مدرسة علم الاجتماع الكوروني المعاصرة
أ.د. ميلاد مفتاح الحراثي | جامعة استنطبول – تركيا
عادات وتقاليد الزواج الكوروني
كلمات مفتاحية معاصرة: الزمن الكوروني/ السنة الكورونية/ استئناس العصر الكوروني/ العادات والتقاليد الكورونية/ الانقلاب السلوكي/ علم الاجتماع الكوروني/ الاقتصاد المعرفي الرقمي/ المدرسة السلوكية الكورونية/ التبدل التدريجي للسلوك/ التوازن النفسي / دمقرطة الرأسمال الرقمي/ علم اجتماع النفس الكوروني/
لقد أثبتت ملامح العصر الكوروني علي سلوكيات الانسان اينما وجد، فالجائحة ملأت الدنيا وشغلت الناس، وشكلت انواع مختلفة من الرعب والحذر في العالم كله، وحمل دولهِ على غلق حدودها، وتعليق أنشطتها، ومن ما شك فيه لو عاصر عالم اليوم العصور الغابرة والقديمة الذين كانوا يؤرخون بالأحداث لأرخوا بهذه الجائحة ووصفوها: بالزمن الكوروني، أو العصر الكوروني، أو بالسنة الكورونية.
ففي ظل الحظر الذي فرضتهُ الدول لحماية مواطينيها، فقد تعايش المجتمع الانساني، وفي معظمه مع جائحة القرن الكورونية، وغيروا عاداتهم وأنماط معيشتهم، وتكيفوا مع أوضاعهم، ومن اهمها تغير العديد من العادات والتقاليد الاجتماعية بفعل تأثير العصر الكوروني، ومن جملة التقاليد الكورونية تلك التي تتعلق بمراسم الزواج. عادات الزواج وفي معظم الثقافات تغيرت، ومختلفة عما عليه قبل هذا العصر، فقاعات الأفراح مغلقة، وممنوع التجمع بها، بسبب ساعات الحظر في الليل او النهار التي تمنع من التنقل.
فالتداعيات الاقتصادية للجائحة اختصرت عادات الأسر خصوصا في تلك الأشياء المُبالغ فيها، والزائدة عن المعتاد، فاجبر الانسان ومن حوليه إلى الاختصار، والاقتصار على الواجب الاساسي فقط. زيجات العصر الكوروني اختصرت التكاليف، فتكاليف الزواج باهظة وتثقل كاهل اهل العروسين، وحفلة الزواج تساوي، أو تزيد عن المعقول. لقد اختصرت الوقت، فوقت مناسبة الزواج التي تمتد من المغرب أو العصر إلى قرب الفجر، اصبح ساعات محدودة، في ظل بساطة التكاليف.
لقد افرز العصر الكوروني عادات سلوكية جديدة في معظم المناسبات الاجتماعية وفي مختلف انحاء المعمورة، حيث الزم السلوك الكوروني بان يلتقي عادة عدداً محدداً من الحضور من عائلتي وأقارب الزوجين، يجتمعون على مائدة عادية، وتتم حفلة ومراسم الزواج المختصرة والمحددة ظهراً أو ليلاً. انهُ العصر الكوروني الذي يختصر الزمن، ومعهُ مختلف التكاليف، والتي لا تُليق بسرعة الزمن الكوروني.
والانف الذكر انطبق أيضا علي مراسم الوفاة والوفيات، حيث تغيرت عادات وتقاليد الدفن وقبول التعازي، واختفت كل مظاهر التجمع حول اقارب المتوفي، والاكتفاء فقط بقبول التعازي عبر الوسائط الرقمية، وفي هذا اختصار للوقت وللتكاليف. وبهذا التحول السلوكي للانسان الكوروني اصبحت مناسباتهِ والمشاركة فيها رقمية، ومن خلال التواصل الرقمي، تماشيا مع ما تُفرضه سياسات الحظر والتباعد الاجتماعي بين الناس. كل ذلك سوف يمثل مدرسة كورونية سلوكية تحتاج الي المزيد من الرصد والتحليل.
