قراءة في إبداع شاعر الوجدان علي عمران

 عمرو الزيات | ناقد وأديب مصري

للشعر العربي – على امتدادِ تاريخه، وعمقِ جذوره – اتجاهاتٌ كثيرة، تنوعَتْ حسبَ البيئاتِ المختلفة التي فُرِضتْ على الشعراء العرب، ولسنا نَعني هنا بالبيئة المكانَ الجغرافيَّ أو ما يسمىٰ بـ ( البيئة المكانية )، إنما نعني بها تلك الظروفَ التي كان لها عظيمُ الأثرِ في تكوين هؤلاء الشعراء، وهي كلُّ ما يحيط بالشاعر من ظروفٍ اجتماعيةٍ، وسياسيةٍ، واقتصاديةٍ، ونفسية، وكلها عواملُ تشكِّل بيئةَ الشاعر ، ويختلف الشعراء حسبَ تلك العوامل جميعِها، وإنْ جمعتْهم بيئةٌ مكانية واحدة.

من أبرز تلك الاتجاهات ذلك الاتجاهُ الذي يولِّي الوجدانَ عنايةً شديدة؛ إذ لا يُتخيل الشعر بدون تلك الحالة الذاتية التي تُبرِز إحساسَ الشاعر وانفعالاتِه، فيأتي شعرُه ترجمانًا وتعبيرًا عن مكنونات نفسه، والشعر – في رأينا – هو أخصُّ الفنون وأقدَرُها تعبيرًا عن نفس مبدعه.

ومن شعراء هذا الاتجاه قديمًا الشريفُ الرضي، وأبو نواس، وجميل بن معمر، وكثيّر عزة، وابن أبي ربيعة، ومنهم -حديثًا – بعض شعراء “جماعة أبوللو ” أو ما أطلق عليه أستاذُنا الدكتور أحمد هيكل -في كتابه (تطور الأدب الحديث في مصر)- “الاتجاه الابتداعي العاطفي”، وهي تسميةٌ وجيهة لها مبرراتها ” نظرا لكون الشعرِ السائرِ في هذا الاتجاه لا يتسِمُ بالتجديد فحسب، وإنما يتجاوزه إلى الابتداع المنطلِق المتحرر، ثم لكَوْن هذا الشعر يجيش بالعاطفة الحارة المتدفقة، لا بالبيان المنَمَّق، ولا بالذهن المتفلسف “

على عمران امتدادٌ لذلك الاتجاه الوجداني في شعرنا المعاصر، بل إنه – في رأينا – يمثِّل قمةَ هذا الاتجاه وبرهانَ تطوره ونضجِه؛ فقد استطاع أن يجمع في شعره ما ينمازُ به كلُّ شاعرٍ من هؤلاء دونما ذوبانٍ في أحدهم؛ فصاحبُنا يملك أسلوبًا خاصًا في الشعر المعاصر ” وعلي عمران من تلك الطبقة التي يغريك شعرُها؛ لعذوبة ألفاظه وجمالِ معجمه الشعري الذي يميزه عن غيره من الشعراء، وله مهيعٌ لا يسلكه غيره، وكم يظن كثيرٌ أنهم قادرون على السيرِ معه وخوضِ مضماره؛ بيد أنهم واهمون الوهمَ كلَّه؛ يعرفون بعد تلك الرحلة المضنية أنهم لا قِبَل لهم بمجاراته والنسجِ على منواله، ويوقنون أنه – وحده – يملك مفاتيح تلك القلعة الساحرة. ” 2
تجد في شعر علي عمران لوعةَ الأسىٰ، والحنينَ إلى الحبيب، والتغنيَ بمفاتنه، وهو عاشقٌ من شَعر رأسه حتى أخْمَصِ قدمه، شأنه في ذلك شأن الشريف الرضي ” إن الشريف لم يكن يعرف السكون ولو نزل إلى مغارات الكهوف؛ لأن لذكريات العيون والنحور والخدود ضجيجًا يوقظ الأموات، ويَصِم الأحياءَ، وهو قد رأى من الوجوه الوسيمة، وسمع من الأصوات الرخيمة، ما يسوق العقلاءَ إلى حظيرة المجانين” 2

وإن كان الشريف الرضي “يترفع عن أساليب هذا التلاعب بالألفاظ. ولعل هذا هو ما ينبغي أن يكون ؛ لأن الشريفَ شاعرُ الوجدان، والتلاعبُ بالألفاظ يتلِفُ أثرَ الشعر الوجداني في النفس إذ لا يستقيم معه، وإنْ أطرَبَ التلاعبُ باللفظ بعض الناس طربًا سطحيًا إلا أنه ليس طربَ الوجدان والعاطفة .” 3

فإن أكثرَ ما يضيق به علي عمران هو ذلك التلاعبُ بالألفاظ؛ إذ يراه – ونحن معه – من النظم الذميم، وهو جناية لم يَجْنِها على الشعر سوىٰ زَغَلِ الشعراء النظَّامين أحلاسِ الظلام، وخيرٌ من عناء كتابته الصحائفُ البيضاء.

وفي شعره الاعتمادُ على الحكايةِ والقصِّ ( الدراما الشعرية )، استخدام الأساليب الطلبية التي تشيع في شعره تلك الحيوية، فتسمع معها قلبَه النابضَ حبًا في الحياة، وعشقًا لكل جميل، كما تجد في شعره جمالَ الموسيقىٰ ورشاقتَها، ولغتَه التي يمكننا أن نطلق عليها ( اللغة الحيّة ) فهي مناسِبةٌ لكل عصر يفهمها الناسُ في كل زمان ومكان، تلك اللغة التي نأت -رغم فصاحتها – عن الألفاظ المعجمية ، وإذا كانت تلك السماتُ جميعُها قد تَميَّزَ بها النُّواسيُّ على رفاقه وأبناء بيئته، فإنها بعض ما يميّز شِعرَ علي عمران .
ـــــــــــــــــــــــــ
1 علي عمران شاعر الطبع- شوارد مقالات في الأدب والنقد – عمرو الزيات.
2 عبقرية الشريف الرضي – د. زكي مبارك.
3 الشريف الرضي وخصائص شعره – شكري – مجلة الرسالة العدد ٢٨٧ السنة ١٩٣٩.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى