رسالةٌ إلى أبي.. قصة قصيرة
بقلم: آلاء الخيرو
كان مدخل الباب الخارجي يصل مباشرةً إلى فضاءٍ عميقٍ مفروشة أرضيته بطابوقات حمر تراصفت بشكلها البني الملتصق مع بعضه ، تبدو نظيفةً مرتبةً ومنسقةً تناهت عند الجدران التي مازالت مليئةً برسومي وخرابيش كتاباتي المجزأة.
تارةً أرسم دوائر وتارةً أخرى أرسم مثلثات هي في حقيقتها أنصاف طابوقات مربعة قطعت منها أجزاء ألصقت أسفل الحيطان في كل أنحاء البيت الذي كنّا نسكنه .
تقدمت الدرجات الثلاث وأنا احدث نفسي كم مرةً انزلقت ، ولم يصبني أذىً ، أمي تبتهل بالدعاء وأبي دائم الدعاء ضدي.
أيامٌ سودٌ جثمت في مخيلتي عابراً طفولتي التي أغرقها الألم والبعد. يدفعني أحساس الحنين للمكان وصولاً إلى عمق المكان الموحش بعد أن كان مأهولاً بالناس ، ومليئاً بدقائق لم تسقط من الذاكرة أبداً.
ملأت أنفاسي رائحةٌ كريهةٌ تزكم الأنفاس، وتخلل المشهد ألوانٌ داكنةٌ كثيفةٌ لفضاء البيت الذي كانت تملؤه كراسٌ ومناضد مصنوعة من سعف النخيل صقيلة وقوية موزعة بترتيب متغير ومتناسق حسب كل مناسبة وطالما حرصت والدتي على عاداتها؛ خوفاً من انتقادات الزائرين لها فهي معروفةٌ بحلاوة ذوقها، فقد كانت تضع أورادها الصناعية فتبدو وكأنَّ روحاً طبيعيةً تحل في المكان، وتجعله يفوح برائحةٍ زكيةٍ. وفي مرةٍ أجبر أبي أمي كعادته التي جبل عليها بتصرفاته القاسية أن تأتي بقطعة قماشٍ ملونةٍ بألوان السماء ، وجعلها تعمل نهاراً كاملاً لتخفي الاسوداد بجذوع النخيل التي تزين الحديقة التي يعشقها والدي.
وكان بين آونةٍ وأخرى يصدر أمراً بتنظيف الحديقة تنظيفاً كاملاً وشاملاً، ولا نعرف أهي عقوبة أم نظافة للمكان.
الآن ، وبعد عشرات السنين تقدمت الدرجات الثلاث التي أعرف كيفية الخطو عليها . واجهتني قطعة القماش الكبيرة الملونة ، وقد استحال لونها إلى أخضر يميل إلى السواد وقد اختفت السماوات التي كانت منقوشةً عليها ، والتي كنتُ أُحلّق بأخيلتي على أديمها.
سبحت بمخيلتي بالقديم بتلك الظهاري القائظة .
صمتٌ مريبٌ قطعه صوت دوران مروحة الهواء المثبتة بمسمارٍ فولاذيّ كبيرٍ إلى جذع السقف حيث كنت صغيراً، ولا أعرف كم كنتُ صغيراً ، حيث مددت يدي إليها بقلم الماجك الأسود العريض محاولاً رسم خطٍ مستقيمٍ أثناء دورانها وسقطت من كرسي السقف بعد أن تكسر تحتي وبقي الخط حلزونياً صار بعدها يأخذني إلى عمقه ويُقطّعني كلما حدقت إليه أثناء استلقائي تحتها، وأكون قد أخذت قسطاً من ظلم والدي.
قال أبي مرة يهمس بأذن أمي في ذلك المكان “لولا نجاحه في امتحان البكالوريا للسادس الابتدائي لما قررت أخذه معنا إلى بيت خالته”
تلك المرة الأولى التي خففت فيها من فضاضة طبعي وحراكي العبثي.
تركتُ عناقيد العنب المدلاة من الكومة العالية التي توسطت ساحة الدار تنضج ، ولم أدع أحداً من إخوتي يمسها ولم أعبث بالورود التي تزين الحديقة التي كان أبي يعشقها ويتسلى بها في حديقة الدار.
كنت متحمسا لأن أرى (غيداء) ابنة خالتي التي قال لي احد أصدقائي في المدرسة “هنيئاً لك عندك أحلى بنت خالة” ، جمرات من الوجد تشي بالذكر.
حسرات الأماني المعتمرة من ليالي الغربة جعلتني أقف مبتسماً كأنَّي في حلمي ذلك وفرحي الطفولي واذا بنتف من أحجار تناثرت على أم رأسي جعلتني اسعل بصوت كالجلجلة كأنَّه صوت أبي ذاته يرعد في المكان ، ومن دون أن أشعر بدت عيناي حذرتين ومطرقتين إلى الأرض تحمل معهما خوفاً وجرحاً قديماً لا يندمل خوفاً من وجودٍ محتملٍ لأبي، وآخر من أفاعٍ تلدغني انتقاماً مني بعد أن كنتُ لا أرحمها أيام ذاك الزمان.
أكوام صحف صارت أوراقها صفراً ومتهرئة ومكومة في الركن الذي كنا نضع عنده جهاز الراديو الكبير ذا الإطار الخشبي الموشى باللون الذهبي بركة من أوساخ كأنها أتت قبل وصولي بالضبط، قفزت مثل ذاك الولد الذي كانت تحمله النسمة بالهواء ولا تمله فيطير معها، وكنت أصحو على حبل أبي وهو يوثقني إلى الشجرة الغليظة التي زرعها والده وظلت وارفة عند المغرب تعود لها العصافير التي بنت أعشاشها بين أعواد الغصون المتشابكة، وكنت من ضمن ذكرياتي اصعد إلى أعلى غصن لأمسك بصغار الحمام الفاخت وأدجنه مع طيور أبي البيض وما كنت أنسى أعشاش البلابل المغردة فما أن تفقس حتى أنزلها وأربيها كما يفعل أبواه، كنت أشربها الماء من حلقي وألقمها نتف الخبز الصغيرة ، وأعلمها نظاماً؛ لتعيده علي بصوتها الشجي وما أن تبلغ العام حتى أبيعها بمبلغٍ يأتيني بعلبة سكائر مطعمة بنكهات مختلفة، كي أدخنها على سطح الدار، أو بين الأزقة أثناء عودتي من المدرسة. خطوت الممر متملياً الشجر المتمركزة في حديقة الدار أوراق متناثرة ملئت الساقية التي حفرها جدي لتدخل من تحت السياج بالماء وتسقي الأشجار التي بقيت منها :هياكلها اليابسة، ملابس قديمة متهرئة، وعلب صفيح صدئة ، وبركٌ رصاصيةٌ تنق منها الضفادع وأصوات صراصر لا تنقطع تزاحم ذكريات صوتي الباكي حيث كان أبي يجعلني أتوسل إليه من شدة الضرب المبرح بأي شيء كان بيده بينما أمي تحاول منعه ، كان يدفعها لتقول له (يالك من أب قاس) وكان هو يقول لها لاهجا بهستيرية (هذا ليس أبني) أعده أن لا أفعل ما فعلت مرةً أخرى لكنه يزيد بضربي فاعتدتُ على السكوت مهما توغل في ضربي. مرة لم يكتف بضربي وتأنيبي وحسب بل تركني طوال ليلة حتى الصباح موثوقاً إلى جذع الشجرة، وكان البرد يصل في العظام.
حاولت فتح كرة الباب المفضي إلى الحديقة فلم أفلح بعد أن هززته بقوة جسدي الستيني الواهن فتركته مكتفياِ بالنظر من فتحة الزجاج المنكسر، ورأيتُ تصاعد الأدغال، وأعمدة القصب حول الشجرة فلم أتمكن من رؤية ساق الشجرة المتينة المحزوزة بالسلسلة الحديدية التي كانت تقيد كلب جدي ، أتذكر شعره الذهبي الناعم وغرته البيضاء حد الرقبة ونهايته المؤلمة عندما سقطت مني دون قصد حاوية الغاز على ظهره وقصمته حينما كنت أجرب عمل العتلات والبكرات مستفيداً من الغصن المتين والذي كان شقيقي يستخدمه أرجوحةً ويلعب بها مع أخوتي، نظرت إلى مكانه وكأنَّني أراه في اللحظة ينظر بشكلٍ شديدٍ بعد أن كان ينعم بالفيء الرطب البارد قبل أن يصاب وبقي أياماً بلياليها ، وكأنَّه يبكي توسلاً من أجل الموت لينهي عذابه، وبعد ذلك أعطاه جارنا حيث طلبت منه أمي قطعة طعام مسمومة ظل بعدها بلا حراك حتى حملناه في كيس ووضعنا معه ثقالةً من صخرات عدة ثم قذفناه بالكيس إلى عمق النهر، ونظرت إلى شباك الباب عندما لامستني رطوبته ورأيته منخوراً ، إذ جعلته الأرضة بغصون وأخاديد مقرفة .
في الشتاءات القارصة كنت أقف وأنظر من خلال زجاجه النظيف ، وأمسح الماء المتكثف على سطحه، وأفرك يدي بالأخرى إلى الحائط القريب الذي كنت أستذكر دروسي عليه بقلم الطباشير وكل سربٍ من النمل الأصفر قد خطا إلى الأعلى وأسفل جيئةً وذهاباً رأيتُ العبارة التي خطتها أختي الكبرى بالفحم المتبقي من الشواية التي تقع في باحة الدار، وقرأتها بصوت عالٍ (YOU MUST THE CHANGE YOU WISH TO SEE IN THE WORLD)” كن أنت التغيير الذي أريد أن أراه في العالم”، كنت في وقتها أحفظ صورتها وأعيد كتابتها دون أن أعي معناها، وعندما علمتها تمنيت أن أكتبها لأبي، تسارعت دقات قلبي عندما سمعت أقدام وصوت أتى من عمق المكان أوقفت نفسي المتحشرج لا أميز الصوت انتظرت لحظات دون أن أسمع شيئاً أخر، وفي لحظات متسارعة فهمت أني يجب أن أهم بالخروج من البيت الخرب الذي أصبح أيلاً للسقوط، الحيطان باتت قريبة من بعضها وكأنها ليست كما في السابق رغم أني قد تركت ذكرياتي في كل جزءٍ منه.
أخذت الهمهمات تقترب أكثر حتى صارت تأتي من الغرفة المغلقة التي لم أفكر بالتقرب منها لأنها خصت شقيقتي الكبرى المتوفاة وأغلقها والدي بما تحوي من أشياء وكتب (بقيت مع غرفة الاستقبال التي لم يسقط سقفها)، أنظر إلى البيت والأخطار في يدي بهدم البيت وكان قد وصلني ليلة البارحة وعليَّ البت بالأمر عاجلاً حيث يبدو أنني الوحيد الذي بقيت من تلك العائلة فبعد وفاة والدتي وكثيراً ما كنت أتجنب السؤال عن أبي وكان أخوتي بين بنت متزوجة بنصيب تعس وأخوة بين مفقود ومهاجر، وقفت في الفضاء متنفساً بعمق حيث لا أحد بقي في تلك الدار التي قررت هي أيضاً أن تذهب.
وقفتُ وكأنَّي أحمل كتبي ودفاتري مستعدا للذهاب إلى المدرسة أخذت أسمع صوتاً تبين بعدها أنه وقع خطوات تأتي من ظلام الشارع العميق وبعد لحظات تبينتها لصبي بصحبة رجل هما أن يدخلا البيت ويبدو أنهما يمكثان خلسةً فيه، شاهداني ثم هرب الرجل وخلفه الصبي متخطين الدرجات الثلاث بقفزة واحدة فتذكرت الليلة التي طردني فيها والدي إلى الأبد.
وقفت وأنا أحمل رسالتي لأبي التي كتبتها منذ سنين ولم أجرؤعلى إيصالها له، ومعي كل ما تلتهجه روحي ونفسي خلال سنوات عمري التي حتى بت لا أعرف كيف أحصيها.
دخلت وأنا لم أنس يوماً أن احمل رسالتي التي كتبتها اليك والتي طالما أجتهدت على قراءتها مرات ومرات، لقد كتبت اليك رسالتي يا أبي وأنا أعرف… أنها رسالة ناقصة، ومتأخرة أيضا، لأنها لا تحمل أي مشاعر حب لك ومتأخرة لأنها مكتوبة مذ خروجي من منزلك يا أبي.
لأنني عندما كنت أمرض أشعر أني أحتاجك فتقرع بداخلي ناقوس الوشيجة بيني وبينك، والتي تجعلني أحسّ بالزمن وهو يخترق جسدي الهزيل من شدة المرض، أكتب أليك أيها الأب، الذي لم أقدر أن أعرف منه يوما الكره أو الحب، وكأنّ الدنيا عنده قائمة على شفا حفرة من النار، كثيراً كنت أنظر إلى الآباء ولا أفقه أن أكتب عن مآثرهم التي قد ندين بها لهم ولا عن سوءاتهم التي حطمتنا بتعاملهم معنا، لكنني أعرف أن تلك الجدران التي كنت أعيش بداخلها هي جحيم أرضي، إذ قد تتراءى لي أحياناً بأنها جحيم لا يُحتمل ملقى بصلفٍ في أبعد القارات وأكثرها تصحراً، وأحياناً قد تبدو، بعين من عيون الفردوس لكنه غائر ومختزن في جرح دفين، أو في ضحكة معتوهة نطلقها أنا وأخوتي لنعدي أزمة أو موقفا بيننا وإياك..
أحييك يا أبي، فأني على يقين أنني في الأعوام التي قضيتَها بعيداً عن بيتك عن مسقط رأسي حيث ولدت وحين قررت أنت نهاية علاقتي بالمكان، أو كنت حينذاك أتذكر كلماتك الغليظة التي كنت تخبرني إياها وأنت تتلقفها بين أسنانك.
والآن أما آن لك أن تنهض من غيبوبتك لقد كبرنا كثيراً يا أبي، لقد كتبت الكثير من الرسائل رغم علمي أن رسائلي إليك لا تصل أبداً، أيها الحبيب أيعقل أن أناديك كذلك مرة، لقد سألتك ذات مرة لماذا تزعم أنك تكرهني دائما وأنك خائف مني في المستقبل، هكذا كان الحديث يجمعنا، والآن بوسعي لملمة شتات الحديث معك ولو جزئياً من خلال رسالتي وحيث أنك تسكن العالم الآخر.
وإنني إذ أحاول هنا أن أجيبك خطياً، ورغم يقيني أن شيئا لن يصلك مني وإن كل ما أقوم به لن يكون سوى محاولة مبتورة، أنا يا أبتي لم أنكر فضلك يوماً أنك كنت شريكاً في ولادتي غير أني أخطّئ ملحوظتك تلك أنك لم تحسن الحفاظ علي،
لقد ورثت عنك الكثير من القسوة ولكن على نفسي، أظن دوماً بأن الذنب ذنبك. لقد تركتَ ما تركت من أثر عليَّ تماماً كما كان ينبغي عليك أن تترك أو كما كنت تتصور، لم أكن عندك سوى طفلٍ شديد الخوف، ولم يمكن أن أصدق أن كلمة حنان أو لمسة وديعة من يدك أو نظرة عطف لم يكن بوسعي أن أنالها منك، رغم أني كنت أكسب من أمي الكثير من الرحمة، كما أنه لم يكن بوسعك أن تتعامل مع طفل إلا وفق نشأتك التي جبلت عليها من القسوة والصراخ والحدة، وكان يبدو لك أن هذه الحالة مناسبة للغاية، ليس بوسعي يا أبي أن أستوعب رسائلك التربوية التي كنت تبعثها لي، فبعدك أصبحتُ وحيداً لا أعرف أن أخالط الناس وبي شيئاً من التنمر ومرات مذعناً مطيعاً إلى حد بعيد، غير أني بذلك كنت قد أصبت بعطب داخلي. لم يكن باستطاعتي أفرق الأشياء بين مفهوم طلبي العبثي للماء وبين الرعب الهائل المتأتي من تركك لي وحيداً في الخارج، بعدها بسنوات صرتُ أعاني من تصورات مضنية مفادها أن ذلك الرجل الضخم، والدي، مثلي الأعلى، كان بإمكانه أن يجرني من السرير ويمضي بي نحو الشرفة ويرميني من هناك وأنني لم أكن بالنسبة إليه سوى نكرة. لم يكن ذاك حينئذ سوى البداية، غير أن ذلك الشعور بالدونية واللاشيء، والذي يستحوذ عليّ كثيراً ، ليس إلا نتاجاً لأثرك عليّ، لعل ما كان يعوزني هو القليل من التشجيع، القليل من الحنان، القليل من إيضاح معالم طريقي، لكنك بدلاً من ذلك رحت تصور لي أنه يتوجب عليّ سلوك طريق آخر، وكثيراً ما كنت تشعرني أني لم أكن صالحاً للقيام بأي أمر.
لا أتذكر يوما أنك تكلمت يوماً بشيء له أية صلة بمستقبلي، فأصبحت بعدك يائساً تماماً، وأصبحت كل تجاربي السيئة في جميع المجالات حاضرةً بشكل كبير في كل اللحظات.
كم كان صعباً حين كنت أرى جسدك القوي الغض وهو يقترب مني ليحاسبني أو يضربني، وأنا واقف بمكاني بجسدي الهزيل الصغير الضعيف أتهيأ طويلاً لحالة التعذيب الوشيكة تلك التي ستحل بي، على فكرة يا أبي ما زال ذلك الفارق بيننا هو نفسه حتى اليوم وما زالت سلطتك الروحية المطلقة تسيطر علي، لم يكن مفهوماً بالنسبة لي على الإطلاق انعدام الشعور لديك تماماً إزاء ما كان بوسعك أن تسومني به بكلماتك وأحكامك من ألم وخزي، كأنك لا تعرف شيئاً عما لديك من سطوة وجبروت كثيراً ما كنت أطريك بكلمات حداد وامتعاض ودعوات ضدك يا أبي، غير أنَّ ذاك كان يؤلمني وما كان ليصلك، إنما كان فقط أني لم أسيطر على نفسي، ولا أن أحبس تلك الكلمات، وطالما شعرتُ بالندم وأنا أقولها! أما أنت فكنت تطلق لكلماتك العنان، دون أن تأسف لأمر أحد، لا أثناءها ولا بعدها، وكان المرء أمامك يستسلم تمام الاستسلام وإذن هكذا كانت تربيتك بالمجمل، كان لديك، كما أعتقد، موهبتك الخاصة بك، ولعله كان بمقدورك بكل تأكيد أن تُفيد بها إنساناً من طرازك! لعله كان سيجد في كل ما تقول له حكمةً وتبصرا، فلا يبالي بما عداه، أما بالنسبة لي كوني طفلا فإن كل ما كنت تزعق به كان بمثابة وصية من السماء لم أكن لأنساها على الإطلاق، بل ستظل هي أهم وسائلي في تقييمي للعالم وطريقة مشاركتي للناس حياتهم، بل وقبلها في تقييمي لك، وبهذا تكون فاشلاً تماماً، إنني حتى وأنا معك على المائدة، لاسيما وأنا طفل، كان جزءاً كبيراً من درسك حينها هو حول السلوك السليم على المائدة كل ما هو موضوع على الطاولة كان لا بد من أكله، والحديث عن نوعية الطعام أمر غير مسموح، مع أنك كنت كثيراً ما تعلق عليه بازدراء،
فقد كان لزاماً على ذلك الطفل أن يسرّع من أمره في جو من الصمت المطبق الذي تكسره توجيهاتك التقريعية ليس لأحد أن يتكلم وهو يأكل، أما أنت فبلى، ولا أن يرتشف حامضاً، أما أنت فبلى. كان لابدَّ من تقطيع الخبز بالشكل الذي ينبغي ودون أن يتلف منه شيئاً، أما أنت تقطعه كيفما شئت، على المرء معك أن يحذر من عدم سقوط أي فتات على الأرض، أما أنت فعادة ما يقع تحتك الكثير منه. كان من غير المسموح الانشغال بشيء حول المائدة إلا بأمر الأكل، وكان يعذب كل من يبري أقلام الرصاص في منفضتك المقدسة تلك التي كانت من أهم أشياءك أما أنت فبوسعك تنظيف وتقليم أظفارك فيها، أبتي، أرجو أن تفهمني كما ينبغي! لعل ذلك كله كان شيئاً من تفاصيل لا تستحق الذكر! ولعلها لم تكن لتثقل عليّ لولا أنك وأنت القدوة بالنسبة لي، لم تتقيد بتلك التعليمات التي فرضتها عليّ. كان العالم بهذا قد انقسم عندي إلى ثلاثة أقسام: عالم حيث ذلك العبد الذي هو أنا والذي يرزح تحت وطأة قوانين لم توجد إلا له منصاعاً لها دون أن يعرف لماذا ودون حتى أن يحتج وعالم بعيد عن عالمي تماما أنت فيه السيد المنشغل بإدارته وإصدار الأوامر فيه، وعالم ثالث يعيشه بقية الخلق سعداء هانئين متصلين مع بعضهم منفصلين عن أية أوامر أو طاعات، وأي عار ذلك الذي كنتُه على الدوام فإما أن أمتثل لأوامرك، وكان هذا عاراً، إذ إنها لم تكن تسر إلا علي، وإما أن أقف متحدياً، وكان هذا عارً أيضاً، إذ كيف كنت أسمح لنفسي أن أقف بوجهك؟! وإما أنه لم يعد بمقدوري أن أواصل، فأنا على سبيل المثال لا أمتلك قوتك ولا شهيتك ولا مهارتك، بالرغم من أنه أمر كنت تنتظره مني كما لو كان أمراً بديهياً، ولعمري كان ذاك هو العار الأكبر! لم تكن مدارك الطفل هي التي تستثار بهذا الأسلوب وإنما مشاعره لعلَّ وضعي في تلك الأثناء كان أكثر وضوحاً قياساً بوضع سجين هو أيضاً يلقي المعاملة نفسها، بل واتبعتَ في تربيتي أسلوباً خاصاً من الترهيب، بحيث لو حدث أن قمت أثناء الأكل بارتكاب أيٍّ من الأفعال التي تعد في رأيك قذارات ، فإنك لا يكفي أن تصرخ في وجهي قائلاً: حيوان كبير، بل سيصبح محكوم علي أن أحرم من الأكل وقد تأكله أنت، وهذا الأمر جيد بالنسبة لي على أقل تقدير أكن قد سلمت من الضرب،
كنت شخصا هادئا، صار لدي الكثير من الخشونة حالياً، ويمكن لأي صوت جهوري أن يفزعني، وشخصيتي لا تتحدد بمرحلة معينة كل المراحل يلازمني خوفك،
فقط كنت كثيراً ما أحول ما أعانيه منك إلى طرفة، من المستحيل بالنسبة لك يا أبي أن تتحدث بهدوء عن شيء تفهمه أو لا تفهمه أو لا يكون صادراً عنك، فطبيعتك المستبدة لن تدعه وشأنه، ولا أدري إن كان أصلاً قد حدث لك أي تغير في يوم من الأيام قد تعزو تلك الأحداث في السنوات القادمة إلى توترات في عضلات قلبك،
ماهي إلا وسيلة لممارسة سلطة أكثر طغياناً، مفادها أنه لا بد لأي فكرة معارضة في الوقت الراهن من وأدها بفكرة أخرى. هذا ليس عتباً بالطبع، بل توضيح حقيقة. لا يستطيع المرء خوض حديث معك على الإطلاق، إنك تصرخ في وجهه بحدة إنك لتخلط الأمور، بحيث لا تفرق بين الشيء والشخص، فالحقيقة أن الشيء هو الذي يحتدّ في وجهك، لا الشخص، فتكون أنت قد حسمته على الفور كأمر نافذ دون الاستماع إلى الشخص، وبالتالي فإن ما يتم الرفع به إليك بعد ذلك ليس بوسعه إلا جعلك مستثاراً أكثر، بحيث لا تتقبله أبداً. ثم لا يسمع منك المرء إلا: لماذا فعلت ذلك.
أصبحتُ كبيراً ولكنك مازلت أكبر مني! ليس لدي ما أنصحك به!
يا أبي الرجفة والخوف يملآن صدري حتى اليوم، وبشكل أكبر مما كانتا عليه في طفولتي، وشعور بالذنب ما زال يحاصرني وقد حلت محله مرارة تجلد ذاتي، حقيقةُ عجزنا عن مساعدة بعضنا، إنَّ استحالة العيش بسلام كان لها في الواقع نتيجتها الطبيعية جدا، وكان وعيدك الدائم لي، ولا كلمة اعتراض واحدة، ويدك المرفوعة تأكيداً لذلك الوعيد، سيلازمانني على الدوام. كانت تعتريني أمامك وأنت المتحدث الجهبذ، لاسيما حين يتعلق الأمر بشأن من شؤونك حالة من التلعثم والتلكؤ، وحتى لو كنت على صواب فتلعثمي يؤكد خطأي أمامك، هذا كان كثيراً جداً بالنسبة لك، فما كان لي في نهاية المطاف إلا أن أخلد إلى الصمت، ربما بدافع العناد في البداية، أما بعدها فلأني لم أكن أستطيع أمامك التفكير ولا التحدث، وبما أنك كنت معلمي الحقيقي فإن٠ تأثير هذا الأمر سيطغى على معظم حياتي. وعموماً إنه لمحض جنون لو ظننتَ أني لم أكن مذعناً وراضخاً ومسلوب الإرادة لك ولظلمك، أما مبدأ الاعتراض في كل شيء فإنه في الواقع لم يكن مبدئيا في الحياة تجاهك.
ولو منحتني قليلاً من الطيبة والحب لكنت أكثر الكون سعادةً وحبوراً بك، وفي النهاية أؤكد لك على الأرجح أنَّ جميع إجراءاتك في تربيتي قد أصابت هدفها، أصبحت أتحاشى أية كلمة أو رأي أو تعامل بل بدأت أتحاشى كل البشر، فأنا لست سوى حصيلة تربيتك لي وانقيادي لك، فإذا كانت هذه الحصيلة أليمةً بالنسبة لك، وإذا رفضتَ بغير إرادة منك أن تعترف بأن هذا هو حصيلة تربيتك، فالأحرى أن نقول إنَّ يدك وطينتي كانتا غريبتين عن بعضهما، وشخصيتي اليوم هي نتيجة حتمية لقوتك وضعفي.
إنَّ وسائلك التربوية الفعالة للغاية، الرافضة لأي أخذ وردّ في الكلام، على الأقل معي، لم تكن سوى: الإهانة، التوعُّد، السخرية، الضحكة الخبيثة، التحسُّر المستغرب.
لا أتذكر أنَّك اكتفيت بشتمي بطريقة مباشرة وبكلمات نابية صريحة، كما أنَّ هذا لم يكن أمراً ضرورياً، فقد كان لديك الكثير من الأساليب الأخرى، كما أنَّ الشتائم في أي حديث لك، في البيت وفي العمل على حد سواء، كانت تنهال بغزارة على من حولي، لدرجة أنها كانت أحياناً –وأنا صغير– تصعقني وتفقدني وعيي. أضف إلى ذلك أنّه لم يكن هناك سبب يجعلني في منأى عنها، فالناس الذين كنت تشتمهم بالتأكيد لم يكونوا أسوأ مني، وبالتأكيد لم تكن معهم أكثر استبداداً منك معي. وهنا كانت تتجلى براءتك المريبة وتعاليك المنيع، تشتم الآخرين دون أدنى اعتبار، وتدين السب وتحرمه عليهم، لقد كنت تردف شتائمك تلك بالتهديد والوعيد، وهذا يشملني أنا أيضاً، كنت أرتعب لقولك مثلاً: سأريك الله ماذا خلق، رغم أنَّي كنت أعرف أن قولك هذا لن يعقبه ما هو جديد فقط ما أعتدت عليه، وهو مطابقٌ تقريباً لتصوراتي عن قوتك بأنَّه كان بوسعك فعل ذاك، كذلك كان مرعباً وأنت تمشي لي صارخاً للإمساك بأحدنا، وأنك من الواضح تعرف ما تريد أن تفعل بالذي تمسك به، وبعدها تأتي أمي في نهاية الأمر، محاولة منها إنقاذه، حينها كان على المرء، أو هكذا كان يبدو له وهو طفل، أن يتشبث بالحياة تحت رحمتك، ويواصل تحملها باعتبارها هبةً لا يستحقها منك.
وكلما تقدم بي العمر كانت المادة التي استطعتَ تجميعها كدليلٍ على تفاهتي تكبر أكثر وأكثر. وشيئاً فشيئاً أخذتُ أشعر بأنك فعلاً على حقٍ، مرةً أخرى سأتحاشى الزعم بأنني صرت ما صرته من خلالك أنت فقط، فأنت لم تعزز سوى ما كان، غير أنك رحت تعززه بقوة، لأنَّك كنتَ في نظري قوياً جداً، ولأنَّك كنت تستخدم كل قوتك في هذا السياق كان لديك ثقتك الخاصة بالتهكم كأسلوب من أساليب تربيتك لي، وكان هذا يتوافق تماماً مع كونك متفوقاً عليّ، أما النصح فكان له عندك هذه الصيغة، أنت فاشل ومخطئ دائماً، وتصاحب تلك الكلمات ضحكة خبيثة وتقاسيم وجه شامتة. كأنَّما كان على المرء أن يعاقَب حتى قبل أن يعرف بأنه اقترف عملاً سيئاً، وكانت تقريعاتك لي ذأيضاً تثير الاستفزاز.
مع كل هذا كانت لك أيضاً ابتسامةٌ من نوعٍ خاصٍ رائعٍ، ابتسامة هادئة، طيِّبة، وديعة ابتسامة جميلة، لكنها كانت نادرة جداً. كان لها أن تكون هي القاعدة، لا الاستثناء. ليس بوسعي أن أتذكر أني حظيت بها في طفولتي، إنَّما لعلَّ شيئاً من هذا كان يحدث! ولماذا تُرى كان سيتعين عليك أن تحرمني منها، بالمناسبة صحيح أنَّ أمي كانت طيبةً معي إلى أقصى حد، غير أن ذلك كله كان متعلقاً بك، لا بالطيبة التي ملكتها أمي حيث أنها كانت ومن غير وعي منها، تؤدي دور الدليل في رحلة صيد.
وختاماً..عندما كتبت هذه الرسالة الطويلة كنتُ على يقين رغم تلك السنين أني أضعف من أن أقرأها عليك يا أبي ، وكنت أتأمل أن أكسر من خلالها الفجوة بيني وبينك،على الرغم من أنَّ فيها نقداً شديد اللهجة لكنَّها الدليل على حبي الكبير يا أبي العزيز.