المدرسة السلوكية الكورونية
هل مدرسة الانقلاب السلوكي المفاجيء للعصر الكوروني التي أحدثتها جائحة كورونا وما صاحبها، من سياسات وإجراءات، كافية لتشكيل ثقافة سلوكية بشرية جديدة، ولتكييف الإنسان نفسه، وأوضاعه بما يتواءم مع الضوابط والتعليمات التي تفرضها المجتمعات علي مواطينيها ؟ وهل ما كان مرفوضاً أو ممجوجاً أصبح مقبولاً ومبرراً، ويتم تنفيذه بتلقائية؟ باختصار، هل حدث ما يمكن أن نسميه بالتبدل التدريجي للسلوك والعادات والتقاليد والانماط الحياتية، هذا كله سوف يجيب عليه علماء الاجتماع!
لا مجال للشك في ان تداعيات الوباء الكوني قد أحدث تطورا للمنظومة السلوكية لحياة الانسان والمجتمع، إننا نري في الافق أن هذه الجائحة أنشأت حداً تاريخياً فاصلاً يُدشِّن لمرحلة جديدة مختلفة من السلوك والعلاقات على المستوى الشخصي والمجتمعي المحلي والدولي. ولكن هل سيتم استغلال عالم ما بعد العصر الكوروني لمصلحة قوى كبرى أو أنظمة أو أصحاب نفوذ، وتفرض سلوكها علي الاخر؟
الذي حصل، بالشكل الذي جعل الإنسان قابلاً لتبني ثقافات جديدة أو الخضوع لإجراءات تقيد حريته وتحوله الي قيمة رقمية كارادة جمعوية، قد فتح المجال لعدد من الفرص والمخاطر، تتضمن جوانب مختلفة محتملة فرضت فرضاً. كثيراً ما يكون السلوك الإنساني في حالة اختلال وانتقال وتطور التي تصاحب هكذا أحداث مفصلية سلوكاً تلقائياً ومستجيباً للتعليمات والأوامر؛ حيث يصبح الخوف والبحث عن الأمن هو الدافع الرئيسي للسلوك الانساني.
وبالتالي تفقد الكثير من القوانين والأنظمة والعادات والتقاليد والأعراف وحتى الالتزامات الدينية والأعراف الاجتماعية قوتها ومرجعيتها، وتنحسر سلطاتها وتأثيرها في الحياة العامة مقابل سلطة الامر في نظام قائم. هذه الحالة السلوكية المستجدة التي تبرر للسلطات المسؤولة انتزاع إرادة الانسان وحريته وانتقاص حقوقه، تحت ذريعة الإجراءات الوقائية ، يمكن أن تتحول بشكل أو بآخر أو بدرجة ما إلى حالة تجعل الإنسان قابلاً للتماهي معها كأعباء وقيود دائمة. وما يصعب لدى الانسان ملاحظته أن الإجراءات تكون ثقيلة الوطأة في البداية، ولكن عندما يتم تخفيفها لا يتم تخفيفها بالكامل، وإنما يتم الإبقاء على عدد منها بحيث تصبح جزءاً من الثقافة والسلوك العادي للإنسان.
نقلات سلوكيه كورونية
ثمة إيجابيات عكستها جائحة كورونا على سلوك الإنسان، فالحجر المنزلي أعطى فرصاً أفضل لاجتماع الاسر وتقوية علاقاتها، وتحسين العلاقات الزوجية، وتربية الأبناء وتعليمهم، وأعطى فرصاً أفضل لتخفيف النفقات غير الضرورية على مظاهر الترف الاجتماعي، والولائم والحفلات، والسهرات والتسوق والسفر. وأحدث البقاء في البيوت نقلة نوعية في وسائل الاتصال الإلكتروني، وفي العمل والدراسة عن بُعد (Online)، وفي عقد الاجتماعات، وإقامة الندوات والمحاضرات، وحتي اجتماعات ورؤساء الدول. كما حدث تخفف من استخدام وسائل المواصلات وخفض منسوب التلوث البيئي.
وفي مجال الموازانت المالية والانفاق الحكومي التزمت جائحة القرن إلى أهمية القطاع الصحي، وإلى صرف ميزانيات أكبر لصالحه، ولصالح الأبحاث والدراسات والاختبارات لتطوير الأدوية واللقاحات. فتحول الاهتمام بالبنيات التحتية وتحددت معها مسارات جديدة للتنمية في العصر نحو الاهتمام بالقطاعات الصحية والطبية وصناعاتها المختلفة.
في هذا الإطار أحدثت الجائحة أدبيات وثقافة اجتماعية سلوكية جديدة متعلقة بالنظافة والطهارة والتعقيم، ونشر الثقافة الصحية بين أفراد الأسرة صغاراً وكباراً، وفي الجامعات والمدارس، والمعامل والمؤسسات الحكومية والخاصة؛ وتجاوز مختلف سلوكيات العصر ما قبل الكوروني عندما تعلق الأمر بالأولويات الصحية لعموم السكان. والتطور السلوكي أنتج مفهوم سلوك الحجر الصحي علي نطاق سكاني واسع، وابتكار أساليب للتعقيم. هذا كله قاد الي اعادة هيكلة النظم الصحة العالمية والوطنية من جديد لانتظار واستقبال الاسؤ في تاريخ الانسان.من ناحية أخرى، وعلى صعيد السلوك، أدى إلى خلق حد أدنى من المسافة بين الأشخاص والدول عندما تقفل حدودها ومطاراتها.
العصر الكوروني وعلم الاجتماع الكوروني
يتصور النص الاسترسالي ان الوقت قد حان للعقل العربي ان يبتعد لو قليلا عن العلوم التخريبية، واللحاق بالزمن الرقمي السلوكي، وان يُعيد النظر في مناهج واساليب التعاطي مع العلوم الفاقدة لجدوتها العملية والتطبيقية، خصوصا العلوم الاجتماعية والانسانية. فهي مدعوة الي الامتثال امام تطور العصر ومقتضياتهِ ، بأن العلوم الاجتماعية مطالبة بالبحث في اللحظات المتلاحقة للعصر الكوروني، وبالذات في القضايا الآتية حسب حقولها المختلفة ومنها علم الأنثروبولوجي( علم دراسة الانسان) من حيث تماثلات الجائحة وتأثيرها على الحياة الاجتماعية والسلوك الانساني، ومن حيث أنماط التفكير في التعامل معها ،وكذلك العمل علي تفسير حدوثها.
فللجائحة المعاصرة اليوم تداعيات كبيرة علي القواعد الاقتصادية ونظرياتها من حيث مدي تأثير الوباء على مختلف قطاعات الاقتصاد الوطني والعالمي، كما تمت ملاحظته اخيرا من خلال امتناع بعض الدول من تصدير منتجاتها خوفا من تنبؤات المستقبل. والأهم من ذلك كيفية السباق مع الاقتصاد المعرفي الرقمي العالمي وتخصصاته وفروعه الالكترونية ؟
وفي سياق سياسات العلاقات الاجتماعية نلاحظ ندرة ما كُتب لمدي تأثير مسافة التباعد، ودور الإشاعة، والتضامن الاجتماعي، وديناميكيات العائلة وظروفها، والمجتمعات الرقمية، ومفهوم الدولة وعلاقته بالمجتمع والمجتمع المدني، وعلاقة القطاعين الخاص بالعام في ظل التواصل بين المجموعات الافتراضية والسعي نحو دمقرطة الرأسمال الرقمي في ظل الثورة الرقمية. هذه حقول معرفية جديدة يتوجب معها رصدها وتحليل ابعادها المستقبلية علي حياة الانسان.
علم النفس الاجتماعي هو ايضا يحتاج الي انقلاب مفاهيمي ومعرفي يتسق مع تداعيات العصر النفسي الكوروني من حيث الامتثال مجددا امام ظواهر التباعد بين الافراد، والاجناس، والعزلة الاجتماعية، والعزل، ومدي تأثر العواطف بالجائحة، في ظل الحالة العامة للتوتر النفسي للانسان والانتظار الطويل، ومديات التوازن النفسي التي وصلت اليها حالة الانسان في العصر الكوروني.