حين تقف تونس أمام مخاض عسير وتفاؤل حذر
محمد المحسن | تونس
«جئت إلى هذا العالم كي أحتجّ».. -مكسيم غوركي-
قد لا يحيد القول عن جادة الصواب إذا قلت إنّ تونس – اليوم – في حاجة إلى تكاتف كافة مكونات المجتمع المدني، وكل القوى السياسية لتثبيت أركان الجمهورية الثانية، ومن ثم انجاز مشروع مجتمعي طموح ينأى بالبلاد والعباد عن مستنقعات الفتن، الإثارة المسمومة والانفلات الذي يتناقض مع قيم العدالة والحرية، وهذا يستدعي منا جميعا هبّة وعي تكون سدا منيعا أمام كافة المخاطر التي تهدّدنا وتسعى إلى تحويلنا إلى نماذج مرعبة ومخيفة، لما جرى ويجري في العراق وسوريا وليبيا..واليمن..
أقول تونس اليوم دولة وسلطة ومؤسسات، أمام امتحان جديد على درب الديمقراطية، وما على الفاعلين في المشهد السياسي التونسي إلا القطع مع – النهم المصلحي والانتفاعي- المسيطر عليهم، ومن ثم تخطي الطور الانتقالي الجاري بنجاح، ووضع المساطر المناسبة لبنية مجتمعهم السياسية والحزبية، من دون إغفال تطلعات مجتمعهم والشروط العامة التي تؤطرها، تطبيقا لشروط والتزامات وقيم الممارسة الديمقراطية السليمة والسلوك الحضاري القويم.
لقد أنجز الجانب النظري من امتحان الديمقراطية بكتابة دستور توافقي ضامن للحقوق والحريات في بعدها الشمولي،ونحن اليوم – كما أسلفت – على أبواب مرحلة جديدة أشد عسرا وأكثر صعوبة، وهي مرحلة تنزيل النظري إلى أرض الواقع وتطبيقه بشكل موضوعي وخلاّق..
قلت هذا وأنا أتابع المشهد الاحتجاجي الذي تعيشه بلادنا، في ظل أوضاع اقتصادية مترجرجة وسياق سياسي صعب وهشّ، فارتفاع نسق الاضرابات التي مسّت حتى الآن معظم القطاعات الحساسة وذات الثقل في المشهد الاجتماعي،أصبح له تأثير مباشر على الحالة الاقتصادية والاجتماعية بشكل بارز.وهو ما دفع رئيس الحكومة الأسبق الحبيب الصيد إلى القول إن «الحكومة لا تملك عصا سحرية، لحل المشاكل بين ليلة وضحاها».لكن قوله – زمنئذ – لم يقلّص من نسق الاحتجاج في العديد من المناطق،أو من حجم المطالب الكثيرة والمتنوعة، على الرغم من محاولات الحكومات المتعاقبة لإمتصاص التوتر الاجتماعي والاستجابة لبعض المطالب.
ما أريد أن أقول؟
أردت القول: إن ارتفاع نسق الاضرابات والاعتصامات،خصوصاً في القطاعات الاستراتيجية، سيُضعف الاقتصاد ويربك عملية إنتاج الثورة.
وقد شعر الكثير من التونسيين بالخطر عندما كشفت المصادر الرسمية عن أن نسبة النمو قد انخفضت خلال السنوات القليلة الماضية، إلى حدود 1.7 في المئة.
ويعود ذلك إلى موجة الاضرابات من جهة، وإلى انهيار قيمة العمل بشكل غير مسبوق، من جهة ثانية.
وعندما يصاب اقتصاد ما بهاتين العلتين لن تقوم له قائمة، خصوصاً أن كبريات المؤسسات المالية الدولية، وفي مقدمتها البنك الدولي، قد رفعت من سقف ضغوطها على تونس من أجل دفعها نحو إنجاز “الإصلاحات” المطلوبة لأنه في حال عدم إنجاز ذلك، فإن المساعدات المالية قد تتوقف، ونية الاستثمار في تونس قد تزداد انكماشاً.
واليوم..
على الرغم من حزمة العوامل الداعمة والظروف الاستثنائية التي أتيحت للرئيس “سي قيس” لاتخاذ تلك الإجراءات التاريخية، فإنَّ ثمة تحديات تواجه المسار، تتمثل في عدم وجود إجماع أو توافق بين الطبقة السياسية التونسية على كيفية السير إلى الأمام، فهناك تجاذبات كبيرة بينهم بسبب حدة خطاب النخبة السياسية، وهناك منسوب عالٍ من عدم الثقة وتبادل الاتهامات، متزامنة مع احتقان في الشارع.
ومن هنا، فإن الأزمة الحالية صناعة محلّية، وأبطالها ساسة منشغلون بخلافاتهم، وربما برعاية إقليمية، وآخر يتمثل في الخلاف القائم بين المؤسسات الدستورية، والتي يوظفها أعداء الثورة التي ما زالت تبحث عن طريقها وتطهر نفسها بأن الديمقراطية لا تصلح لنا، في محاولة العودة إلى الوراء، إلا أن رهان الرجل ما زال يرتكز على الشارع التونسي وضميره الحيّ لإنقاذ البلاد والاصطفاف حول قراراته.
وإذن؟
إن الرهان على المسألة الديمقراطية إذا،مرتبط أساسا بتوفير أدواتها، من وعي شعبي وقوى تقدمية منظمة كطليعة لعملية التغيير الجذري الشامل وخارطة طريق يحميها دستور يجسد المتطلبات الشعبية، ويسد الثغرات والفراغات التي يمكن الالتفاف حولها، كما يسعى الرئيس إلى الذهاب بها إلى تغيرات جذرية في سبيل تحقيق أهداف الثورة (شغل وحرية وكرامة وطنية). إن تونس الآن أمام مخاض عسير وتفاؤل حذر.
على سبيل الخاتمة:
«جئت إلى هذا العالم كي أحتجّ»..هكذا حدث مكسيم غوركي ذات يوم، ولكن تونس- اليوم- تحتاج منا جميعا في المرحلة المقبلة، إلى الاستقرار كي تهضم مكاسبها الديمقراطية، التي أنجزتها في زمن متخم بالمصاعب والمتاعب.. أنجزتها بخفقات القلوب ونور الأعين.. وبدماء شهداء ما هادنوا الدهرَ يوما.
وما علينا والحال هذه، إلا تغليب العقل على النقل كي لا يتغلّب في المقابل الفتق على الرتق.. ونسقط – لا قدّر الله- بدون وعي منا- في هوّة الفوضى والخراب.. حيث لا شيء غير الندم وصرير الأسنان.. وأرجو..أن تصــل رسالتي إلى عنوانها الصحيح.
تنويه:
قد لا يمهلني العمر كي أرى بلدي يرفل في ثوب العزة، الحرية، الكرامة والديموقراطية.. ومن هنا فوصيتي لأبناء شعبي سيما الأحرار منهم: غلبوا العقلَ على النقل..حتى لا يتغلّب الفتق على الرتق.