مقاربة حول النّص النقدي العربي الحديث
محمد المحسن | شاعر ونافد وكاتب صحفي وعضو اتحاد الكتاب التونسيين
ليس هناك نقد لأنه ليس هناك أدب ” هكذا يقال ..
الصحافة خطفت خيرة النقاد وحولتهم إلى صحفيين ” قيل أيضا،لكن أليست علاقة الأدب بالنقد،علاقة الندية و التكافؤ والأسرة الواحدة..!؟
ثم ألا يجوز القول بأن ” حضور ” أحدهما مرهون بحضور أو غياب الآخر، و إن كان غياب “الأدب” يكاد يكون أمرا مستحيلا!؟
ثم أولا و أخيرا : ألم يحن الوقت بعد ، لصياغة عطاء نوعي و مستقل في حقل النقد الأدبي ينأى عن ” العفوية ” التي تفرض الإنطباعات الجزئية دون استخلاص المعيار!؟
قد لا يحيد القول عن جادة الصواب إذا ما قيل أن ” التقصير ” في النقد العربي الحديث ذو دلالة سوسيولوجية تتجاوز أسوار المصطلح الجمالي للنقد إلى أبعاد اكثر شمولا يمكن ايجازها في الإشارة التالية :
تتجلى أبرز ملامح التقصير في مجمل الحركة النقدية العربية الحديثة في غياب ” المناهج ” التي تضبط ايقاع هذه الحركة مما يعني التقصير في إكتشاف قوانين التطور الأدبي العام في بلادنا، أي اكتشاف المسار العام للحركة الأدبية العربية الحديثة من ناحية،و القوانين المضمرة في التجربة الأدبية النوعية كالرواية و المسرح و القصيدة و القصة القصيرة من ناحية أخرى . وقد يظل هذا التقصير قائما ما لم يرافق هذا الأكتشاف المزدوج ” نقد النقد ”و هذه مسألة أخرى تدعونا بإلحاح إلى وضع “إستراتيجية” نقدية تضع في الإعتبار خصوصية الظاهرة الأدبية مع الإفادة من مكتسبات التراث النقدي الذي مازال في حاجة إلى الدرس و الإضاءة (1) ” لا سيما أن هذا النقد ( نقد النقد ) هو نقد للذات كما أنه نقد للأخر، وذلك بقدر ما يتيح طُرق بعض القضايا المحورية ، و بلورة المنهجيات المناسبة للمقاربات التي تفترضها.
و من هنا فالنقد مدعوّ الى ” الأخذ بمنهجية محددة في البحث وإعتماد طريقة موضوعية في معالجة المادة الأدبية ، وإجتراح المصطلاحات والمفاهيم الملائمة لها و السعي إلى غايات مستقلة بها(2) ” مما يعني أن النقاد -مدعوون- إلى الإستفادة من كافة مناهج النقد الغربية ، ولكن دون نقلها نقلا أعمى لا يراعي خصوصيات النص الإبداعي العربي، ناهيك و أن التطبيقات البنيوية و التفكيكية و غيرها موغلة في الغموض و التعقيد مما حدا ببعض المبدعين للقول بأنهم لم يستفيدوا مطلقا من النقد ولم يسهم في تطويرهم كما أعلن ذلك مرارا الراحل نزار قباني.
ضمن هذا السياق علينا الإعتماد على خبرنتنا الخاصة وتجربتنا النوعية التي تستفيد من المنهج الحديث بالإضافة إليه والحذف منه و التعديل فيه بما من شأنه أن يرمّم الجسور بين العمل الأدبي المعاصر والنقد من ناحية،و يردم الهوة بين القارئ والناقد من ناحية أخرى..
كذلك يغيب عن نقدنا الحديث تقليد البحث عن المواهب الجديدة و الإحتفال بها فقط عندما تتحول إلى مؤسسات،أي بعد أن تكتمل و لا تعود هي أو القراء إلى النقد، هذا في الوقت الذي بتناسى فيه النقاد .
إني أتكلم هنا عن ” النقاد الأكادميين ” بالمعني المدرسي للإصطلاح ، لا عن أشباه-النقاد- ممن يعملون مديري دعاية للأدباء والفنانيين- أن الموهبة الحقيقية الجديدة تعني بالأساس أن ثمة نبضا متميزا جديدا في الثقافة و المجتمع .و الإحتفال بها ليس تطوعا أو منّة و لا حتى ” واجبا ” بالمعنى الأخلاقي و إنما هو اكتشافا لظاهرة ثقافية – اجتماعية لمن يريد أن يبني رؤيا صحيحة للثقافة والمجتمع الذي يعيش فيه. اي لمن يريد أن يكون ناقدا ذا نهج. أقول هذا لأن ساحتنا النقدية بخاصة غدت مرتعا ل(تكتلات) غير بريئة،ما فتئت تصنع من بعض الأسماء المشهورة( ….) في الشعر و القصة و الرواية أصناما تعبد وتمجّد . وكأن الإنجاز الإبداعي العربي في هذه الفنون توقّف عندهم (!).
وهذا يعني عدم الإهتمام بالأسماء و المواهب الجديدة في الفنون كافة ولسوف تظل معظم الكتابات النقدية -هنا و هناك – كتابات فوقية على هامش النص الإبداعي مالم تتجاوز هذه السلبيات نحو أفق حركة نقدية واعية وواعدة..
ما أريد أن أقول ؟
أردت الإشارة إلى أن التعالي على أية ظاهرة أدبية – اجتماعية كالتجاهل المقصود لهذا الكاتب او ذاك لمجرد أننا نختلف معه فكريا، أو لأن أدبه لم يحقق مستوى جماليا راقيا هو في الحقيقة إحتقار لعديد القراء، أكثر مما هو إحتقار للكاتب نفسه، في حين نولي وجهنا عنه بدعوى أنه تحت مستوى النقد (…).
ليست هناك ظاهرة أدبية تحت أو فوق مستوى النقد، طالما أنها “ظاهرة” وطالما اننا ندعي الإهتمام بالمتلقي. وطالما ندّعي أننا أصلا نقاد أدب مهمتهم استكمال دورة الكتابة والقراء بالنقد. وأخيرا طالما أننا “نقاد نبحث عن مناهج تسترشد بالمدلول العام لحركتنا الأدبية في خط متواز لتطورنا الإجتماعي-الثقافي وفي خط متقاطع مع القوانين النوعية لفنوننا الأدبية”(3)
استتباعات :
إن ما يفضي إليه الرصد المقتضب للخطاب النقدي الحديث استتباعا لما تقدّم هو أن النص النقدي يتموقع في خانة التقصير-التي يعسر الخروج منها بغير السعي الحثيث إلى أن يكون همزة وصل بين نهضتنا والحضارة الحديثة في العالم، وهذا يقتضي منه “النضال” بقدر ما يستطيع في سبيل المشاركة الفعلية في نبض العالم بالإنتاج والعطاء، لا بالإستهلاك أو النقل لاسيما وأن الثقافة لم تنته بعد بانتهاء الحضارة الغربية أو انقطاع العطاء الغربي للحضارة بتعبير أدق .
على أية حال، بقليل من التفاؤل وبمنآى كذلك عن التعسفية أو الإسقاطية الذاتية أقول : إن النقد العربي الحديث قد حقّق بعض النجاحات سوى بتحويل مجموع اجتهاداته إلى “حركة من تيارات” لا مجرد التماعات فردية ، أو بإقترابه الجسور من جوهر التجربة الأدبية المحلية، أو بإلتصاقه الحميم بالطبيعة الخاصة للأدب. و مع ذلك فليست النيات – على طيبتها – هي المقياس أو الحكم في مثل هذه المسألة ، بل الفعالية الإجرائية العملية في مقاربة النصوص الأدبية ، وهي تتجلى في مدى اتساق المنهج البحثي وملاءمته للعمل الأدبي المتناول، و مدى إقناعه بتماسك طرحه وخصوبة نتائجه .. و تظل المفارقة في حالة توالد مع الأصوات النقدية الجديدة التي تنحت دربها في الصخر بالأظافر، حتى أنها ” تؤسس لتحويل نقدنا العربي الحديث الى حركة قومية من ناحية وتخصصات نوعية من ناحية أخرى.. الأمر الذي يشير ببطء شديد إلى إحتمالات نظرية أكثر شمولا في المدى المنظور (4).
على سبيل الخاتمة :
إن العمل الفني الجدير بصفة الإبداع هو ذاك الذي يصوغ جدلية العلاقة بين الماضي و الحاضر والمستقبل في حوار مجلجل ومساءلة عميقة . كما أن النقد المنهجي الجدير بصفة الإبداع هو أيضا ذاك الذي يعتقد في جدلية التطور التاريخي و ينآى عن التضخم النرجسي و الأحكام المسقطة ليستشرف المستقبل بعمق وثبات، و أخيرا، فإن التقصير في النقد العربي الحديث ليس خاصا بالنقاد كأفراد، بل كحركة نقدية عربية معاصرة شهدت إشراقات خلاقة على درب الإبداع ، منذ فجر النهضة إلى مغيبها. وكل ما أقصده هنا، أننا غدونا نعيش في ظل متغيرات كونية كاسحة تعبق برائحة التحديات، إذ أننا على هذه الأرض في مفرق الطرق بين الإنسحاق خارج التاريخ أو الولادة الجديد في ” ثورة ثقافية ” تصحح التاريخ باشراكنا من جديد في العطاء الحضاري للعالم .وما على النقد الأدبي –كفكر و فن وعلم – الإ أن يكون في مستوى التحدي وفي طليعة هذه – الثورة الثقافية الشاملة – كي يسجّل بحضوره الفعال علامة مضيئة في طريق التحول ومنعطف الإنتقال.
الهوامش :
1– زهرة الجلاصي: أنظر مقالها المنشور بمجلة الآداب – البيروتية- العدد 12/11 – ص 100
2– سامي سويدان – المرجع السابق – ص 54 – بتصرف طفيف
3- الدكتور الراحل – غالي شكري- عن كتابه : سوسيولوجيا النقد العربي الحديث – ص257.
4- د.غالي شكري – ذُكر سابقا – ص223 – بتصرف-
ـــــــــــــــــ
مــَن يطهّرني..من دنس الركض..!؟
“أبدا لن يموت شيء مني..وسأبقى ممجدا على الأرض ما ظل يتنفّس فيها شاعر واحد” (ألكسندر بوشكين)
كنتُ كما كان جدّي نبضا..
يخاف السقوط
بفوهة المستحيل
ويخشى سهاما تصيب من الخلف..
من ألف خلف
تخدش الرّوح
تطيح بأضلعنا..
في منعطف للثنايا
وترسلنا إلى الموت في موعد غامض..
وكان أبي مثل جدّي تماما..
أصفى من قمَرين معا
يحبّ الرحيل..
إلى أيّ شيء
يحبّ بلادا ويرحل عنها
لكنّي أراه يكفكف دمعا
كلّما رأى برعما غضّا يتهاوى
أو كوكبا مستفيضا..يتشظى
ثم يستحيل في هدأة الفجر
شظايا منثورة في الفضاء
ههنا الآن وحدي على مقعد لست فيه
أهذي لأسمع نفسي
أتحسّس درب اليمام على سطح قلبي
أستعيد ولادة عمري
أدافع عن زهرة لوز
تضوّع عطرها بين الثنايا
* * *
ههنا جالس حيث يعرفني الغرباء
أرنو إلى وطن..
كلّما قلت أنسلّ من عشقه
أفرد للنوايا بساطا..
وحمّلني وجعا مبهما
لا..
ما عدت أستطيع التحمّل
كأنّ عطر الفتوّة قد تلاشى
كأنّي جئت من زمن آخر كي أكون هنا
لحظة أو أقلّ
كأنّ وشم أمّي لم يزل يطاردني في المرايا..
كأنّ الرفاق الذين عاشوا في ضوئهم..قد مضَوا
أو تواروا في الغبش وراء الغيوم
ماتوا من ضوئهم..
وأنا..
ها أنا أجلس خلف جدار العمر أراقب طيفهم
غدا ربّما أسعى إليهم
وأحمل حنيني على كتفي
أقول غدا ربّما…
ربّما أمضي في الغيم بين ثنايا المدى
علّني أستردّ ما نهشته الجوارح من مضغة القلب
وأصيخ السّمع مع الرّيح،إلى جهة المستحيل
فقد- كفّت-الكأس-عن فعلها فيّ مما تداويت
واستبدّت بأوردة القلب مملكة للمواجع-
تنهش الرّوح
توغل في التشظي
وتؤجج خلف الشغاف
جمر العشايا..
وما ظلّ في خاطري الآن إلاّ حنين
يتذاكى،ويحملني دون إذن،على مركب اللّيل
كأنّي مع النوارس على موعد للرحيل
-لا مركب للغريب سوى شوقه-
لا رفيق له غيره
أو نجمة بين الضلوع،تضيء وتخبو ويرتفع الشوق
من فوق أضلاعها إلى..
تُرى؟
هل يبرق الصّبح شفرته عبر هذا الظلام الكثيف
فأنا في فيض العواصف،دون كفّ
لأدفع عنّي الأذى..
أراني أركض بين تهليلة الطين والماء
وما زلت أعدو
طليقا ومرتهنا بما
خلّفته الوصايا..
فمن،يطهّر الرّوح من دنس الركض
بين النفايات
ويعيد-لشيخ الستين-
ألق الصّبح..
وأريجه المشتهى..؟!