حتى إشعار آخر
د. أسماء السيد سامح | مصر
طائر صاخب لا يهدأ يحلٌِّق في رأسي، هو يحب الصخب وأنا أعشق الهدوء، أشعر أنَّ رأسي ملتهب. يقولون أن هناك نوراً في نهاية الطريق ولكنه يحاصرني، أصابني الدوار لا أقوي علي السير وجسدي مثقلٌ بالندبات. تباً لتلك الأرض التي لا تقوي علي حملي، وإرادتي التي لم تقاسمني الطريق كما كانت تفعل. أنعطف يميناً ويساراً وهو لا يفارقني كظلي. ضلت نفسي طريقها وانزلقت إلي العدم حيث كل البيوت عنكبوتية من فرط وهنها، وكل الطرق معابر تفضي إلي المجهول، وكل الألوان رمادية.
لا أشتهي الطعام يبدو أني أُصبت في الجائحة، لا قدرة لي علي التذوق والورود فقدت عبيرها. الصمت يطبق علي فمي يعوقه عن الحركة، جفت مقلتيا لم تعد تمطر كسابق عهدها. الطقس هنا موحش، وأنا أفتش عن نسيم بارد.
أرأيت حياً ميتاً يفتش بين الأنقاض عن ابتسامة حقيقية؟ يمر العابرون علي جانبي الطريق في عجل دون توقف، يُلوح القلب لهم ولكن دون جدوى. ماذا عساي أن أفعل ؟ ثقب أسود يبتلع كل من يقترب إليه ولا يبالي العابرون. أهي بداية النهاية أم نهاية البداية؟ أود لو أنَّ عقارب الساعة تمشي على استحياء حتي لا ينفرط عقد العمر وأنا لا أزال عالقاً في ذلك الثقب الأسود. عادة في تلك اللحظات يكون الناي سلواي.
النغمات لا تتراقص كما أعتدْتُ أن أراها، لا ذنب للموسيقي فأنا بالكاد أسمع، ولا ذنب للناي فالقلب يحترق والنغمات تزيده احتراقاً. تتعاقب الفصول لا أشعر بالربيع الذي يتحدثون عنه، لا ذنب للربيع فهناك قصور حاد في الرؤية لا أميز الألوان.
أراهم يحلمون فأفتش عن الحلم وأتساءل لِمَ أَفلتَ يدي فقد كان رفيقي في الماضي، لا ذنب له الآن فأنا لا أستطيع النوم. ربما هناك علي هذه الأرض في مكان ما من يشبهني ولكن في ثقب أسود آخر، لا أراهم ولكن أشعر بهم، يتحدثون نفس اللغة ويفهمون الإشارات جيداً، ويشعرون بنفس الغصة، يود كل منهم لو ينصت إليه أحدهم وإن لم يفهم لغته ولكن دون جدوى، لا أحد يقترب من ذلك الثقب الأسود، لا تلقِ الرجاء في دروب رحيلهم، دعهم وشأنهم.
العالقون بداخله يفتشون عن طوق نجاة، يناجون الله كل ليلة ويتوقون إلي رؤية الفجر ولكن طالت تراويحهم وغلبهم النوم. كم هي قاسية قلوب البشر، فالكل يحدق إلي تلك النجوم المضيئة وسط تلك الثقوب السوداء وربما يتطلعون إلي ما هو أبعد من ذلك، القمر الذي يأسر القلوب دوماً وليتهم يعلمون أنه مظلم وأن ذلك الضي ما هو إلا انعكاس، ولكن أكثر الناس لا يفقهون. ذلك الثقب الذي يبتلع كل من يقترب إليه هو كالبئر اليوسفي والحزن اليعقوبي، ولكن بقلب تائه يود لو كان يملك نصف إيمانهما ويربط الله عليه حتي يلتقي بقافلته، ولكنه لا يقوي على الانتظار لا طاقة له، يحمل بداخله أثقالاً أطاحت به بعيداً من فرط ثقلها، فبات فريسة لهذا الظلام.
كيف يمكن لهذا الأفول أن ينجب نجماً ! ربما في عالم آخر يولد من رحم الظلام غد. ويبقي الثقب الأسود مكتظا بأصحابه ممن كانوا يتوقون إلي رؤية النهار ولو لمرة واحدة حتي إشعار آخر.