د. مُحمد بلتاجي حسن .. وذكري تتجدد

صبري الموجي | رئيس التحرير التنفيذي لجريدة (عالم الثقافة)

‏لكل أمةٍ علماؤها المُخلَصون‏،‏ وأئمتُها المجتهدون‏،‏ الذين جعلوا العلمَ غايتَهم ونشرَه رسالتهم‏،‏ فوصلوا الليل بالنهار بحثا ومُطالعة‏، تدوينا وتأليفا ليخرجوا للبشرية ما ينفعُها من علوم‏،‏ فكانوا شموسا وكواكب تُضئ طريق العلم‏،‏ وتُبدد ظلماتِ الجهل‏، وهم الذين بموتهم يقبضُ اللهُ العلمَ‏، كما أخبر بذلك الرسولُ صلي الله عليه وسلم في حديثه الشريف‏: (‏ إن الله لا يقبضُ العلمَ انتزاعا‏… الحديث‏)‏.

ومن هؤلاءِ العُلماءِ النابهين، والفهَمةِ الحاذقين‏،  فقيدُ الدراسات الإسلامية وعضو مجمع اللغة العربية‏،‏ عميدُ دار العلوم الأسبق الدكتور محمد بلتاجي حسن‏،‏ ذلك العلمُ الذي ظل مُنشغلا بالعلم من طلوع فجره إلي غروب شمسه‏، فلم يُرَ إلا مُطلعا في كتاب، أو مُحققا لبحث، أو مُتحدثا في محاضرة‏، فأثري الفكرَ الإسلامي بالعديد من الكُتب النافعة التي أشاد بها القاصي والداني مثل‏: (‏ في أحكام الأسرة‏..‏ دراسة مقارنة‏,‏ ومدخل إلي التفسير‏..‏ إلخ‏)‏.

كان ـ رحمه الله ـ مثالا للعالِم العامل‏، وصورةً حية لما ينطق به لسانُه، ويُقر به جنانُه‏، كما كان الاعتدالُ مذهبَه‏، وسموقُ الحقِ مطلبَه‏،‏ اختار لنفسه منهجا قام علي الفهم الصحيح لأصول الدين دون إفراطٍ، ولا تفريط‏،‏ واستخدم العقلَ بغرض الفهم والاستيعاب من غير شطط ولا مغالاة‏.‏

وبرغم فصاحة بيانه وجزالة لسانه‏، فإنه جانبَ في شرحه لطلابه الإغرابَ، وحوشيَ الكلمات‏،‏ واستخدم اللفظ الشائق، والأسلوب الرائق؛ رغبة في الإفهام وتجنُبا للإبهام‏، جمع ـ رحمه اللهُ ـ إلي جمالِ الخلقة – حيث وجهه الأبيض المستدير المشرئب بالحمرة، ويرجع سرُ ذلك إلي نسبته لأصول تركية – جمالَ الخُلق‏، فكان هاشا باشا دمث الخلق غايةً في التواضع مع كل من عرفه خاصة طلابه‏،‏ كما كان فقيدُنا الغالي موسوعيَّ المعرفة‏، اعتاد طلابُه أن يجمعوا أثناء محاضراته من علمه الغزير الشيء الكثير‏.‏

وبعد‏، فما ذُكرَ ليس إلا غيضا من فيض‏، فلن نُوفي به هذا الرجل حقه‏، وسيبقي في حياتنا رغم رحيله شمسا بلا أفول‏،‏ وبحرا بلا شطآن‏..‏ فرحمه اللهُ رحمة واسعة بما قدَّم مِنْ علم نافع لمجتمعه وأمته‏.‏

كانت هذه أولَ مقالةٍ سطرتها يداي، ونُشرت بصفحة قضايا وآراء بصحيفة الأهرام الغراء صبيحة الأحد 19 من ربيع الأول عام 1425 هـ، الموافق 9 مايو عام 2004 م عقب وفاة د. محمد بلتاجي حسن بشهر تقريبا، بثثتُ من خلالها حُزني علي فقد ذلك العالم الجليل، حجةِ الدراسات الإسلامية، تلميذِ أبي زهرة، وعلي حسب الله وغيرهما من منارات العلم الشرعي.

وقد حمل المقالُ سالفَ الذكر عنوان : رؤية .. ورحيلُ عالم جليل، وقد لاقي قبولا وثناء عريضا من الزملاء والأساتذة في بلاط صاحبة الجلالة آنذاك،  ومن أساتذة دار العلوم أيضا؛ لأنه كان تعبيرا صادقا – من كاتب مازال شابا يافعا، يشُق طريقه، ويتحسس خطاه في طريق سبقه فيه العديدُ من أساطين العمل الصحفي – عن قيمة ذلك العَلَمِ الفذِّ طيب الله ثراه.

جديرٌ بالذكر أن د. مُحمد بلتاجي حسن ولد عام 1939م  في بيت علمٍ وشرف، فأبوه هو الشيخ بلتاجي حسن أحدُ العلماء المعروفين،  بمحافظة كفر الشيخ شمال دلتا النيل بمصر، والتي كانت دار إقامة فقيدنا الأولي، ثم انتقل منها إلي مدينة طنطا، وفيها جاء الشيخَ بلتاجي حسن البشيرُ يحمل له التهنئة بنجاح ابنه الأكبر محمد في ليسانس دار العلوم، وكان ترتيبُه الثالث علي دفعته، فحمد الشيخُ ربَه على نعمائه، وكانت فرحته الكُبري حين وافاه الخبرُ أيضا بأنَّ ابنه عُين معيدًا في قسم الشريعة الإسلامية، فكبّر ثلاث مرات بعدما تحقق رجاؤه، فقد كان يدعو الله دائما أن تستمر سلسلةُ العلمِ الشرعي في بيتهم.

كان الأبُ عالمًا أزهريَّا مستنيرًا يُدرِسُ التفسير والحديث في المعهد الديني  بطنطا أكثر من ثلاثين عامًا متتالية، وعلي يديه تلقي ابنُه محمد دروسه الأولي هو وأقرانه، الذين اعتادوا أن يَشُدُّوا الرحال لبيت الشيخ بلتاجي حسن ليحظوا بعلم وأدب،  وقد تعب الشيخُ بلتاجي مع ابنه حتي حفظ القرآن الكريم  وهو دون التاسعة من عمره، وبعد حصوله على الثانوية الأزهرية ترك له حُرية اختيار ما يشاء من الكليات، فاختار دار العلوم، التي تخرج فيها، وكان من أوائل دفعته، فعين مُعيدا بقسم الشريعة الإسلامية، ثم أستاذا به ورئيسا للقسم، ثم عميدا مُنتخبا لدار العلوم فترتين متتاليتين، وقد ساعده علي ذلك حبُ الكلِ له زملاء وطلبة، وهو ما عبَّر عنه العلامة د. الطاهر مكي رحمه الله أثناء كلمة مجمع اللغة العربية في حفل استقبال الأستاذ الدكتور محمد بلتاجي حسن عضواً جديداً :  “حين عدتُ من الخارج عام 1964م لأتسلم عملي مدرسًا في دار العلوم بعد اغتراب دام ثمانية أعوام، عرفتُ محمد بلتاجي معيدًا، شابًّا واثقًا من نفسه بغير زهو، معتدًّا بشخصه دون غرور، وعرفتُ منه أن موضوع رسالته للماجستير “منهج ابن الخطاب في التشريع” وأشهد أن الموضوع راق لي، وأحسستُ معه، أن هذا الباحث لن يكون فقيهًا نمطيًّا، وقد صدق حدسي بالفعل فقد استوعب  الباحث في هذه الدراسة فقه عمر دراسةً وتأصيلاً وتحليلاً ومقارنة”.

وتوالت دراسات د. بلتاجي الواعية التي قامت علي منهج  يهدف إلى تجلية حقائق الفقه الإسلامي في مسيرته الطويلة، منذ عصر الرسالة حتى وقتنا الحاضر، كان قوامَ ذلك المنهج الإدراكُ الواضح للتحديات الحضارية التي يواجهُها الفقه الإسلامي في عصرنا الحاضر، حيث تتصارع المذاهبُ والعقائد والديانات والحضارات، وهو ما يفرض على دارس الفقه الإسلامي والمتخصص فيه مواجهةً فكرية ملائمة لجوانب هذا الصراع في وقت تُحاول فيه قوى عالمية عاتية، وأخرى محلية خافتة، ولكنها مثابرة أن تهون من صلة المسلمين بتراثهم الفقهي، بالتقليل من شأنه، والسخرية منه، والزعم بعدم صلاحيته لمواكبة الفكر الحضاري الحديث وتطوراته.

لهذا انبري د. بلتاجي رحمه الله يُثبت في مؤلفاته ثراء الفقه الإسلامي في مجالاته المُتعددة، التي تحكم الحياة الإسلامية كلها، وخصوبته وإمكانات العطاء المتجددة  فيه، وصلاحيته لمواجهة كافة مشكلات الحياة المعاصرة  باجتهاداتٍ أصيلة، تقومُ على المصادر الأصلية من القرآن والسنة الصحيحة والاجتهاد، وتحقيق أكبر قدر من مصالح الناس، وهو في ذلك كله يصدرُ عن وعيٍ واضح بما يُواجه الإسلامَ من تحديات.

وقد أهلته دراساته الجليلة  والجادة لعضوية عددٍ كبير من اللجان العلمية المتخصصة في مصر وخارجها.

كما أتاحت له الأعوام المتتابعة في دار العلوم، أن يكون مدرسة علمية شامخة للدراسات الإسلامية، أصبحت مقصدَ مئات الطلاب من مختلف بقاع العالم الإسلامي والغربي من مذاهب مختلفة : سنة وشيعة وإباضية.

إضافة إلي ذلك فقد تميز عالمُنا الجليل في سبر أغوار المشكلات الدينية في سهولة ويسر، ونأى بجانبه عن كل ما يشوب كرامة العالم، وأحاط نفسه بسورٍ عالٍ من الكبرياء الحقة، يحول بينه وبين الزلفي والملق، أو العمل لغير وجه الله، وقد كان دافعُه للعمل هو وازعَ الضمير والواجب، فعف عن المادة في مُختلف مظانها، فما طلبها ولا تكالب عليها، ولم يقبل ولو للحظة أن يكون من فقهاء السلطة ؛ وهو ما أهَّله لعضوية مجمع اللغة العربية عن جدارة واستحقاق.

وبعد حياة حافلة بالعطاء رحل فقيدُنا عن دنيانا يوم الاثنين 7 من ربيع الأول 1425 هـ. الموافق 26 من أبريل 2004م تاركا وراءه نفوسا مُلتاعة ولكنها راضيةٌ بقضاء الله.  

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى