قراءة في ديوان عز الدين جوهري ” تقريبا على ميقات الجمر “
بقلم: زياد جيوسي | عمّان – الأردن
تقريباً على ميقات الجمر
(الجوع يمد مخالبه في بطني، فألتهم أوراقي وأمشي..)، بهذه الكلمات للشاعر عدنان الصايغ يبدأ شاعرنا عز الدين جوهري ديوانه “تقريبا على ميقات الجمر”، ليجول بنا لتحقيق الفكرة التي بدأ فيها الديوان عبر تسع عشرة لوحة جميلة، وفي خلال تجوالنا في الديوان نلمس كم أن روح الشباب تلعب دورها في الأشعار، فالشاعر من مواليد 1978 وهو من الجيل الذي ولد وعاش في ظل أزمة المجتمع والوطن على امتداده، مرحلة الهزائم والانكسارات وتمزق الحلم الذي عشناه نحن الجيل الأكبر في العمر في ثناياه، فكان جيل الشباب ممزقاً ويشعر بالإحباط مما يرى ويلمس، فيقول: (خذ الوقت بعيداً، شعلة الحنين انطفأت، ما عاد للمطر ضجيجه العارم)، وهو يعاني الوحدة ولكنه يحلم بالغد رغم الوحدة: (وحيداً تأكلني الغابة، ويلتهمني العشب، وحيداً أسرق ناري، لأشعل الحرائق، أسرق العتمة)، كذلك نلمس بوضوح أثر الترحال على روحه، فهو متنقل بين بيروت ودمشق والجزائر: (سهواً أبحث عن مدني التائهة تحت المدى) ولعل دراسته للقانون لعبت في روح شعره مسائل أخرى فنراه يقول: (فقط أبواب موصدة وأخرى للنباح)، فنجد السؤال والبحث عن الإجابة يكاد لا يبتعد عن نصوصه.
إن التجوال في ثنايا نصوص الشاعر يحملنا للشعور بكم العاطفة المتأججة في داخله، وحجم الألم الذي يعتمل في نفسه، فحين نسمعه يهتف: (وداعاً لنبضٍ لا يحرض الدم على اللهيب) نشعر بذلك، لكنه لا يفقد الأمل أبداً رغم كل الألم: (إنني الآن أبتسم للزوايا، التي تكدست في العروق)، بحيث أنه صار يرى البلور: (إكليلاً من الياقوت وحنطة للجوعى الماضين نحو الحروب)، ويرى من خلال الحلم في المستقبل (الغيمة الراتعة قمح الفؤاد)، ويؤمن إيماناً كبيراً بأن السواعد الشابة يقع على عاتقها التغيير وتحقيق الحلم: (حين تنـزل الأمطار من ساعديك، فيورق الحجر).
الأرض بما تعنيه من مفاهيم لدى الإنسان لا تفارق شِعر عز الدين جوهري، فنجدها تتكرر كثيراً في شِعره، ويمنحها الروح حين يقول: (ها هي الأرض تزهو بك ويخضر الحجر)، ويؤكد دوماً أن الأرض تحتاج إلى محبيها وعشاقها، فهي الأم وهي المرأة.. هي الوطن، وبدون البذل لها لا يمكن أن تخضوضر: (هكذا يخضر الحجر، من ضلوعك في ضلوعي)، فالحلم لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال العطاء، هذا العطاء الذي يصل إلى مرحلة تقديم الدم رخيصاً من أجل الفكرة/ الوطن: (من فرط دمك في دمي أنا نزلت)، فنجد الشاعر يرى من خلال التقديم والتضحية تحقيقاً للفكرة: (أحمل في يدي برزخاً، وأرضاً تميد وأشعاراً، بلون الريحان، وبساتينَ من فتات الريح، وسماءً زرقاء بلون البحر).
وهكذا نجد الشاعر يجول بنا في رحاب ديوانه، بلغة جزلة، لوحات جميلة، تحملنا لنحلق معها، فهو لا يكتفي فقط ببث المشاعر، ولا يقبل أن يزين الكلمات فقط، بل يقودنا عبر رحلة طويلة، عبر الأرض ورحلة البحث والأزمات والحلم، كل منها تداخلت في قصائده بجمال خاص، وفي كل شطرات شِعره رسم لنا لوحات من الآهات، من الحلم، فتراوح فيما يبوح به من الروح للروح، بين المشاعر الإنسانية، فكانت الأرض والوطن، وكانت المرأة وكان الحب؛ فهو يخاطب المرأة بقوله: (امتطي جسوراً بللها الحب، تنفسي آخر الماء)، فالحب عنده غير معزول عن الأزمة العامة، والمرأة عنده رفيقة المسيرة ورفيقة الدرب والمعاناة، فهي ابنة البلد وابنة الجبال، وليست مجرد جسد امرأة، فيصورها بلوحة رائعة، وكأنها فرس تصهل في الجبال: (توجعني بروقك اللاهثات بلمعانها، ورائحة كرزك جديلة، امرأةٍ تأتي من بني الجبال، تصهل بكل ما فيها من نقاوة).
في كثير من المواقع في شِعر الشاعر، لم يخرج عن فكرة الأرض والواقع، فلا نرى في شِعره المرأة المرسومة من الخيال، لكننا نجدها ابنة الواقع والمجتمع، وبالتالي نجد أنه يصف الذين تخلوا عن أرضهم بأنهم: (رحلوا كشتاء أخير)، وأنهم: (لم تعجبهم رائحة التبن تغزله صبايا الحقول)، فرحلوا من أرضهم إلى الغربة: (رحلوا إلى مدن نائيات)، فأرواحهم اغتربت عن واقعها، عن تراب الأرض، عن المرأة الملتزمة بترابها، فتخلوا عن (نسوة المروج يعجن الكسرة، يعبثن بالفجر)، ومع كل ذلك فهو لا يتخلى عن الحلم بالفجر القادم: (أرقب قطار العمرِ، القادم من وراء حجاب، نسقي أزهارنا العطشى، ثم ننام كعادتنا، إلى أن يأتي الصباح).
الأمكنة لا تفارق الشاعر، فهي تسكنه، فمن وطنه ومن الجبال، يتنقل بين الأمكنة، يذكر بيروت التي تسكن منه القلب، فبيروت ككل الأمكنة التي تسكن الروح، تصبح أجمل أنثى لا يمكن إلا أن يذكرها ويحلم بها: (وها أنت- يا بيروت- بكل خرابك، تكتسين الأخضر، من فصول هوانا الصعب، وتكتسين الأزرق الأزرق، من بحرنا، المفتوح على صهيل أنفاسك المعتمة).
الألم الذي يسود روح الشاعر وينثره على صفحات ديوانه، لا يتوقف أبداً، فالروح المرتبطة بالأرض والوطن والحب، تبقى تعاني الألم الذي لا بد أن ينتهي حين تحقق الحلم فتعود الحياة: (كما الأزهار ربيعاً)، فالألم في ديوان الشاعر ليس حالة ذاتية، ليست معاناة الأنا المجردة، بل هو ألم الإحساس العام، المعاناة للجميع، لذا كانت روح الشاعر تجول بين الأمكنة، والوطن، والغربة، والمرأة، والحب، وفي كل الحالات كان يبتعد عن الفردية، يبتعد عن الذات، فهو لا يرى أن بإمكان روحه أن تحلق وحيدة بدون أهل ووطن وأرض وحب.
وختاماً.. أرى في ديوان الشاعر تجربة روحية كبيرة، تؤكد هوية خاصة بالشاعر، فهو يرحل في هذه المسافة، يؤكد على الكلمات والمعاني التي كانت كفراشات محلقة، تشكل مشهده الشِّعري، مستخدماً تكثيف اللغة والاستعارة بلوحات جميلة، تعلمنا ماذا تعني الأرض، وماذا يعني الحب، وماذا يعني أن نكون نحن.