العرب أمة القرآن.. دروس في التاريخ (1)

د. خضر محجز | غزة – فلسطين   

فتح الخورنق والسدير: في ربيع الأول عام 12 هجري شهر مايو 633 ميلادي

في هذه المعركة ولّى جيش الفرس بقيادة “آزاذبة” الأدبار، بعد مقتل ابنه، فترك أهلَ الحيرة إلى مصائرهم، وهرب باتجاه المدائن. فيما تابع جيش المسلمين ـ بقيادة سيف الله خالد بن الوليد رضي الله عنه ـ تغلغله في الحيرة، على الطريق إلى المدائن، حتى بلغ قصر “الخورنق” وهو حصن فيه قصر يحكم منطقة الحيرة، جنوبي العراق بالقرب من النجف الآن، حيث يزعم الحمقى وجود قبر علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ فيه.

وليس بعيداً عنه حصنٌ آخر اسمه “السدير” وكلاهما من قصور المناذرة، وكانت قصتهما أسطورة آمن بها العرب، وذكروها في تواريخهم وأشعارهم، لا نعرج عليها الآن، وإن خلص لنا منها أن الشعراء العرب ربما يكونون قد أدركوا منها القصرين؛ فقد رأيت الشاعر الجاهلي “المنخل اليشكري” يذكرهما في قصيدته الغزلية، التي ذكرت فحشه في عشيقته “المتجردة” زوجة “النعمان بن المنذر” آخر ملوك المناذرة، قال في بعض أبياتها:

ولقد دَخَلتُ على الفتا

              ةِ الخِدْرَ  في  اليوم  المطيرِ

الكاعب الحسناء   تر

            فل في الدِّمَقس وفي الحريرِ

فدفَعتُها فتدافعتْ

                مشيَ القطاة إلى الغديرِ

ولثمتُها فنتفّسَتْ

                     كتنفّس الظبي البَهير

وأحِبُّهَا وَتُحِبُّني

                        وَيُحِبُ ناقَتَهَا بَعِيرِي

وَلَقَدْ شَرِبْتُ مِنَ الْمُدَا

                     ــمةِ بِالصَّغيرِ وبِالْكَبيرِ

فَإِذَا انْتَشَيْتُ فَإِنَّنِي

                    رَبُّ الْخَوَرْنَقِ وَالسّدِيرِ

وإذا صَحَوْتُ فإِنّنِي

                     رَبُّ الشُّوَيْهَةِ وَالْبَعيرِ

ويظهر من وصف الإخباريين غير الموثوق أن “الخورنق” كان قصراً كبيراً أُعِدَّ لسكنى الحاكم وحاشيته، وليكون حصناً يهيمن على مشارف البادية. أما “السدير” فأصغر من ذلك، مكون من قبة في ثلاث قباب متداخلة. والهام في كل هذا، أن المنطقة على مشارف غربي الفرات، مما يلي الشمال الشرقي من بادية العرب، كانت محكومة بهذين القصرين، وتُسمى باسمهما.

نحن الآن في بدايات مملكة الحيرة، التي كان حاكمها قينٌ عربيٌّ لكسرى، يستعبد العربَ لحساب الفرس باسم العروبة، فيسمونه “ملك العرب”. وكان أغلب السكان العرب هناك من النصارى، بمن فيهم ملك الحيرة الجديد، “إياس بن قبيصة الطائي” الذي وطّأ له الأكنافَ كسرى، بعد قتل النعمان، وتحالفه معه ضد بني جلدته من بني شيبان العرب يوم ذي قار، الذي مثل أول نصر عربي على الفرس قبل ظهور الإسلام.

وأودُّ أن أُنَبِّهَ إلى أني حين أتكلم عن بني شيبان، فإنما أشير إلى أعظم بطون “بكر وائل”. فإن قلتُ: “بكر” أو “شيبان” فكلاهما عندي واحد.

لقد هزمت قبائلُ بكر عربَ الحيرة النصارى يوم ذي قار، وكان صاحب حربهم ـ رئيس الأركان بمفهوم اليوم ـ يومها “المثنى بن حارثة الشيباني” الذي يواصل الآن حربه على الفرس، تحت راية الإسلام.

تَحَصَّن أهلُ الحيرة العرب النصارى من حلفاء الفرس، في حصونٍ أربعة. فقسم خالد جيشه أربعة أقسام، أوكل بكل قسمٍ منها محاصرة حصن من الحصون:

فحاصر جيش “ضرار بن الأزور الأسدي القرشي” حصن “القصر الأبيض” وفيه “إياس بن قبيصة الطائي” القَيْنُ خليفة القَيْنُ.

وحاصر جيش “ضرار بن الخطاب الفهري القرشي” ـ ليس أخا عمر ـ “قصر العدسيين”، وفيه “عدي بن عدي بن المقتول”.

وحاصر “ضرار بن مقرن المزني” ـ وهو أخو “النعمان بن مقرن” ـ “قصر بني مازن” وفيه “حيري بن أكال”.

وحاصر “المثنى بن حارثة الشيباني” قصر “ابن بقيلة” وفيه “عمرو بن عبد المسيح”.

وعَهِدَ خالدٌ إلى أمرائه أن يدعوا المحاصَرين إلى مثل ما دعا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أهل الكتاب: الإسلام، أو الجزية، أو القتال. وذلك طاعةً لأمر الله في آخر ما نزل من القرآن من قوله: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾

وأمرهم خالد أن يمهلوا المحاصَرين يوماً، فإن أجابوا وإلا عاجلوهم بالسيف.

فيا أيها القارئ، إن أعجبك هذا فهو حظك من الإسلام، وإن لم يعجبك ما قال الله، فَلْيَهْنَكَ حميمٌ وغسّاقٌ.

ولكن المهلة انتهت ولم يَرُدَّ الكاذبون جواباً، فنشبت الحرب.

يتبع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى