جمالية الإبداع الشعري..في “توأم أمي” للتونسي جلال باباي
محمد المحسن | تونس
لما كان النص هـو معنى وليس حامـلا لـه،ولما كان المعنى في القصيـدة يتشـكل بطريقـة مغايـرة لما هـو مألوف خارج الشعر، كان على الشاعر أن يستعين بعدد من الآليات والتقنيات والأساليب الخاصة لصياغة هذا المعنى بالشـكل الذي يؤثر في المتلقي ليتجسـد فعل الاستجابة.
وقـد ينجح الشـاعر في نقـل المعنى مـن دائـرة الغنائية والخطابية في نص يتفاعل الذات الشاعرة مع الفكرة،وتمكّن الشـاعر من أدواته، ونقطة الشروع في هذا الامر تبدأ من عملية اختيار الشاعر لمعجمه الشعري الذي يتماهى مع موضوع القصيدة، ومـن ثم اختيار السياق المناسب، وهنا تتضح قـدرة الشاعر في التعامل مع اللغة ونجاحه في تفجيـر طاقاتها الكامنـة، وقـد تنبه عبد القاهر الجرجاني^ إلى هـذه القضية، إذ أكد أن جمالية المعنى لا تأتي من شرفه وجلاله بل من خلال طريقة صياغته وتشكله. والقارئ لقصيدة الشاعر التونسي القدير جلال باباي “توأم أمي” يجد أن المعنى كان ضاغطا على الشاعر إلى حدّ كبير لأنه يرمز في كثير من معانيه إلى فيض العواطف ونبل المقاصد..
وهنا أقول:
ما أكثر ما يكتب الشعراء عن المرأة ! وعندما أقرأ شعرا لشاعر معاصر يخاطب امرأة ،سرعان ما تقودني قراءتي للتعمق في ما هو كامن وراء أسلوب الشاعر من تقييمه الإنساني لمخلوق استوطن ملكوت الشعر منذ أن دنا إليه خيال الشعراء ( المرأة ).فلا زلت أقرأ المرأة عيونا،ورموشا،وخدودا،وجيدا، وخصرا.ولا زلت أقرأ العلاقة معها: شوقا وعشقا وسهدا وأسرا.ولست أمانع إن فعل ذلك الشعراء وهو ديدنهم وجهدهم.
ولكنني يلفت انتباهي أن يرى شاعر امرأة رؤية شاعرية وجدانية غير ملتزمة بموروث الشعراء الرجال من كيفيات التقييم والتعبير.
الشاعر التونسي الكبير جلال باباي الكبير يمتلك تلك الرؤية التي تستشف الداخل الأنثوي استشفافا لا يدعك تخرج عنه لتبحث عن الجسد بعد .
وفي هذه القصيدة (توأم أمي) يتلو علينا تعاليمه الوجدانية التي تفتح للشعراء مدرسة جديدة لفنية انبثاق الخطاب الشاعري الوجداني للكائن الأنثوي الداخلي (المرأة) دون المرور بحواجز الجسد المهيمنة.
هي إذن قصيدة ذات رؤية متفردة .تمثل اختراقا للعرف التعبيري عند الشعراء الرجال. وسنلاحظ كيف أبدع الشاعر باللمس العميق والتصوير النافذ الدقيق لمعانيه المبتكرة التي ما راودت خيال شاعر سواه من قبل.
يصور الشاعر الشخصية الأنثوية الداخلية ولكأنها-ناسك-فيصبح المضمون طاهرا متبتلا ومنقطعا إلى الزهد .
وهي الصفات التي تستعار من الناسك.ثم إن الناسك يسكن في صومعته.وتكون الصومعة هكذا هي الجسد الأنثوي أو (الخارجي الشكلي).
ومفتاح هذا التمثيل البلاغي “صومعة الحياء لناسك ” هو ” الحياء ” فبهذا المفتاح يلفت الشاعر الانتباه إلى ما يرغب في استقرائه والتركيز عليه في الجمال المعنوي الأنثوي.
ومن المعروف أن الصفات التي يستخدمها الشعراء هي ما تقتنصه ملاحظتهم الانفعالية فيما يركزون عليه حواسهم.
يخاطب الشاعر امرأة (توأم أمه) ” .ناجية”ابتسامة الروح وصفاء الوجدان..المطلع لوحة تشكيلية لوجه امرأة تبدو لي مبتسمة في وجه الحياة.ابتسامتها حقيقية،ﻷن الشاعر أضافها إلى الروح.وهي ابتسامة مفعمة بالإنسانية والبهاء (صوتها الناعم مثل أهازيج الخطاف..)
وفي الجمع بين ابتسامة الروح والحزن طباق معنوي يمزج شعورين متضادين بريشة تسحب المعنى من عمق الروح لتفرشه ابتسامة حية على وجه امرأة.فهنا دواعي الحيرة التي تذكرنا باضطراب اجتماع مشاعر متعددة في ابتسامة الموناليزا.”
ونحن لن نعكف على إحصاء الخصائص اللغوية التي يتميز بها الأسلوب عند شاعرنا الفذ جلال باباي.ﻷن هذه قراءة جمالية اختيرت في الأصل لهدف محدد،وهو التركيز على استقراء اللغة التعبيرية التي يستخدمها الشاعر للتعبير عن الجمال المعنوي للمرأة منفردا عن غيره من الشعراء الحسيين .
غير أن القراءة الجمالية في شعر الأستاذ جلال باباي لا يمكن لها إلا أن تمر بأسلوبه اللغوي الذي بات معروفا به ومميزا له لشدة تعلقه بفنون البلاغة والبيان.بحيث أنه لا يقدم تركيبا لغويا إلا بتلغيمه باحتمالات متعددة للمعنى.واحتمالات متعددة لتفسير الصورة الفنية نفسها.
لذا فإن المعجم الشعري الخاص بشاعرنا قد بلغ حدا من الدقة في اختبار الألفاظ فرض على المتلقي المتذوق حاجة ماسة للتأمل. على غرار البيت الأول في قصيدته العذبة”توأم أمي”
“كنت أقضم ماتبقى من أنامل حريرها غداء بطعم التفاح…والجلنار..”
إنَّ قصائد جلال باباي (وهذا الرأي يخصني) قصائد جماليَّة،ترتسم رؤيتها بهندسة نسقية متفاعلة الخطوط، والألوان، والإيحاءات، والظلال اللونيَّة، والإيقاعات الداخليَّة؛ إذْ تتفاعل الشذرات التصويريّة فيما بينها بأنساق مؤتلفة تؤكد فنيّة القصيدة، وتنظيمها النسقي الفاعل لديه في إضفاء طابع جمالي منسق على اللوحة المشهديّة ككل، كما لو أنَّها مرسومة بريشة فنية دقيقة ترصد الأبعاد والمشاهد والرؤى بدقة متناهية للمتلقي.
إنَّ كل مقطع يشكل لوحة جزئية متكاملة في قصائده وهذا دليل على مهارة شعريَّة فائقة في التقاط المشاهد؛ وترسيم أبعادها بعناية دقيقة، وقدرة بارعة في التقاط الصور،الجزئية، والتوليف فيما بنيها، لتبدو ذات تموجات فنية، وبصريَّة، تثير القارئ بصريًّا، كما تثيره إيحائيًّا وإيقاعيًّا.
وانتهينا إلى أن قصائد جلال باباي تنفتح على عدة قراءات اجتماعية وثقافية وفنية،وحققت لغتها جمالية خاصة بحكم ما يمتلك من كفايات إبداعية وقدرات مكنته من تشكيل رؤياه الشعرية الخاصة التي تتوحد فيها جهوده ويلتحم الذاتي بالموضوعي.وبدا أن عمله ميزته كثير من الخصوصيات الفنية والمقومات الجمالية،وخاصة اللغة التي تمظهرت جماليتها من خلال تناغم الحقول الدلالية وتنوع الرموز الشعرية المفعمة بالطاقة الإيحائية والتعبيرية واعتماد الإنزياح في أبعاده المختلفة.
ختاما تحية مني -لتوأم أمه-..تحية من خلف شغاف القلب:
“توأم امي”
الإهداء : الى اعز النساء..ناجية تليجة..اشبه بشقيقة امي
كنت اقضم ماتبقى من انامل حريرها غداء بطعم التفاح…والجلنار
عاليا كنت انصت الى صوتها الناعم مثل أهازيج الخطاف تنبعث ضياء الى وسادتي
ووشوشة الفراشات في سقيفة الدار….
…يشهد كرسيها القابع عند زوايا البيت على يتم النهار
تأخرت هذا اليوم قهوتها اليافعة بعطر الشمس
وانكسر نوار اللوز وذبلت طيور الاشجار…
…مازلت ارتقب حلولها عند تلال غربتي
حتى ينقشع الليل و تتلألأ اقمار
أناجيك .. أخيتي… شقيقة امي …قد اغتالني في غيابك الدمار
ها توأم ربٌة البيت…”ناجية” انتظرك عند دفة الموجة الاولى..أرجوحة طفولتي وبهجة الصغار
لم اكترث بعلٌتي وجراحات كهولتي…بيد ان نجواك
قد أزاح غمام النهار
ثم بشرتني بلقياك وعودتك المرتقبة نجمة الوقار
اناديك لتذيب خجلي المفرط
….وتدعوك الوردة لمأدبة العشاء.. خليلة ولؤلؤة السمار.
^^^^^^
^أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني (400-471هـ/1009- 1078م) النحوي المتكلم، ولد في جرجان لأسرة رقيقة الحال، نشأ ولوعاً بالعلم، محبّاً للثقافة، فأقبل على الكتب يلتهمها، وخاصة كتب النحو والأدب.