المسكوت عنه في كتاب التاريخ

د.خضر محجز | فلسطين

يقال إن المنتصرين هم من يكتبون التاريخ. وهذا صحيح. لكن سيبقى هناك دائماً، تحت قشرة النص التاريخي، الذي كتبه المهيمنون، نصٌ آخر كتبه ضمير المهمشين، ويلح دوماً على أن يطل برأسه من بين السطور.

لا يمكن للحقيقة أن تُغتال هكذا دائماً، دون أن تخلف وراءها بعض آثارها، علامة على أن هناك مسكوتاً عنه، يوشك أن يصرخ من بين السطور، معلنا عن تحققه، برغم قانون القوة.
فلنقرأ هذ النص الماتع، الذي يكثر خطباؤنا من الاستشهاد به، على عظمة المحدث الشهير عبد الله بن المبارك، رحمه الله.

أورد ابن كثير، في ترجمته لعبد الله بن المبارك ـ رحمه الله ـ ما يلي:

“وخرج مرة إلى الحج، فاجتاز ببعض البلاد، فمات طائر معهم، فأمر بإلقائه على مزبلة هناك. وسار أصحابه أمامه، وتخلف هو وراءهم. فلما مر بالمزبلة، إذا جارية قد خرجت من دار قريبة منها، فأخذت ذلك الطائر الميت، ثم لفّته، ثم أسرعت به إلى الدار. فجاء، فسألها عن أمرها وأخذها الميتة. فقالت أنا وأخي هنا ليس لنا شيء إلا هذا الازار، وليس لنا قوت إلا ما يلقى على هذه المزبلة. وقد حلّت لنا الميتةُ منذ أيام، وكان أبونا له مال فظُلم، وأُخذ مالُه، وقُتل. فأمر ابن المبارك برد الأحمال. وقال لوكيله: كم معك من النفقة؟ قال: ألف دينار. فقال عدّ منها عشرين ديناراً، تكفينا إلى مرو، وأعطها الباقي، فهذا أفضل من حجنا في هذا العام. ثم رجع” البداية والنهاية. ج10. ص179.

لهذا النص قراءتان، أولاهما ظاهرة جلية، وأخرى خفية مسكوت عنها:

فالقراءة الظاهرة هي ما كتبه تاريخ القوة، وتتوقف عند سماحة عبد الله بن المبارك، وحبه للمساكين. وتلك لعمري خصلة نعترف بها لسلفنا الصالح، رضوان الله عليهم. وهي ما يستدعي كل هذا الفخر، من على المنابر، من وعاظنا.

لكن القراءة الثانية هي ما أصبو إليه، بحثا عما هو صامت في ثنايا النص، ويبلغ من بلاغة صمته أنه يوشك أن يصرخ. وهذه القراءة الثانية، هي التي تحيلنا إلى تساؤل مشروع، حول مشروعية ذلك النظام السياسي، الذي أنتج هذه الظاهرة، وكتب هذا النص.

نحن نعلم أن عبد الله بن المبارك كان يعيش في العصر الذهبي لدولة الخلافة، التي يقوم عليها هارون الرشيد، الذي يقال لنا دوماً إنه يحج عاماً، ويغزو عاماً. فإذا كان هارون الرشيد على هذا القدر من الجمال، فكيف أمكن أن يوجد في عهده من يبحث عن طعامه في المزابل؟
أوليس هو من تولى أمر المسلمين، وسمع بسيرة أسلافه العظماء، الذين كانوا يلقون الطعام على رؤوس الجبال، لتأكل الطير؟

أوليس هو من يعلم سيرة الخليفة الثاني ـ رضي الله عنه ـ الذي كان يقول إنه مسؤول عن عثرة البغلة في العراق، فيما لو لم يمهد لها الطريق؟

إن هذه القراءة الثانية لتؤكد لنا، أن عصر الخلافة ـ من بعد الراشدين ـ قد تعرض لمحاولات تجميل فاشلة، بدليل وجود هؤلاء الذين يُقتلون ظلماً، ثم يأكل أبناؤهم من بعدهم من على المزابل، رغم أن السحابة كانت في تلك الأيام الضريبة لدولة الرشيد؟

هكذا أقرأ التاريخ يا أصدقائي.

وهكذا يمكن لنا اكتشاف كم القبح المختفي وراء كل هذه الشعارات الظنانة.

فاللهم اهد قومي، فإنهم لا يعلمون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى