حاضر يستحضر الماضي
سعيد مضية | فلسطين
لكى يحافظ الكاتب على اتزانه العقلى حين يغيب الحوار ويعلو صوت القوة والزجر، تصبح العودة إلى الماضى طريقا للبحث عن الأمل.
وتنشط كتابة المذكرات فى فترات الإحباط العام. وتلح على الشعوب نزعة اجترار ذكرياتها كلما أعياها واقعها عن العيش فى ظل العدل والحرية.
والتاريخ هو المرجل الذى يتم فى أتونه تراكم القوة الدافعة لتغيير المستقبل نحو الأفضل. والكتابة والقراءة طريقان للتغيير.
د.محمد نور فرحات – فقيه دستوري مصري
دشن عدوان حزيران مرحلة جديدة للتطهير العرقي بفلسطين وتحويلها الى دولة يهودية خالصة؛ تم اتفاق بين أحزاب الصهيونية على تهويد فلسطين، على أنقاض الوجود الفلسطيني، خاصة في مدينة القدس، وضعت في سبعينات القرن الماضي من اجلها خطة برنامجية ينتهي تنفيذها عام 2025.
بسبب اعتراف رابين بكيان فلسطيني تم اغتياله. واصل توجه رابين بين جنرالات الجيش وأجهزة الأمن في إسرائيل.
أجمل التوجهات رجل السلام الراحل في إسرائيل أوري أفنيري، مستعرضا وثيقة ” الحراس” عرضها تلفزيون إسرائيل، تضمنت أجوبة جميع رؤساء الشين بيت والموساد ممن بقوا على قيد الحياة، على سؤال بصدد حل الصراع القائم؛ “فدعوا جميعا بمستويات متفاوتة من التركيز إلى ‘حل الدولتين’، عبروا عن آرائهم ان لا سلام بدون حصول الفلسطينيين على دولتهم”.
بالطبع لم يصدروا في مواقفهم عن شعور إنساني يحترم حقوق الشعب الفلسطيني، إنما عن نظرة عنصرية استعلائية عبرت عن توجه إقصاء شعب فلسطين، والقطيعة معه.
ويمضي أفنيري الى القول، ” في ذلك الحين كان تمير باردو لم يزل على رأس عمله رئيسا للموساد؛ فلم يستطع التعبير عن رأيه. لكنه منذ بداية العام 2016 بات بمقدوره التعبير، وصرح بضرورة إقامة دولة للفلسطينيين، معبرا عن خشيته من ان إسرائيل تقترب من حرب أهلية”.
تواصل الاستيطان بوتائر متسارعة. تساءل إيلان بابيه، مؤلف كتاب “التطهير العرقي في فلسطين”، في الكتاب الجديد ،”أضخم سجن على وجه الأرض تاريخ المناطق المحتلة رصد معمق للاحتلال الإسرائيلي”: كيف سكت العالم عن الإجراءات الإسرائيلية؟ وأجاب:
“المحتلون عمدوا الى خطتين: العمل وفق خطة استراتيجية بذريعة الأمن تجنبت مناطق الكثافة السكانية في المدن والقرى، رغم أنها مؤقتة وستأخذ المستوطنات شرعيتها حال التوصل الى تسوية.
وطالما لا يتحقق السلام فستستمر عمليات الاستيطان. والاستراتيجية الثانية “تدخلت حركة غوش إيمونيم نادت بالاستيطان حسب الخارطة التوراتية وراحت تستوطن وسط الخليل ونابلس وبيت لحم، جرت عرقلة مشاريعها أول الأمر، لكن شمعون بيريز سهل عليها النشاط في أوائل السبعينات عندما كان وزيرا للدفاع”.
خلص بابيه الى انه “لم تعد مفردتا الاحتلال والعملية السلمية تعبران موضوعيا عن الواقع الراهن.
ينبغي الحديث عن ضرورة تفكيك نظام الأبارتهايد واستبداله بنظام ديمقراطي”.
حيال المسعى المحموم لاغتصاب الأرض تكشفت المفاوضات عن ملهاة وانفجر غضب الجماهير.
بعفوية وارتجال ردود الفعل التقليدية، أفلح قادة إسرائيل في استدراج فصائل مسلحة الى صدام مسلح انتهى بكارثة جديدة. من المؤسف ان حيل الاستدراج تكررت مرارا ولم يستوعب القدة الفلسطينيون الدرس بعد.
بدون يقظة ولا تفكير استراتيجي، غلبت العفوية والانفعالية والارتجال على أنشطة المقاومة الفلسطينية.
ليتهم امتلكوا حكمة الإيرانيين بعد غتيال فخري زاده، صدر عنهم “نحن أذكى من أن نستدرج إلى شباك “المصيدة الإسرائيلية- الأميركية!” استدرجت الفصائل الفلسطينية إلى صراع مسلح غير متكافئ وتصفوي ثم الى عمليات تفجيرية “انتقاما” لمقتل كادر من هذا الفصيل أو ذاك.
في هذه المواجهة جرى اغتيال القائد اليساري أبو علي مصطفى ، امين عام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ثم الشيخ أحمد ياسين والطبيب الرنتيسي من قادة حماس.
كانت الاغتيالات بمثابة رسالة الى كل الفصائل الوطنية، ان لا حصانة لأحد. أحدث اغتيال الرفيق أبو علي مصطفى وهو في مكتبه صدمة حادة، كان يجب ان توقظ الجميع على المضيع في الحياة السياسية الفلسطينية حينذا… ذهول مفاجأة محزنة. الجبهة الشعبية قررت مع تفجر المظاهرات الشعبية إثر النتيجة الفاشلة لمؤتمر كمب ديفيد، خريف 2000، حمل السلاح والدخول في مواجهة مسلحة مع الاحتلال.
عمل المحتلون منذ فشل اجتماع كمب ديفيد في أيلول 2000 على استدراج المقاومة الشعبية لهذه المواجهة المقررة نتائجها سلفا .
بعثت الجريمة ذكريات اليقظة الثورية، إحدى تقاليد كفاحية درج عليها الحزب الشيوي الأردني قبل عقود.
فقد اعتاد استباق الأحداث، يقرأها في الأفق المدلهم بخضوع الحكم لضغوط الامبريالية؛ فيتهيأ لها، بإجراءات امنية، لمواجهة حملات قمع بوليسي، تلوح في أفق الحياة السياسية المنذر بعاصفة. إنها اليقظة الثورية.
يعد الرفاق بيوتا حزبية، خاصة بيت مطبعة الحزب مع لوازم النشر؛ يستدعي كوادر للنشاط السري للانزواء خلف الشاشة ؛ يهيئ الرفاق والجماهير فكريا ونفسيا للهجمة الرجعية الوشيكة لدرء مقاومة شعبية، وإجراءات أخرى،
أما أن تقرر قيادة الحزب خوض الكفاح المسلح ويواصل الرفيق الأمين العام حضوره العلني في مكتب مكشوف فذلك ما يضاعف شعور الفجيعة.
قوى وفصائل الحركة الوطنية لا تخوض نضال التحدي والمواجهة الصدامية مع الاحتلال من اجل كنسه. لم تستوعب الفصائل حقيقة أن الاحتلال سمح لها بالنشاط شبه العلني وسكت عن استقدام عناصر من الخارج كي يضعها تحت مراقبته المجهرية المباشرة والدائمة.
لم تستوعب فصائل المقاومة مرامي العدو ولم تكوّن صورة موضوعية لطبيعة الصراع وتعقيداته؛ لم يرتق نشاطها لمستوى التنظيم والتوعية الكفيلين لاحتواء الاحتلال وجرفه في نهاية الأمر؛ تفعيل جدل التنظيم والوعي ضرورة ماسّة لخوض مواجهة طويلة الأمد تتطلب النفس الطويل والتفكير الاستراتيجي
بالنتيجة لم تتوفر إرادة التحدي الحازم للقوة المتسلطة تجسده حركة سياسية موحدة التوجه والمواقف، مقدامة وذات إصرار على المواصلة والاستمرارية في مختلف الظروف.
التنظيم جزء من التكتيك الذي ينسجم مع الاستراتيجيا ويخدمها. والتنظيم المستشرف أفق طرد الاحتلال وعرقلة إجراءاته لا بد أن يبقي نخبة الحزب في مأمن، يدمج علنية النضال بسرية التنظيم، وإلا فإن أجهزة الأمن المعادية تحتويه وتضعفه بمختلف السبل. وقد تخترقه في الصميم.
من السذاجة الاعتقاد أن أجهزة التجسس المعادية تعزف عن التلاعب بالأحزاب، خاصة المعارضة ولا توقف إرسال عملائها توجههم من بُعد لحرف أنشطة الحزب أو الأحزاب. يستعين الفصيل الثوري في صراع التحدي بجدلية التنظيم والوعي، تختبر خلالها جدية وجدوى برنامج المواجهة الصدامية مع الاحتلال.
لم تفطن القيادات الحزبية والفصائلية إلى أن عنف المطاردة الأمنية يقتضي تكثيف التربية السياسية كي تشد العزائم وتعزز الصمود، وتنشّط اليقظة.
تفتقر الأحزاب والفصائل الى كوادر المثقفين القادرين على العمل في أوساط الجماهير وتربيتها سياسيا وكسب ثقتها.
يكتشف المراقب الحريص افتقاد جدلية التنظيم والوعي في نشاط جميع الفصائل بدون استثناء.
وهذا مظهر للتصفوية. يثير الأسى نجاح المحتل وأجهزته الأمنية في إعطاء تطمين خادع للفصائل الوطنية الفلسطينية. التنظيم يضاعف القدرة الكفاحية للحزب الثوري ، كما اوصى لينين.
الفشل لا أب له، والكل يتنصل منه ويلقي مسئوليته على الفصائل الأخرى، أو على الحظ. لم تجر الفصاتئل مراجعة نقدية أين أخطأت؛ تركة “الفرقة الناجية” مقابل “الفرق الهالكة” عطلت حوار الآراء؛ شاع التعصب للرأي وأشيع في النشاط الوطني التحريض المتبادل والإقصاء وتفضيل الانفراد بالعمل؛ حتى النشاط العسكري لكل فصيل تنظيمه وتكتيكاته، ولكل فصيل تنظيمه االمهني والحرفي.
أشيع بالنتيجة مناخ محبِط من المناكفات والنعرات الحزبية والتحريض المتبادل، لتتفسخ الوحدة الوطنية.
لم تتوصل قيادات الفصائل بعد عقود من النشاط السياسي والانتكاسات المتلاحقة إلى إدراك ان أي فصيل عاجز لوحده عن الاضطلاع بمهمة قيادة النضال الشعبي المظفر وإنجاز التحرر الوطني.