (الجسور) على النيل، ومشهد اكتشاف الشيخ عبيد الكفيف أن مرافقه كفيف مثله، فما إن يضحك مما يكتشفه حتى يحزن بعمق، في واحد من أهم المشاهد، حتى أن الفنانة فاتن حمامة سيدة الشاشة العربية حين قرأت هذا النص من سيناريو الفيلم ظلت تبكي.

هو البصر وهي البصيرة، بما نرى ونبصر، من رؤية بصرية وقلبية، لعلنا فعلا نرى بحق ما يكون، فنستجيب لمسؤوليتنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى