سقوط الشاعر في جبّ مديحه

د. موج يوسف |ناقدة أكاديمية العراق

تحدّثتُ في موقفٍ سابق عن مستقبل القصيدة المعاصرة أو الحديثة، وقلت: إنَّ أغلبها غير صالح للمستقبل البعيد ولا لتأملات الحياة، وهذا الرأي قادني إلى تساؤل آخر طرحته على نفسي يتعارض مع رأي الأول: لماذا القصيدة القديمة التي عمرها أكثر من ألف عام مازالت صالحة؟ بل ومتداولة في البحوث والدّرس الأكاديمي؟، ستنهل الإجابات لأنّها جزلة ومزخرفة الصّورة والبيان وما فيها من رنين القوافي، وقائل آخر: الشّعرُ ديوان العرب، والموروث وهويّتنا في حين أن الهويّة هي المتغير نقيض الثبوت فلا أرى هويّة حقيقة نصنعها من الماضي. ونعود إلى خلود القصيدة القديمة المحتفية بالبلاغة والتي صاغت خطاباً تتحكم فيه المصلحة الذاتية، وفي داخلها تصرخ العيوب النسقيّة وحتى لا نطيل على القارئ نضع نصب أعينه نشيد العرب القديم، معلقة عمرو بن كلثوم والبيت القائل: (إذ بَلغَ الفطامَ لنا صبيٌّ / تخرُّ له الجبابرُ ساجدينا).

لا نقف عند نحن القبلية والفخر وإنما موقفنا عند البلاغة التي ارتكبتْ جريمةً ثقافيّةً حين احتفت بالصورة واستعاراتها واغفلت عن القيّم الإنسانية التي نفاها الشاعر وهو الفحل، جاءت معلقته عن السيّد والعبد، وأخطر ما في العبودية ليس امتلاك الإنسان والتحكم بمصيره بقدر ما أن يتحكم بمصير الأمم المقبلة، وذلك عبر ترسب هذه الأنساق ونقلها من جيل لآخر، ونعني بشكل أدق أن الشاعر نقل فكرة إن القوي هو سيد الأرض ونائب الله فيها، وهذه الفكرة متوارثة إلى يومنا هذا بسبب ترسبات الأنساق من الشعر القديم. وصار المعيار النقّدي على فحولة الشاعر يتوزع بين معايير أهمها الجودة في غرضي (المديّح والهجاء). هذان الغرضان أسقطا الشاعر بخطأ نسقيّ منه: نفي الذّات الشاعرة، وترسيخ سيادة الآخر الممدوح فصار الشاعرُ يتخذُ بطلاً لقصيدته، وحتى نجعل الفكرة أقرب إلى القارئ: إنّ الشاعرَ حين يغرق في مديح السلطان أو الخليفة أو الحاكم فهذا يعني ضياع جوهر الشعر في سجون البلاط. وفي بحث طلب مني عن الشاعر علي بن جبلة المعروف بالعكوّك، شاعر عباسي، وقد اتفقت الآراء النقديّة من قبل كبار النقّاد القدامى بأنه (شاعر مطبوع عذب اللفظ، جزل، لطيف المعاني مدّاح حسن التصرف)، وهذا ما جعلني أتساءل هل هذه المعايير كافية لجودة الشّعر؟، وماذا عن الجوهر؟، ولكي لا نطلق أحكاماً مسبّقة سنسلّط الضوء الأحمر على شعره بقراءة ثقافية، فيقول مادحاً حميد الطوسي في ديوانه المحقق بتحقيق د.ذاكر العاني: يا دواء الأرض أن فسدت** ومجير اليسر من عسره. عن الإصلاح الدائم استعار لفظ دواء الأرض، ولكن الصورة لا ترضي غرور بطله الشعري فأكمل لوحته بصورة أخرى، مع الإصلاح لا بد أن تتوفر الحماية للشعب؛ لذا استعار لفظ المجير بمعنى الحامي أو المانع من أي خطر، فعزز صورةَ الحاكمِ بنفس المتلقي وضمن خلوده عبر التاريخ، فرؤيتنا الثقافية ترى أن الأبياتَ صاغتْ صورة الطاغية والدكتاتور عبر تعظيمه بصفات قد لا تكون به، والطّغاة تُصنعُ من الخطابات الكاذبة والجميلة. لكن يأتي من يعارض هذه الرؤية بحجة أننا مع الحداثة ونرفض القديم ورؤيتنا مجحفة، فلا بد من الردّ عليه بحجة تتلاءم مع فكره المتعصب للقديم، وهي موجودة في البيت نفسه هي استعارة (المجير) هو اسم من أسماء الله الحسنى وصفاته، فانتزعها الشاعر من الذّات الإلهية ولصقها بممدوحه الطوسي، وهذا يتعارض مع الرؤية الدينية التي هي ضد الحداثة ايضاً. وشعراء المديح في الرؤية الثقافة قد وصفهم الدكتور الغذامي بـ (الشحاذ البيلغ الشاعر المدّاح). ولأنَّ الكرم والشجاعة أهمّ الصفات التي يفتخر بها العربي فكان لها حيّز كبير في شعر الشحاذ البيلغ، العكوّك إذ يقول: (والجود في كفّ غير خشن / وهو بكفيه لين سرب).. ويقول ايضاً: حميدٌ يا قاسم (الدنيا بنائله/ وسيف بين أهل النكث والدين).. وايضاً: (كان لأهل العيد عيد بنسكهم/ وكان حميد عيدهم بالمواهب).. وأبياتٌ كثيرة يحتفي ديوانه ببلاغة الصور ورونقها بينما نلحظ أن مسرح شعره قد أباد الذات لما نقله عن خلود الآخر وجعله بطلاً أسطورياً وهو الممدوح. ومع كلّ هذا التقديم لم نجب عن سؤالنا: سبب خلود القصيدة القديمة؟، لأنّها دخلت ضمن الموروث وهذا الأخير جعله حكّامه ضمن الهويّة، والمقدّس الذي لا يفكك ولا يُعاد قراءته من جديد ومن يفعل يكون متمردا أو ينتقص من عروبته ويكون داعماً للحركات الاستشراقيّة وغيرها من التسميّات الجاهزة التي نُسبت إلى بعض النقّاد. فهل نبقى نعيش على ما تركه الموروث؟، وهل نسمح لأنساقه أن تترسب وتتوغل في ذواتنا؟، ومتى سننتج حضارة؟، وكلّ هذا يتطلب حرية عالية بالرأي، ومناقشة الأفكار بصوتٍ عالٍ، وهذه الآراء الحرّة كيف لي أن أكتبها ببحث كلفتُ به لمرحلة الدكتوراه التحضيريّة، وأستاذي يرفض تشريح الشعر القديم وتعريّته أمام الفكر والنقد الثقافي؟، فصار في داخلي موسى وفرعون يتحوارن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى