تأملات في حديث نبوي: بين العشر الأواخر والعشر الأوائل
رضا راشد | الأزهر الشريف
كلما نظرت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “ما العمل في أيام أفضل منها في هذه العشر..” إلخ الحديث، تعجبت من أمرين:
من عظم فضل العمل هذه الأيام بما لا تحصيه عبارة أو تحويه فصاحة، ثم من غفلة الناس عن العمل الصالح في هذه الأيام، وكأنهم لم يسمعوا ما ورد فيها من فضل في أحاديث صحاح! ففضل العمل في هذه الأيام كان يستلزم من الناس أن ينفضوا عن أنفسهم غبار الكسل ويخلعوا رداء الغفلة متدرعين بالنشاط استباقا في مضمار العبادة؛ فإذا جاء الأمر على خلاف ذلك كان مثار تعجب .
هكذا كان الأمر أولا (تعجبا من الفضل ثم الغفلة) :
ثم تبينت فإذا الأمر الثانى (الغفلة عن هذه الأيام وفضلها ومن ثم الكسل فيها) ربما كان هو سبب الأول(فضل العمل فيها)،حيث يفضل العمل في أماكن الغفلات وأوقاتها العمل في غيرها ؛كالعبادة في أوقات الهرج والذكر في السوق .
ولهذه الغفلة أسباب لعلها هى التى جعلت من العمل في هذه الأيام أمرا شاقا يتطلب مجاهدة عظيمة بما جعل هناك مناسبة بين العمل في هذه الأيام والجهاد في سبيل الله.
وتتجلى هذه الأسباب من خلال مقارنة بين العشر الأواخر من رمضان والعشر الأوائل من ذي الحجة .
(•) أولا: عدم الاستعداد :
ففي العشر الأواخر من رمضان نرى نشاطا من الناس في العبادة سببه أنهم استعدوا لها استعدادين: استعدادا من قبل رمضان في رجب وشعبان- كما قال بعض السلف:”من زرع في رجب وسقى في شعبان حصد في رمضان” – وهذا الاستعداد إنما يكون من بعض الناس، وهم المشمرون عن سواعد الجد…، واستعدادا في رمضان طوال عشرين ليلة من عامة الناس.
وهذا الاستعداد وذلك التهيؤ هو ما جعل الناس ينشطون للعبادة في العشر الأواخر من رمضان بما نراه واقعا ملموسا في المساجد …ولا كذلك العشر الأوائل من ذي الحجة: فلا استعداد لها ولا تهيؤ مسبقا قبلها[وهذا من صميم الحكمة الإلهية؛ حيث الفاصل الزمنى بينها و بين رمضان قليل بما لا يدع مجالا لتهيؤ قبلها ولا فرصة لاستعداد وإلا كان الملل والسأم] ؛ومن هنا تكون الغفلة عنها وعن فضلها بما يجعل من الإقبال على العبادة فيها أمرا شاقا يتطلب مجاهدة للنفس شديدة.، والعبادة في وقت الغفلة لها أجر عظيم؛ ومن هنا كان فضل قيام الليل والذكر في الأسواق، حيث يصادف الأول غفلة في الزمان والثاني غفلة في المكان .
(•)ثانيا :انعدام البيئة المحفزة:
ففي حين يشجع الاعتكاف الناس في العشر الأواخر على الاجتهاد في العبادة بما جعله بيئة صالحة للعبادة تنعدم هذه البيئة في العشر الأوائل من ذي الحجة، حيث التعلق بالدنيا والانشغال بها بما يجعل التفلت من إسارها والانعتاق من أغلالها جهادا يكابد فيه المرء ما يكابد .
(•) ثالثا :قلة الحوافز وكثرة الموانع:
ففي العشر الأواخر من رمضان: تفتح.أبواب الجنان، فيجد الناس من أنفسهم من النشاط للعبادة والإقبال عليها ما لا يجدونه في غير رمضان؛ وتغلق أبواب النيران، فيعزف الناس عن المعاصي في رمضان عزوفا لا يكون مثله في غير رمضان؛ وتصفد الشياطين، فيكفى المرء عدوه؛ وتزول الحجب بين الناس والطاعة، وتضعف خطاطيف المعصية وجواذبها ولا كذلك الأيام العشر :فكل شيء على حاله؛ والشيطان على دأبه في الصد عن سبيل الله.
فأن يجاهد المرء نفسه إقبالا على الطاعة وعزوفا عن المعصية وانتصارا على شيطانه الدائب في الصد عن سبيل الله، فهذا جهاد عظيم يسنطيع به صاحبه أن يزاحم ويسابق في ميدان المجاهدين .
(•) رابعا: العموم والخصوص :
ففي العشر الأواخر يكون الصيام مفروضا فيصوم الناس كلهم إلا صاحب عذر، ومن أفطر لغير عذر استتر .وبهذا (الفرضية والعموم ) تنجو النفوس من وساوس الإفطار ونزغاته، ولا كذلك العشر الأوائل؛ حيث الصيام مستحب ؛مما يسهل على النفوس تركه دونما استشعار لذنب؛ وبقدر ما تكون سهولة الترك تكون صعوبة الفعل.
فالتزام المرء بالصيام المستحب وكأنه مفروض يتطلب جهادا عظيما .
(°)فهل عرفتم الآن سر المفاضلة بين العمل في هذه الأيام والجهاد؟
إنه المجاهدة العظيمة تغلبا على الغفلة وغيرهامن الحجب التى تحول بين الناس والعبادة؛وكأنه لذلك (أي لما في الأعمال في هذه الأيام من معنى الجهاد شرع التكبير كما شرع في الجهاد ولا سيما عند الانتصار على العدو …والله أعلم )
(°) وهل أدركتم الآن سبب غفلة الناس وتكاسلهم عن الاجتهاد في العبادة في هذه الأيام رغم فضلها؟
إنه الموانع الكثيرة التى سبق ذكرها حائلة بينهم وبين التعبد لله .
نسأل الله العلي القدير أن يبصرنا بأسرار ديننا وأن يرزقنا من العمل في هذه الأيام ما يرضيه عنا رضا لا يعقبه سخط حتى نلقاه؛إنه ولى ذلك والقادر عليه وهو على كل شيء قدير.