أدب

متتالية قصصية: نساء على ارتفاع شاهق

ھدى حجاجي أحمد|مصر

الفصل الأول: الإقلاع الأوّل

كان صباح المطار يشبه غرفة عمليات، كل شيء فيه يتحرك بسرعة محسوبة؛ عربات الحقائب، النداءات المتكررة، رائحة القهوة، ووجوه المسافرين التي تتوزع بين شوق وقلق وساعة يد تتأخر.

وسط هذا الزحام، كانت ريم تمشي بخطوات ثابتة، كأنها تعرف طريقها حتى لو أغمضت عينيها.
لم تعد تشبه المرأة التي انهار زواجها قبل عامين؛ تلك التي كانت تكتب رسائل طويلة ولا تتلقى سوى الردود الباردة.
الآن… كانت تشبه امرأة قررت أن تمنح نفسها جناحين جديدين.

توقفت عند بوابة الصعود، ضبطت شالها الأزرق، ثم نظرت سريعًا إلى زميلاتها الثلاث اللواتي يقفن معها على الرحلة ذاتها—كانت لا تعرف أن هذه الرحلة ستغيّر مسارات حياتهن جميعًا.

سارة – من تحمل العالم دون أن تشتكي

كانت سارة تُراجع جدول العمل على هاتفها، ووراء عينيها ظلّ متعب لعشر سنوات قضتها بين الدراسة والتوفير وإخوتها الذين ينتظرون راتبها آخر كل شهر.
لم تأتِ إلى الطيران حبًا في السماء، بل هروبًا من الأرض التي تركها والدها محمّلة بالديون والوعود الفارغة.

قالت لها ريم وهي تلاحظ شرودها:
– إخوتك بخير؟
ابتسمت سارة:
– طالما أوقفنا عدّاد مصاريف الشهر… يبقوا بخير.

ضحكت ريم، رغم أنها تعرف أن الضحك هنا وسيلة للبقاء فقط.

ليلى – التي حاولت الحياة أن تُطفئ لونها

في الزاوية الأخرى، كانت ليلى ترتّب شعرها القصير وتخفي ارتباكها.
لم تنم الليلة الماضية، فقد كان عمر – الطيار الذي أحبته رغم اعتراض عائلته – سيقود هذه الرحلة.

تظاهرت باللامبالاة، لكنها حين رأت اسمه على شاشة غرفة الطاقم، ارتجفت يدها التي تحمل ملف الرحلات.
الحب في المطارات أصعب أنواع الحب… فهو يحدث أمام نصف العالم ولكن لا يمكن الاعتراف به أمام أحد.

نجلاء – أرملة تحمل وجعًا لا يراه أحد

أما نجلاء، فكانت ترتدي شارتها العسكرية الصغيرة تحت زيّ الطيران، تخفيها داخل جيبها دائماً.
لا أحد يعرف أن زوجها استُشهد في معركة صامتة لا تذكرها الصحف إلا سطرًا واحدًا.
ولا أحد يعرف أن كل إقلاع هو بالنسبة لها لحظة فقد جديدة، كأن السماء نفسها تذكّرها بمن فقدته.

قالت لها ليلى وهي تلاحظ انعزالها:
– أنتِ بخير؟
ردّت نجلاء بنبرة ثابتة:
– أنا دائمًا بخير… بس حاسة إن في حاجة هتحصل النهاردة.
لم تعلّق ليلى، لكنها شعرت بالقشعريرة ذاتها.


البداية التي لم ينتبهن لها

عندما دخلن الطائرة، كانت الأمور تسير بشكل طبيعي:
تفقد مقاعد، تجهيز وجبات، تحية الركاب.

لكن ريم لاحظت شيئًا غريبًا في حقيبة خدمات وضعتها الشركة مؤخرًا في الطائرة.
حقيبة أثقل من المعتاد… مُغلقة بشريط مختلف… ولم تُسجّل باسم أحد.

أبلغت المشرفة:
– الشنطة دي مش من المعتاد تكون معانا..
لكن المشرفة ردّت ببرود:
– التعليمات من الإدارة. ما تفتحيش حاجة مش مكتوبة عليها اسمك.

كان في الرد قسوة غير مبررة… وصمت مبالغ فيه.
شيء ما لم يكن طبيعيًا.

لم تعلم ريم أن هذه الحقيبة ستكون بداية الكارثة.

لحظة الاقتراب

قبل الإقلاع بدقائق، ظهر عمر في مدخل الطائرة، بابتسامة هادئة جعلت ليلى تنسى كل شيء للحظة.
كان المطار خلفه يبدو كأنه يتوقف احترامًا له؛ الطيار الوسيم ذو العائلة الثرية الذي تحاول الحياة أن تقول له دائمًا:
“من حقك أن تختار… فقط ليس ليلى.”

مرّ بجوارها همسًا:
– كله تمام؟
أومأت ليلى، بينما قلبها يخفق بعنف.

أما ريم، فكانت تراقب المشرفة التي اختفت خلف ستارة المقصورة، وتتحدث بالهاتف بصوت منخفض.
مرّت ثوانٍ… ثم التفتت إليها نظرة حادة سريعة، وكأنها تراقب كل حركة تقوم بها.

هنا، شعرت ريم أن شيئًا يدبّر لها…
شيئًا أكبر من مجرد حقيبة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى