سُنَّة التفقُّد (٣)
رضا راشد | الأزهر الشريف
بعد أن اطمأننت على حال أخي عبد الله راتب النفاخ سألته عن قوله:
“وكان قمعي لمشاعري وعواطفي باسم الدين خطيئة كبرى، فالإنسانية هي الصوت الذي خلقنا لنردده، وقمعها ذبح لكل ما فينا، وما كانت الأديان لتأتي لتعذيب البشر وسلخهم عن إنسانيتهم مهما بدا ذلك في كلام دعاتها. آمنت بالإنسانية والدين إلفين اجتمعا لا يتفرقان، وإن افترقا ظاهرا أصغيت لصوت إنسانيتي؛ ففيه حتما يكمن نور الإيمان” ، ماذا أراد به فقال: هذا هو مكمن ما مررت به من أزمة على مدى العام والنصف، وذلك أني قرأ – والكلام ما زال على لسانه – قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
“لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا “.
وذلك أن أخى استشكل -ومازال يستشكل- نهى المرأة عن الإحداد على غير زوج فوق ثلاث ليال ، ويرى أنه في غير استطاعة المرأة أن تكف حزنها على من مات من عصبتها :(أبا، أوأخا، أوابنا) بعد ثلاث ليال فقط ..وذكر أخي أنه قد أفضى بذلك إلى بعض أهل العلم فلم يَحْلَ منهم بطائل ..
فكان لا بد مما ليس منه بد؛ وهو أن أجيل عين البصيرة في هذا الأمر، محاولا استجلاء حكمة الإسلام في هذا التشريع استجلاء نابعا من اليقين بحسن هذا الشرع؛ فهذا هو حكم الله 《ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون》[المائدة: ].
فكان الجواب وبالله التوفيق :
عندما نرى أمرا غريبا على عقولنا جاء به حديث نبوي فليكن أول ما يجب علينا فعله: هو التثبت من صحة الحديث؛ تيقنا من أنه وحي، فإذا ثبتت صحة الحديث كما هو الحال في حديثنا؛ (من أنه ورد في صحيح البخاري، أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى ) ،وثبت من قبل أن الحديث النبوي وحي؛ (من أن النبي صلى الله عليه وسلم ما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى)؛ فقد علمنا أن هذا التشريع وحي من الله الخالق نفس المرأة، الأعلم بطاقتها وقدراتها وما تستطيعه ومالا تستطيعه《ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير》[الملك: ] ، ثم هو الأرحم بها فلا يكلفها إلا وسعها ولا يحملها فوق ما آتاها .
إذن فقد صدر الأمر الإلهي الوارد على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم ممن خلق 《ألا له الخلق والأمر》[الأعراف: ]، وصدور الأمر للنفس من خالقها (العالم بها، الرحيم بها) ينفي عنه تهمة التكليف بما لا يستطاع؛ سفها أو تعجيزا ،تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا…هذا أولا.
وثانيا:فإن الله عز وجل الذي شدد على المرأة في عدم الإحداد على غير زوج بأكثر من ثلاث ليال هو هو سبحانه الذي مد لهذه المرأة نفسها أن تُحِدَّ أربعة أشهر وعشرة أيام إذا كان الميتُ زوجَها ..أفلا تدعونا المغايرة في الحكم إلى التبصر وصولا لليقين بأن ثمة حكمة إلهية من وراء كلٍّ،وأن تعسفا أو تكليفا بما لا يستطاع لم يكن ولن يكون ؟! إذ لو كان المنهج في التشريع التعسف لكان ذلك سلوكا مطردا ..لكن أما وقد كانت مغايرةٌ في الحكم بحسب صلة الميت بالمرأة المحدة فهذا يدل على الاستطاعة في الأمرين .
وثالثا : فإن العقل البشري ليس في وسعه استيعاب كل أسرار التشريع؛ فإن هناك عباداتٍ معقولةَ المعنى وعباداتٍ لا معقولةَ المعنى؛ ولهذا تبدو العبودية في أجلى مظاهرها في العبادات اللامعقولة المعنى؛ لأنه لا دافع ثَمَّ للاستجابة حينئذ إلا 《سمعنا وأطعنا 》 وهذا هو شعار العبودية..أما العبادات المعقولة المعنى فقد يندفع المرء لامتثالها؛ تأثرا بما ظهر له من حكمة مشروعيتها، فربما كان ذلك مخلا بعبوديته في امتثالها أمرا، أو اجتنابها نهيا ،حيث يزاحم ما يعلمه من فوائد العبادة أو مضار المعصية نيتَه في الاستجابة المطلقة لله تعالى فيما أمر به أو نهى عنه فينقص ذلك من أجره. أما العبودية الكاملة فتكون فيما يفعله المرء أو يجتنبه لا يعلم له حكمة إلا أن الله أمر به أو نهى عنه .
ولئن كان العقل البشري عاجزا على تفهم كل أسرار الكون المادية، مع أنها من صميم مجاله، فلهو إذن أشد عجزا عن استكناه كل أسرار التشريع السماوي ..فكان الواجب عليه في مثل هذه الأمور أن يبوء بعجزه وسوء فهمه متهما نفسه بالقصور عن فهم أسرار التشريع، بدلا من التشكك الذي ربما زلزل الإيمان في القلوب، وأن يعلم أن حاله مع هذه الشرائع كحال الطفل الصغير: تدرس له الكيمياء أو الفيزياء أو ما شئت من العلوم المعقدة فلا يفهم منها شيئا، فهل العيب فيها أو في قصور العقل عن فهمها ؟ فكذلكم العقل البشري مع أسرار بعض الشرائع .
هذه هي الأصول العامة التى ينبغي على المسلم أن يبني عليها نظره فيما يستغرب من أحكام شرعية .وهذا ما كان ينبغي على أخينا أن يفعل.
فماذا عن مثار اعتراضه ؟
وهل له محل من النظر ؟
وما الجواب عنه؟
وهل يكفي هذا الذي أجبت به عن سؤاله على وجه الخصوص في قطع دابر الشبهة واستئصال شأفتها ؟
هذا ما سنذكره في مقال لاحق إن شاء الله
يتبع