قراءة نقدية في ( محض افتراء ) للقاص أحمد البياتي

أ. د مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي

 العنوان هو العتبة المقدسة نصيا, فبه يتكثف المتن ومنه يأخذ هذا المتن شحنته التي تبقيه صالحا- وباستمرار- للقراءة بكل أشكالها المواجهة والفاحصة والمنتجة انه النص وعن طريق ضبطه نتمكن من إيصال طرود الانطباع والتأويل بسلامة تلق فاعل, على اعتبار أن العنوان هو الموجه الأساس الذي تسترشد به القراءة عن أخبار النص الأدبي والغاية التي يريدها [1], فهو أداة توجيه مهمة جدا بين الاداوات الأخرى انه تسمية النص, وجنسه وانتماؤه, يعد العنوان أول المعايير التي يقاس في ضوئها – نصيا- مدى الاهتمام بالقارئ, ومدى الاشتغال على إغوائه عن طريق هذه العارضة الاشهارية – العنوان- أي الاهتمام بالقارئ المقصود, المخصوص بالخطاب, الذي – كما يرى وولف- يمثل فكرة النص المركزية التي تشكلت في ذهن الكاتب [2], فالاهتمام بالقارئ يعني الاهتمام بالنص نفسه, لان القارئ هو المتكفل بإعادة أنتاج النص وتشكيله على الدوام , فقد أصبح القارئ مشاركا ومتابعا ومفسرا لكل شفرات النص ودلالاته وفك شفراته انه مبدع ثان للنص [3].

إن نظام العنوان يعمل وفق قوننة غاية في الحساسية, إذ يتبلور النص بموجبه, فإذا كان العنوان طويلا ساعد على توقع المضمون الذي يتلوه, أما إذا كان قصيرا فعندها لابد من قرائن تساعد على التنبؤ بالمضمون [4],ومن الممكن أن يكون دالا صوتيا كان تسمى القصة القصيرة  بالنهاية الحتمية, أو أن يكون علامة محددة  بنوعها مروية مثلا, أو علامة استفهام, أو على شكل نقاط وعند ذلك يبدأ العنوان عمله بوصفه حسب امبرتو ايكو – مفتاحا تأويليا [5], أو مفتاحا لمدخل القصة القصيرة, على رأي الدكتور حمد محمود الدوخي,فهو يختصر الكل , ويعطي اللمحة الدالة على النص المغلق, فيصبح نصا مفتوحا على كل التأويلات [6].

وهنا في القصة القصيرة (محض افتراء), سنتطرق للعنوان عن طريق تقسيمه إلى مفردتين, لقد اشتغل المبدع القاص احمد البياتي  العنونة الرئيسة الخارجية بترتيب متسلسل, إذ انطلقت من العنوان  المفردة (محض) الخالص/ النقي لتصل إلى العنونة الخبرية (افتراء) اتهام كاذب  التي تساعد على توقع المضامين القصصية التي تنضوي تحت هذا الشريط العنواني , فضلا عن ذلك فقد مثلت الهندسة العنوانية عند الأديب احمد البياتي  جملة من الوظائف التي تعد وظائف ترويجية لمحتوى القصة ,ثم يجيب عن شكوكها بقوله:- صحيح .ولكن سرعان ماعادت إلى حزنها فقالت :-إنكَ لم تعد تسأل عني قال: كفي عن الهراء، لستُ مرتبطاً بأية علاقة ، انه محض افتراء, وقد قدم الإجابة المقنعة بحسب راية إلى المرأة الغيورة انه (محض افتراء) , وإذا كانت القصة لا تقوم إلا على أحداث فان الإحداث لا تجري دون شخصيات,والشخصية هي الإنسان الذي يستخدم رمزا لشخصية إنسانية,لغاية من الغايات,وشخصية كل إنسان تتألف من عناصر أساسية هي: بيئته,ومولده,ومظهره العام, وسلوكه, وطعامه, ومنامه, وحبه, وكرهه, وما شابهها,[7] ومن منا لم يعجب, وهو يقرأ قصة (محض افتراء) على قدر من الجودة, كيف استطاع القاص احمد البياتي  أن يبث الروح في شخصياتها,ويمنحها خصائصها المميزة على غفلة من قرائه, بحيث لا يستطيع المرء أن يحدد بسهولة أين, ومتى منحت الشخصية صفاتها المحددة, ورسختها في الذهن,[8] أستهواه الجلوس في مكان منعزل عند حافة النهر، يحدّق في سطح الماء فيرى نقطة بعيدة مبهمة في السماء، كان في شغل شاغل عن نظرات المـــارّة والعابرين الذين كانوا يحدقون به باستغراب واضح ، كان ينفث دخان سيكارته بشكل قلق، راقب الدخان الذي رسم حوله غيوماً وهمية ، وخيِّل إليه انه يشاهدها، لديه الوقت لتأملها، رمى عقب سيكارته وقال:-لايمكن أن انساها، صورتها أمامي أينما ذهبت وحللت، ليل نهار، شبحها يطاردني، ضاق ذرعاً بمشاغلة تفكيره الدائم هذا، قرر أن يغادر المكان رغم جمالية النهر[9]،إن شخصية  المرأة في قصة (محض افتراء) هي بمنزلة محور تتجسد المعاني فيه والأفكار التي تحيا بالأشخاص أو تحيا بها الأشخاص وسط مجموعة القيم الإنسانية التي يظهر فيها الوعي الفردي متفاعلا مع الوعي العام في مظهر من مظاهر التفاعل بحسب ما يهدف إليه القاص في نظرته للقيم, والمعايير الإنسانية, والشخصيات أيضا تجسد القيم على اختلاف أنواعها في المجتمع, وتدل عليها, وتعمل على تفهمنا لها في إطار الإبداع الفني[10], وحديثنا عن الشخصية في العمل القصصي يجرنا إلى الحديث عن ثلاثة نشاطات في التحليل الأدبي, النشاط الأول هو أن نحاول أن نفهم طبيعة,ونفسيتها, وخفاياها الشخصية في العمل القصصي عند البياتي, والنشاط الثاني أن نحاول فهم الأساليب الفنية التي يتبعها القاص أحمد البياتي في قصته , والطرق التي يسلكها لعرض الشخصية النسوية وخلقها, وتصويرها في العمل القصصي لإقناع القارئ بحقيقتها, والنشاط الثالث هو أننا بوصفنا قراء مهتمون بمدى صدق هذه الشخصية وبمدى أيماننا بأن القاص البياتي قدم شخصية يمكن أن نقتنع بها,ونصدق بوجودها,والنشاط الأخير يعني بالضرورة الحكم على الشخصية القصصية من خلال العمل وحدة متكاملة, وكيفية نجاح  القاص أو إخفاقه في تصوير شخوصه ضمن إطار العمل القصصي[11] خيّل له انها تكلمت قائلة:-بهذه السهولة تحاول نسياني، شعر بالأسى مما قالت وأرسل نظرة حزينة متكسرة إلى المدى البعيد، وسمع صوتها من جديد :-لاتحدق بي هكذا ، اذهب لست بحاجة إليك بعد الآن .تلفت حول المكان غير مصدق, إن علاقة الحوار بعناصر السرد المختلفة علاقة بنيوية ووظيفية، لا يمكن الفصل بينه وبين تلك العناصر السردية المكونة لبنية القصة ,وهو مفتاح نجاح عناصر السرد في القصة , أفاد الحوار الداخلي من قدرتي الذاكرة /والمخيلة في تعزيز أنماطه، وتنويعها، فاستطاع القاص البياتي  تطويع التقنيات السردية ليستخدمها في معالجة النص القصصي ، كما في الاسترجاع ,والحوار الداخلي الفني اللذين يسهمان في التعبير عن العالم الداخلي للشخصية , فنراه يسرد لنا الحوار الآتي:- يبدو أن الذي سمعته غير حقيقي، وهو اقرب إلى الخيال:- أيُ كلامٍ أسمع منكِ؟.كانت تتكلم بمرارة وهو يحاول إقناعها ، يخطر بباله انه يخونها في يوم ما ، حاول إن يتجاهل ماقالته  لمح دموعها التي اختلطت مع جدائلها وشعر بأنها تكتم أنفاسها .ضمها إلى صدره وتركها تبكي قائلاً:أعرف انكِ غير غاضبة مني ، صدقيني لم أقصد أهانتك،عاود القول مداعباً إياها هل نتبادل الحديث مجدداً؟.صرخت بفرح غامر.

إن الحوار في قصة (محض افتراء) يتجه صعودا أو هبوطا نحو خطاب الآخر في إطار ما تطرحه مجموعة الخطابات من علاقات اجتماعية, ورؤياوية, وخصائص أسلوبية متنوعة,ومن هنا تصبح لغة السرد في الحوار تتسم بحركة الأنا,والآخر في آن داخل التشكيلات الحوارية للقصة.

إن الحوار لا يرقى بنفسه, ولا يضع مؤشرا بنفسه,وإنما من خلال اصطراعه مع صوت الآخر قربا أو بعدا, والقصة التي  كتبها القاص احمد البياتي فيها  ثمة حوارات,والحوار فيها عنصر مهم من عناصرها,,تلك هي رسالة القاص البياتي في اغلب نصوصه القصصية, إذ تتضمن حوارات تشيع ثقافة المحبة, والحزن, والضياع ماعدا  بعضها إذ كانت الأحداث يسردها راوي القصة, خيّلَ له انه يحاول الرد ، ومحاولة إقناعها بأن الذي حدث كان خارج إرادته ولكنه لم يستطع ذلك فقال:-أريد أن أخبرك بشيء.قاطعته بحدة وقالت :-سمعت عن تلك المرأة .وبدهشة واضحة قال لها :- أيةُ امرأة، ما الذي تقولينه ؟.قالت :صاحبة مقهى الأنترنيت الواقعة خلف الشارع المحاذي لمنزل أهلي. وبعصبية أردفت:- كنت تذهب اليها كل يوم وتجلس لساعات طويلة، تكتب وتدخن ،صمتَ وأمتصَ عبرّة خانقة .قالت: – في البداية لم أشعر بالانزعاج ولكن تصرفك الزائد عن حده جعلني أقع في الشك كان الظلام قد هبط فجأةً وقرأ في عينيها شيء من الهدوء والوضوح وعادا وحدهما جالسين على ضفة النهر.

ولعل أهم ما يميز الأديب احمد البياتي قدرته الفنية في التعبير السردي, وشعرية الكتابة ,انه يجمع بين الخيال والواقع , تميز أسلوبه بدقة اختيار المفردات لتنسجم مع المعاني.

 

 

 

 

[1] سيمياء العتبة الشعرية : د0 حمد محمود الدوخي :297 0

[2] ينظر السياق والنص الشعري من البنية الى القراءة : علي ايت :106 0

[3] ينظر  كسر افق توقع القارئ عند شعراء المعلقات : رمضان احمد عامر : 304 0

[4] ينظر معجم السيميائيات : فيصل الاحمر : 227 0

[5] ينظر تخطيط النص الشعري : د0 حمد محمود الدوخي : 40 0

[6] ينظر : معجم السيميائيات : 226 0

[7] محاضرات في النثر العربي الحديث:43 0

[8]  ينظر تقنيات تقديم الشخصية في الرواية العراقية: أثير عادل شواي:5 0

[9] محض افتراء احمد البياتي 0

[10] بحوث في الرواية الجديدة:ميشال بوتور:77 0

[11] النقد التطبيقي التحليلي:د0 عدنان خالد عبد الله:67 0

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى