الشّارِد

يكتبها: محمد فيض خالد

الجوع أهون ما يَلقَاهُ في حَياتهِ البائسة، تكالبت المآسي عَليهِ مُنذ خَرَجَ من بطنِ أمّه الضّيق، تشعّبت مسالِكه مليئة بالأشواكِ ، تُحَملِّهُ أوجَاعا لا يجد  عنها مَصرِفَا، حتى ميراث أمّه الذي بنىَ عليهِ عريض آماله، التهَمه خَاله ودفنه في بطنهِ ، حَملا لا يُريدُ أن ينزل، يُردّد في القريةِ كلّما خلا بصاحب ٍفي عَنجَهةٍ وجَشَع: “كيف يذهب كدّ الرِّجال وعرقهم للأغرَابِ ؟!”، بدى ” صلاح” في أسمالهِ البالية مضَعضع الإرادة واهن العَزيمة، دائم الشِّكاية من دُنياه سَاخِطا على أقدارهِ ، يُشاهِد شُحُوب وجههِ الطباشيري الباهت على صفحةِ مياه المصرف ، يمرّر يدهُ فوق عظامه الناتئة، وقد اعتكَرَ صفاء روحه ، يهمس بصوتٍ فيهِ أنّه المكروب :” ألاَ من سَبيلٍ للخلاصِ من هذا الشّقاء، لماذا كُتِبَ علينا الفقر دون العالمين؟!”، تَعرّت الحَياة في نظرهِ، نفضت عنها ما يَستر قُبحَها المشوّه، يسعى المسكين وراءَ حلمٍ غَامض وراء قشّة الغريق، استَسلمَ لهُ حتّى سدّ عليهِ مداخلَ نفسه ، تلتمعُ في زوايا روحه خيالات يَظنّ أنّ معها الخَلاص من كآبةِ حياته الشَّوهاء، عَاشَ يَغبُ من هذا الإحساس ، يُدير خياله الخصب المهتاج مُثرثرا بلا غَضَاضةٍ في كُلِّ مكانٍ، يُدير عينيه في سَقَفِ الجَريدِ المُتَساقِط من فوقهِ ساعة ،  يُشيَعه في حنقٍ يزمجر، لحظتئذٍ يقصّ عليه والده في انكسارٍ قصصِ من سَاروا سيرته، أولئك الذين خَرَجوا ذاتَ يومٍ ولم يعودوا، شَيَعتهم القريةُ إلى كُهوفِ  النَسيان لتَحتويهم ، بعد إذ جَاهروا بالعصَيانِ ، حَمّلوا أنفسهم فوقَ احتمالها ، ضَجَروا وبَطروا ، قادهم الشَّيطان لمزالقِ الرَّدى وتلك عُقبى الخاسرين ، يتراقص الغضب في عُروقهِ، يَنفث أنفاسَ الخيبة، لتنَساب ضحكات حَسيرة تَهتزّ الجُدران الصّامتة بوقعها، يرمي والده بنظرةٍ ساكنة ، يبصق على الحائطِ مُتأفّفِا ، ثم يندفع إلى الدّربِ لا يلوي على شيء، سئمَ حياة الرِّيف وملَّ أهله ،يتنمّر في نظراتٍ محمومةٍ، تُنبئ عن زهدٍ، يُشَعشعُ في رأسهِ بُركان يفورُ ولا يَهدأ ، لكنَّه يَركنُ إلى عُزلةٍ يلتقط معها أنفاسه ، يخال نفسه وقد هَجَرَ هذا كُلّه، مَاَلَ على هراوةِ فأسه فحطّمها ، فأسه الذي استعبده كأسلافهِ من قبل، خيالات تحومُ من حوله ، تلفّه في عالمٍ وردي ، ضحكات من سبقوه تجوس مراتعَ النّعيم ، حياة بلا تعب أو نصَب ، ذابوا وسط زِحَام المدينة ، خاصموا الطّين وعادوا أهله ، ” مختار” حرامي اللّيف، هَجَرنا مُنذ سَبعِ سنواتٍ ، انقطعت أخباره ، اللّهم إلّا هَمسَا يَدورُ أمام الأفرانِ وجلسات العَزاء، أخباره يحملها على استحياءٍ ” عطالله” سائق اللوري:” كويس ، عنده نصبة شاي جنب المحكمة ، والأشيه معدن “، لكن ماذا يصنع مع ” زينب” ولم يُصَارِحها بعد بحبهِ ، تُرى هل تعلم بهِ وبتبَاريح عشقه؟! ، يُقلقه إصرارَ والدها، وأنّى لفقيرٍ مثله حظّه من دُنياه التعاسة أن يستميل الرّجل ! ، بعدما عَقدَ العَزّمَ أن يزوجها ” مجاهد ” مالك الطاحونة ، إنّ اقسى ما يخشاهُ ؛ أن تَخبو في قَلبهِ جذوة آماله ، أن يَصبح وقد وجدَ نفسه بين عشيةٍ وضُحاها نَسيا منسيا، بعدما تَمشّت بهِ أيامه ، كَانَ الصَّباحُ رماديّا ، لاحت شُخوص الكائنات باهتة يغشاها السُّكون، وبَينما تتَسلّل أشعة الضُّحى مُتخاذلة تحَتجزُ مَكانا لها وسط الأفقِ المُلتهَب ، طَارَ الخبرُ المَشؤوم يَلِفُ القرية :” اختفى صلاح ، هَرَبَ ليلا ولن يرجع “، لَملَمَ ثيابه وغادرَ في صمتٍ، انتزعَ نفسه بعدما تخبّط عمرا في أوحالها ، نَزَلت الفَاجعةُ كالطَلّ البارد على قلبِ والده ، لم يستطع الرَّجل تحمل الصّدمة ، فَلزِم بيته يبكي ابنه يفَيضُ في عزائهِ .

مرّت الأيام سريعا كمألوف عادتها ، تَطمسُ أثرا وتُحيي آخر ، بهَتت سيرة ” صلاح” مِن مَجالسِ النّاس ، تَهبُّ علىَ فتراتٍ مُهتزّة وَجلة ، قال ” عطا” المراكبي:” رأيتهُ يتوسط حلقة ذكرٍ في مولدِ سيدي القنائي ، لكنّه زَاغَ مني “،

في صَباحِ يومٍ شاتي، وردت إشارة من المركز ، حملها ” جمعة ” الخفير، وجدوا جُثةً لمجهولٍ مُلقاة بجوارِ محطّة القطار، لم تكن له، لا يَزال في عمرهِ بقية للحكي، وفِي صدرِ والده أمانيّ أن يعودَ الشّارد .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى