بالحبر الأبيض.. سيرة صحفية (٣٠)
عليّ جبّار عطيّة | رئيس تحرير جريدة أوروك العراقية
خالد الخزرجي .. الرافض في وطن البلور !
تعرفت في قسم التصحيح في جريدة (العراق) يوم الاثنين الموافق ١٩٩٢/٩/٢٤م إلى الشاعر خالد الخزرجي (خالد محمد علي وهبي الخزرجي).. جذبني إليه صوته الأجش المجلجل، وأُسلوبه الثوري في النقاش… لا يحتاج المرء إلى عناء ليعرف أنَّ هذا الرجل شخصية رافضة للنظام الدكتاتوري القائم !
سألته عن صلة قربه بالشاعرة الدكتورة عاتكة الخزرجي فقال : إنَّها عمتي !.. [الدكتورة عاتكة وهبي الخزرجي (١٩٢٤ـ ١٩٩٧م) ، درست الدكتوراه في جامعة السوربون سنة١٩٥٠ ، وحصلت عليها عن أطروحتها في شعر (العباس بن الأحنف) وأثبتت فيه أنَّ حبيبة الشاعر (فوز) هي عُلية (العباسة) بنت المهدي العباسي، و شقيقة هارون الرشيد) غلب على شعرها الحب والتصوف]
لكنَّ الخزرجي لم يخف مقاطعته لعمته عاتكة لأسباب تتعلق بالخلاف بشأن توزيع الإرث إذ أنَّ أباها وهبي الأمين الخزرجي كان ضابطاً في الجيش التركي برتبة قائممقام (عقيد) وأصبح متصرفاً للموصل سنة ١٩٢١ فمتصرفاً للواء ديالى، وفي سنة ١٩٢٤م وبعد ولادة عاتكة بستة أشهر توفى الوالد !
حين تعرفت إلى خالد الخزرجي ، وجدته مستمعاً جيداً ، ومتحدثاً جيداً، وضليعاً في اللغة والنحو فضلاً عن كونه شاعراً مُجيداً
ومن قصائده يقول:
ها نحن نحدد ميلاد الأشجار
ونزرع في رحم الأغصان بلاد النور
ونبعثر أحلام الطاغوت
و نطلع من وطن بلور
ها نحنُ نثور
و نجيء فراشات
وصبايا حور
هذا مقطع عنوانه (الميلاد) من قصيدة اسمها (نصوص من ذاكرة الحرب).
هو من مواليد سنة ١٩٤٠م في محافظة المثنى ، حصل على البكالوريوس في علم النفس من الجامعة المستنصرية سنة ١٩٧٧م ، ومارس التعليم نحو ٢٦ سنة .
سألته عن سر تمكنه من النحو والبلاغة واللغة فقال :إنَّه لم يكف لحد الآن عن التعلم والمراجعة.
قال : إنَّه عمل في قسم التصحيح ثماني سنوات في جريدتي (الثورة) ، و(الجمهورية) مناصفةً.
من دواوينه (مرآة العشق) ١٩٧٤، و(العصافير يقتلها الظمأ)/ ١٩٧٩، مع ثلاث مجاميع شعرية للأطفال هي (الأمل) /١٩٧٩،و( قوس قزح) /١٩٩٥، و(قناديل)/٢٠٠١
صوت الخزرجي مجلجل هادر اذا تكلم يسمعه من كان في الغرفة الأخرى، وتشعر فور تعرفك إليه أنَّه معارض لا يريد أن يلوث تاريخه بحرف مديح، ولذلك قبل بأبسط الأعمال لتمشية أموره المعيشية حتى اضطر وقت اشتداد الحصار منتصف التسعينيات إلى افتراش بسطة على الرصيف قرب جسر باب المعظم يبيع فيها حقائب جلدية قديمة وكتباً ومجلات ستينية.
مشكلته في بيته أن ابنه سلام مصاب بشلل الأطفال منذ الولادة مما يستلزم وجود شخصٍ مرافقٍ له في كل الأوقات، ومن الصعب على الإنسان أن يجد معوقاً في بيته فكيف بشاعر مرهف الحس مثل الشاعر خالد الخزرجي.
وحين تحرر سلام بانتقاله إلى الدار الآخرة وهو في العشرين من عمره أحسستُ كأنَّ أباه هو الذي أُطلق سراحه؛ لأنَّ وجود مشلول في البيت يشل حياة الأُسرة كلها !!
إذا دار النقاش حول مفردة من مفردات يلقي الخزرجي رأيه بهدوء، ومن دون تعصب بعكس بعض الزملاء الذين يرون أنَّ الحق معهم في جميع الأوقات.
تناقشنا بشأن تغيير بعض المفردات فقال الخزرجي : كنا نغير فعل (يعتبر) إلى فعل (يُعد) في قسم التصحيح في جريدة (الثورة) حسب توجيهات رئيس القسم اللغوي أحمد خطاب عمر [كانت لأحمد خطاب عمر زاوية أسبوعية في جريدة (الثورة) بعنوان (أزاهير من الفصحى) يصوّب فيها الأخطاء الشائعة ،ويتبنى توصيات المجمع العلمي العراقي في تداول المفردات العربية بدلا عن الأجنبية ، وهو من أشاع مفردة (التلفاز) بدلاً من (تلفزيون) و(سيما) بدلاً من (سينما) و(شريط) بدلاً من (الفلم) .
وقد كان المشرف اللغوي في فضائية صلاح الدين بعد التغيير سنة ٢٠٠٣م ، وقد قتل بحادث إرهابي حين اقتحم أربعة انتحاريين من عناصر داعش مقر فضائية صلاح الدين عصر الاثنين ٢٠١٣/١٢/٢٣ م وكان نصيبه قنبلة يدوية، وقُتل معه أيضاً مدير قسم الأخبار المصور رعد ياسين، والمذيعة وسن العزاوي، ومدير قسم التنسيق محمد عبد الحميد ].
قلنا له : لا حرج عندنا من استعمال كلا الفعلين.
قال الخزرجي : كنا نرسم النون في ( إذن) على تنويناً على الألف؟
فرد عليه ريسان مطر بعنف : إلى أن أموت
ويضعوني في القبر لن أكتب كلمة إذن إلا برسم حرف النون !
وفي جلسةٍ أخرى، أبديت رأي مدرس اللغة العربية في الدراسة المتوسطة في ثانوية (الشروق) بمدينة الحرية َ غربي بغداد الشاعر محمود الريفي (محمود عبد حمود الريفي ١٩٣٠م ـ٢٠٠٥م) بشأن نائب الفاعل، يتساءل الريفي :ما الفرق بين قولنا : (انكسرت الزجاجة)، و( كُسرت الزجاجة)؟ ، ويردف القول : هناك معلمة ذكية تتوقف أمام إعراب (سقط المطر) وتتساءل : هل المطر فاعل؟
علَّق اللغوي حسين محمود بالقول : إنَّ عدم ذكر الفاعل يعود إما لمجهوليته، أو خوفاً منه!
لذا يُبنى الفعل للمجهول !
(ذكر العلماء جملةً من الأسباب لبناء الفعل للمجهول منها: عدم تخصيص الفاعل، أو مراعاة غرض السامع، وقد يكون الغرض من حذف الفاعل وبناء الفعل للمفعول تحقير الفاعل وذلك بإهمال ذكره، والفاعل يدل على من فَعل الفعلَ، أما نائب الفاعل فيدلّ على من وقع عليه الفعل، ويحل محل الفاعل، ولكن حين حُذف الفاعل من الجملة لأي سبب، فإنّ مَن وقع عليه الفعل ينوب عن الفاعل ويأخذ أحكام الفاعل في الإعراب، سوى أنّه يُسمى نائب فاعل)
قال الخزرجي : إنَّ نائب الفاعل مفعول به ناب مناب الفاعل، ولا أهمية للتسميات، فحين نقول : (سقط المطر) فالمطر هنا فاعل لأن معنى الفاعل هو من قام بالفعل، أو اتصف به. مثل هذه النقاشات أراها ضرورية، ليس للوصول إلى الصحيح وإنما للوصول الى الأصح.
كان الخزرجي حاد الطبع يثور إذا أحس أن أحداً مس كرامته بشيء، وقد احتج على إدارة الجريدة عدة مرات لبعض القرارات التنظيمية التي يعدها تقييداً لحريته إلا أن ضغط الحاجة كان يضطره إلى مواصلة العمل في التصحيح. ظلت علاقتي به تزداد قوةً.
أُصيب بنوبة قلبية، فاتصل أهله بي، وقالوا : لقد طلبك، وهو في غرفة الإنعاش في مدينة الطب في الباب المعظم.
كان ذلك في خريف سنة ١٩٩٤م.
ذهبت إلى المسؤول عن غرفة السيطرة، فرفض دخولي، وبعد الحاحي سمح لي بلقاء الخزرجي لبضع دقائق بشرط ألا أُثير شجونه.
لكنه ما أن رآني حتى تساقطت دموعه، وأخذ مسؤول غرفة السيطرة ينادي عليَّ بالخروج ويصيح : ماذا فعلت؟ إنَّ الأجهزة تشير إلى أرقام خطيرة، ألم أنهك عن إثارته ؟
لم ينس الخزرجي هذا الموقف فبعد أيام من خروجه من المستشفى كتب قصيدةً عنوانها (مكابدة) أهداها لي، ونشرت في جريدة (العراق) العدد ٥٥٩٧ الصادرة يوم الثلاثاء الموافق ١٩٩٤/٩/٢٧ يقول فيها:
وحدك الآن تسكن ذاكرتي
وتمر على باب بيتي
فتنزل ضيفاً بقلبي
حنيناً شفيفاً
تطهر روحي وتملأني ثقةً
بالزمان و بالأوفياء
أتمرى خيالك
يبرق وقت احتشاء الظلام
حيث نجمتك القروية ما فتئت
تصل الروح بالروح
تملأ أُفقي بعينين براقتين كأنهما
قطرات الندى
وانسكاب الضياء
وحكايا اللواتي هجرن مفاتنهنَّ
لصفوتك الشعراء وتملأ سمعي بعذب الغناء يا نديم جراحي الوفي الوحيد
في الزمان العنيد!
ـ آسف ـ إنَّ عينيك ماكرتان
تشفان عن قلق
وهواجس نعرفها
ونُخبئها
عن دهاقنة ولصوص يمارون
يمتهنون الكلام
تخفف الحصار بعد توقيع مذكرة التفاهم سنة ١٩٩٦ وبدأ حلم خالد الخزرجي بالتحقق بأن يأكل خمس بيضات مرة واحدةً !
سقط النظام في نيسان ٢٠٠٣ فبدأت الحياة تدب في خالد الشاعر والإنسان.
أصدر مجاميع شعرية منها :(الرقى) /٢٠٠٥، و(نقوش مسمارية) ٢٠٠٥، و(أخطاء الأنثى)/ ٢٠٠٨. وحين تسلمتُ مسؤوليات عددٍ من الصفحات في جريدة (التآخي) في شهر آيار سنة ٢٠٠٥ خصصت له عموداً ثابتاً كل أسبوع، استمر في إدامته، حتى اليوم الفاجع الذي اتصلت به ابنته الكبيرة(زينة) يوم السبت ٢٠٠٩/٤/١١ لتخبرني برحيله المفاجىء من دون أي مقدمات وقبل احتساء شاي الضحى الأخير.
(السيرة مستمرةٌ.. شكراً لمن صبر معي.. يتبع)