رَسَائلُ «ع».. مهاد

بسام الشاعر | مصر – الجيزة

كتبتُ إليكِ من عتبِ رسالة عاشق تعب

                              رسائله، منازله، يعمّرها بلا سبب

أنا أعطيتُ هذا الليل أسمائي وهاجر بي

                     جعلتُ نجومه كتبًا، رسمتُك نجمة الكتب

 

أحبَّها..

إلا إنها لم تكن تتحلّى بالشجاعة التي تسمح لها أن تذكر اسمه علانية وقتها؛ فقرر أن يكتب لأجلها كتابًا يدخل به -رغمًا عن الجميع- بيتها وكل بيت له علاقة ببيتها، بل ويستقر في غرفتها، على سريرها، فوق وسادتها؛ فتستطيع أن تملأ باسمه الدنيا وتردِّد أمام الجميع وللجميع في هدوء وحرية: فلان.. فلان.. فلان.. هو كاتبي الأول.

*** 

مهاد

خلق الله هذا الكون وهيَّأه على حكمة من الوجود بالغة، وجعلها تجري على صورة من الكمال التام، وأقام فيه البراهين الشاهدة على عظمة الخلق، ثم جعل أعظم ما في الوجود الإنسان، وجعل أعظم ما في الإنسان تلك المضغة الساكنة صدره التي يقال لها القلب! ثم هيَّأ للقلب لغة من خفقانه، وأقام عليها المترادفات التي تدور على نسق في الشعور من نسقه، وتحيا في معنى من التأثر يجري على معانيه! وجعل لكل ذلك قاعدة تُدعى «الحب»، تطرد على جهتين هما اليقين والرحمة، ثم مضادات ذلك وما ينشعِب وما يلحق، فإن الإنسان لا يكون إنسانًا إلا بقدر تجمع تلك المعاني فيه على جهة من الزيادة والمضاعفة؛ فكلَّما حصَّل المرء فيها درجة؛ كان حسابها فيه مبنيًّا على طريقة من التثنية؛ واحدة بما يستحق معها أن يكون إنسانًا، والأخرى بما ارتفع به مع الأولى من زيادة ورقيِّ درجة.

ثم إنه لا يكون انحطاط الإنسان عن رتبته التي جُبل عليها فيقع في وهدة من نفسه إلا بمقدار إخلاله بهذه المعاني نقصًا وتفريطًا؛ فأنت لا تنظر للملحد إلا وتنظر معه إلى يقين ممحوق، ولا تقع عينك على القاسي إلا ويكون مرآك لقلب انقطعت منه الرحمة، ولا يقبل عليك شقيُّ إلا ويقبل عليك منه قلب هجره الحب وفارقه، وبقي منفوضًا كشجرة يابسة ترك عليها الخريف ظلاله، وخلفها فروعًا يابسة لا تتمنى إذ تتمنى إلا مقدم الربيع وترجوه!!

إنما جعل هذا القلب لتتقلب فيه فصول الإنسانية بمعانيها، فتتفاضل وتنبعث على نسق من تباين فصولها؛ فما تصعد به ألف درجة إلا وتنزل به أضعافها، وما تسير به ألف ميل إلا لتقعد به مثليها؛ وتُمسِي الدنيا وقد باتت تمطره مآسي ومسراتٍ على بعد ما بين مشرقها ومغربها؛ فتمرُّ به السعادة ممزوجة بالفرح، والحزن وقد خالطه الأسى، لتعتمل صور كل ذلك في قلبه؛ فيروح الشاعر المتفنِّن ينظم هذه الصور في سلك أفكاره، والكاتب المجيد يعدِّد في ذلك معانيه، والمصوِّر المتقن يُعبِّر عنها بقدرته، والرسام المبتكر يبسِّط في سبيلها ألوانه، والموسيقيُّ يجري ذلك على نغمه.. فكلٌّ يأخذ عما في القلب؛ أما القلب فهو هو؛ لا تنضب معانيه ولا تغيض؛ فإنه مهما أخذ عنه من أخذ، وصوَّر عنه من صوَّر؛ فلا يكون نصيب أكبرهم إلا بعض ما انقدح في ذاك القلب؛ نقطة يرتشفها، ويبقى القلب كسطح المحيط ممتلئًا حد اليابسة، ممتدًّا لا يحيط بآخره أبصر بصير. وهل أسرار الوجود وقد انعكست على مرآة القلب إلا شجرة المعارف الإنسانية بما تحمله من فنون وآداب؟! أصلها ثابت وفرعها في السماء، يبدو منها الفرع الباسق، وأمثال ذاك الفرع في الأرض متشعبة راسخة تقيم هذا الأصل وتثبته! وكذلك سائر المعارف.. ما هي إلا نقط في قلب مبدعيها، أما أصولها فهي قارة في القلب؛ راسخة فيه.

أما بعد..

فإن الرسائل فنٌّ قديم قِدَم مبدعيها، وأنواع هذا الفن، وما يميِّزه، وطرقه التعبيرية، والمبرِّزين فيه… إلخ، كل ذلك مبسوط مطوَّل في كتب تاريخ الأدب. ثم إنه كُتب لهذا الفن الذيوع في العصر الحديث في حقبة قريبة من زمننا، وأعان على ذلك بعض الحوادث المجتمعية والسياسية الكبرى، إلى جانب سرعة البريد بعد ثورة البخار. حتى إننا لنجد في ذلك كتبًا ضُمِّنتْ رسائل بحروفها لبعض كبار الأدباء؛ كتلك التي كانت بين جبران ومي، وقد جُمع بعض من رسائل جبران إليها في كتاب «الشعلة الزرقاء»، وكذلك الرسائل التي كانت بين غسان كنفاني وغادة السمان… أما الآداب العالمية؛ فهذا الفن من أكثر ما تلتمسه فيها؛ تجد أديبًا كـ «فرانتس كافكا» يكتب رسائله إلى «ميلينا» ناقلًا لها مشاعره التي تجري على رهف من الشعور رقيق، وكذلك رسائله إلى «فيليس باور»، ورسائل البرتغالي «فرناندو بيسوا» إلى حبيبته «أوفيليا كايروز»، ورسائل «حنة آرندت ومارتن هيدغر». و«أنطنيو غرامشي» تجده يكتب من سجنه لأمه يطمئنها ويبثها بعض الذي يلاقي، كما تجد رسائل «تشيخوف» لعائلته… وليس أشهر من رسائل فنسنت فان جوخ إلى أخيه ثيو، ورسائل دوستويفسكي التي أتت في سفرين عظيمين.

ثم دار الزمان دورته، وكان التطور في مجال اتصال فُتحت فيه أبعاد الزمان والمكان على بعضها بعضًا؛ وصار الأمر يقع أينما يقع من البسيطة؛ فما تكون غير دقائق حتى يعلمه الناس كافة؛ وغدت السرعة داخلة في كل شيء!؛ فما نُحَصِّل المعارف والمعلومات بسرعة؛ إلا لنفقدها كذلك بسرعة، نعرف الناس سريعًا لننساهم أسرع، حتى دخل ذلك طعام الإنسان وشرابه، فأصبح يوجد ما يدعى بالوجبات السريعة والمأكولات السريعة، وكان لزامًا مع كل ذلك تعطُّل فن الرسائل الذي تعاهده الناس لتعطُّل مقوماته؛ وفسد الذوق العام واختل جملة، وخُسف بإنسانية الإنسان خسفًا لا قيام معه! وكان للتقدم والتطور ضريبة، وصار الجمال والفن ورهافة الشعور ورقة الطبع… كل ذلك صار من الإنسان بمبعدة، فرأيت أن أبتعث بعضًا من هذا الفن؛ وجعلت إيقاظه بطريقة تجري على إحياء الجمال في النفس، واستشعاره وتذوقه أينما كان في الوجود؛ ذاك إلى جانب الإنباه عن الجمال اللغوي للعربية، وإقامة شيء منها في حياتنا مكان العامية الدخيلة، والكشف عما تحمله الفصحى من مقومات ترتفع بالنفس حتى تجعلها تخفق بين السماء والأرض؛ فما تخالط معانيها العالية النفس إلا وطفقت بها تحلّق بين السماكين! فكان أن نظرت في فن الرسائل، وما يحمله هذا الفن من رقة ووجد وجمال! وكتبتُ -أول ما كتبت- عشر رسائل على طريقة الأدباء في المكاتبة، ثم عرضتها على من أرتضي ذوقه ولا أعدم رأيه، فوجدَت استحسانًا، ولاقَت قبولًا؛ فأكملتها عددًا، وزدتها الرسالة تلو الرسالة، وأسميتها رسائل «ع»؛ نسبة إلى تلك التي كتبتُ بها إليها وقد تآلفت الأقدار بيننا، فانظر في تلك الرسائل وأنت تنظر في كلام تناسمت فيه روحان، بعبارة فيها رقة تهفو من رقتها، وقوة تنفذ من روحها، ونغم يتردد في صوتها… والسلام عليكِ يا روحها العالية أينما تكونين!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى