عندما كان هناك رجال
شوقية عروق منصور – الناصرة – فلسطين
رغم مرور أكثر من ستة عقود على زواج أمي ، الا أنها بين الحين والآخر وأثناء نقاشنا عن الأوضاع السياسية وحال الشعوب العربية ، لا بد أن تتطرق الى حياة جدي الذي كان يعشق – العرب – فأمي تختصر الشعوب والدول العربية بكلمة واحدة – العرب – حتى أنها كانت تقول عن خالي سعيد الذي أغلقت الحدود عام 1948 وهو يعمل في العراق في احدى شركات البترول أن خالك في العرب.
أمي تتطرق الى حياة جدي من زاوية الغضب والتذمر المثقل بالوجع ، لأنه رفض أن يعمل لها سهرة أو كما أطلقوا عليها – صمده – أسوة بعرايس تلك الفترة ، حيث كانت العروس تُصمد – أي تجلس على كرسي ، والكرسي قد وضع على طاولة، والتي هي غالباً تتراقص يميناً ويساراً ، وهناك عدة عرايس قد وقعت بهن الطاولة ، لكن رغم السقوط تُكمل العروس حقلة – الصمدة – حيث تستعرض فساتينها من المخمل والحرير النادر ، الذي كان يشترونه من المهربين او المتسللين، الذين كانوا يتسللون من الأردن ولبنان وسوريا الى فلسطين عبر الجبال والأحراش خفية وقد قُتل المئات منهم نتيجة التسلل الى الوطن .
كانت العروس تتجلى على انغام أوتار عازف العود الأعمى – زيدان – الذي رغم أنه أعمى ، فقد ولد ضريراً ، الا ان أهل العروس آنذاك كانوا يفصلون بين عازف العود زيدان وجمهور النساء بستارة ، فمن المعيب أن يشعر العازف زيدان حتى رغم فقده البصر بوجودهن أو يسمع أنفاسهن.
رفض جدي أن يكون لأمي سهرة حناء مثل باقي العرايس، حيث صرخ بوجهها :
كيف أعمل لك سهرة وأهل بور سعيد يُقتلون .. !! فش ضمير عندكو ؟؟ فش أخلاق !! أنا ما بقدر أعملك سهرة !! .. اما أهل العريس يؤجلوا الزواج أو تتزوجي على السكت ، عيب أحنا نفرح ونرقص وأهل مصر بنقتلوا وبتدمر بيوتهم بقنابل ورصاص بريطانيا وفرنسا وإسرائيل ..!
كان ذلك في حرب 56 ، أو العدوان الثلاثي على مصر ، تزوجت أمي وبقي كلام جدي الذي أصيب بنوبة قلبية في حرب 67 ومات قهراً من جراء الهزيمة ، وعندما توفي الرئيس جمال عبد الناصر ، أول عبارة قالتها جدتي لشبح جدي (منيح اللي متت قبل ما تسمع خبر موت عبد الناصر) .
صورة من الذاكرة، برزت في الظلام كالفسفور المشع، أتمسك بأنقاض صوت امي الغائب، أقود بحنان عربة ثرثرة الذاكرة ، أنفصل عن المكان الذي أتواجد فيه .
أنا متواجدة في احدى قاعات الأعراس ، تعبت من سماع الموسيقى وتأمل تزين القاعة وأجساد الراقصين والراقصات التي تتمايل على الانغام، وتبجح الأطعمة والسلطات والمشروبات التي تفتخر بألوانها ومهرجاناتها المختلفة في الصحون .
على بُعد مسافة حزن ، غبار الخجل يلطخ اللحظة ، قفزت مخالب وأنياب الجوع، لا أخشى سطوة الحزن بقدر سطوة السوط الذي يجلدني، لقد كان جدي العجوز ورجال ونساء الماضي أوفى منا ، وأكثر احتراماً وتضامناً مع القضايا العربية ، أما نحن وفي هذا الوقت والزمن بالذات ، زمن اضراب الأسرى الذي ينسكب على بلاط اللامبالاة من قبل الناس ، كأن هذا الاضراب الساخن يجري في جزر بعيدة عنا وليس لفلسطينيين من أبناء شعبنا .
لغة الصمت في ميدان (معركة الأمعاء الخاوية) ، أحاول الخروج من عنق وجع المقارنة بيننا الآن وبينهم ، بين الأسرى الذين رفعوا معدهم فوق أسنة الرماح بعد أن وجدوا لا أحد يهتم بهم وبقضاياهم ، وهناك التهميش الواضح لظروفهم الصعبة القاسية، أعاقب نفسي على وجودي في قاعة الأفراح، اتهم روحي بخيانة هؤلاء الأخوة والأبناء الأسرى ، لا أمثل دور القاضية التي تحاكم تفسخ كرات الدم ، أو تحاكم انهيارات القبضات ولعبة تقطيع الأيدي، لا أمثل دور شيخ القبيلة الذي يصرخ بشباب القبيلة ( أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ) لكن نادرة حين يكتشف الشعب أنه يعيش في تناقض فكري ومشاعري ، حين يضرب 1600 أسير عن الطعام ، ويدخل اليوم في بطن اليوم الآخر، والحياة تسير بطبيعتها الروتينية اليومية في القرى والمدن العربية ، في الضفة الغربية ، في غزة ، أنا لا يهمني الشعوب العربية في الدول العربية، يهمني نحن ، نابلس ، رام الله ، جنين ، طولكرم وغيرها الأسواق والدكاكين والمطاعم والبسطات والشوارع ، كل شيء ينطق أن مشاطرة الأسرى أيامهم الجائعة هو الوهم الذي يتغطى بجعجعة الشعارات ، وطحن فراغ الخطابات .
ما زلت في قاعة الأفراح ، يزفون العريس والعروس ، والنادل يطل على المائدة المليئة بالأطعمة الشهية ، مؤكداً أن ما زال هناك الكثير من الوجبات المتعددة .
الذاكرة تحاول تبرئة صورها من الواقع ، لكن لا أعرف كيف رأيت صورة الأسرى الفلسطينيين الذين ماتوا خلال أضرابهم عن الطعام قبل سنوات طويلة ” راسم حلاوة ” و ” علي الجعفري ” و ” اسحق مراغة ” و ” حسين عبيدات ” أسماء منسية في عالم يتم فيه نسيان كل شيء حتى الشهداء .
اول اضراب أسرى فلسطيني كان في تموز عام 1970 ، ومنذ السبعينات والأسرى يعلقون لافتات الانتباه والطالبات التي لا ترتقي الى طلبات الرفاهية، عندما يطالبون باحتضان أطفالهم والتقاط الصور معهم، أو تحسين بعض ظروفهم القاهرة، التي يطالبون فيها تحويلهم من بقايا بشر الى بشر يتنفسون فوق الأرض كباقي الكائنات الحية ، يكون الرفض ، فلا يجدون سوى سلاح المعدة .
أخجل حين أصمت أمام صور الأسرى المضربين عن الطعام ، وأخجل حين اتذكرهم واتسلل الى زنازينهم في ليلة عرس، وحين انظر في صحون الطعام التي بدأ النادل ينظفها ويلقي بالأطعمة في حاوية النفايات .
وأخجل حين بدأ الرجال يصفون في صف الدبكة ويرقصون الدحية، واكتشفت أن جيل جدي والرجال الذين عاشوا في ذلك الزمن أكثر احتراماً للمعاناة، وأصدق في سلوكياتهم اتجاه القضايا العربية والفلسطينية .