غبار المكتبة
مصطفى العارف | العراق
أراد إعداد تقريرا صحفيا عن واقع المكتبات العراقية, وعليه أن يجمع عيناته من أطياف المجتمع العراقي, قرر أن يزور المكتبة المركزية, وجدها بناية قديمة مهملة من سنوات طويلة, أخذ كاميرته, وهو يصور المكان.
فجأة. انتبه إلى قطعة صغيرة متهالكة وغير, واضحة المعالم مكتوب عليها المكتبة المركزية أسست عام 1960, التقى بامرأة كبيرة السن تبدو أنها مديرة المكتبة, ترتدي ملابس طويلة تغطي جسمها بالكامل, تلبس نظارة بيضاء كبيرة الحجم، تغطي نصف وجهها تجلس على مكتب أنيق قديم عليه مجموعة من السجلات، وفي الجهة الأخرى مجموعة من الكتب يبدو عليها تقرا بنهم ,أمامها على المكتب قصاصات ورقية قديمة تسجل عليها تاريخ استعارة الكتب.
– صباح الخير اسمي ثائر: صحفي من جريدة الزمان.
-: صباح الخير. هل يمكنك مساعدتي؟ بالطبع عزيزي تفضل اجلس.
-: لم أر قارئا داخل المكتبة؟
-: اعلم أستاذ ثائر: إني أمينة المكتبة لأكثر من ثلاثين عاما ,اعرف جميع الكتب ,ولي معهن ذكريات جميلة.
– :كانت مكتبتنا عامرة منذ تأسيسها في الستينيات، يتردد عليها القراء من المثقفين, والشعراء, والكتاب, وطلبة المدارس في العطل الصيفية، على مدار الأسبوع الكل يطالع، ويقرا كل الإصدارات الجديدة, تعرضت المكتبة إلى السرقة, والنهب من قبل بعض ضعفاء النفوس, لكننا وقفنا بوجه السراق, معي أهالي المنطقة، والموظفين ,والعمال , منعناهم من سرقة الكتب.
وحافظنا عليها إلى يومنا هذا-: ثم ضحكت.
-: قاطعها ثائر: لماذا تضحكين ؟ لان السارق سابقا يسرق الكتب ليبيعها ,أما السارق اليوم يسرق المليارات,و لا يحتاج إلى الكتب.
– : قالت دعني أكمل لك أما اليوم لم يدخل المكتبة منذ عام 2003 أي قارئ. أو مثقف قالتها بحزن عميق.
– : برأيك ما السبب في عزوف الشباب عن القراءة ؟
-:عدة أسباب منها أبعاد الشباب عن المطالعة، والاهتمام بشبكة التواصل الاجتماعي, وتوجه الشباب إلى المقاهي لشرب المخدرات ترك المدارس, والجامعات لعدم اهتمام الإباء بمتابعة أولادهم، انشغال الأمهات بالحديث عن الموضة, وشراء الملابس، كل هذه الأسباب برأي أدت إلى انهيار الثقافة ,والتعليم
– : في السابق كيف كانت المطالعة هنا؟
– : كانت مزدهرة لأنها المتنفس الوحيد لكل طبقات المجتمع عندنا كتب للأطفال, والكبار,ولكل الفئات العمرية, كان يتوافد علينا القراء من كل مكان، كانت البيئة المثقفة تشجعهم على الاطلاع , والتنافس بين الأصدقاء ,من يطالع الكتاب أولا.
– كانت الست حوراء متعاونة جدا معي ,وهي تملك ثقافة عالية من خلال طريقة كلامها معي.
– خرج رجل كبير شعره ابيض , حليق اللحية والشارب، من داخل المكتبة عليه غبار كثيف بحيث لا يستطيع فتح عينيه، رموشه بيضاء من الغبار أطلق عدة عطسات, ومد يده لي قائلا :- صباح الخير أستاذ: – رشيد علي أقدم موظف على ملاك الإدارة المحلية منذ تأسيس المكتبة.
– طلبت منه الست حوراء الانضمام إلينا, قال بكل سرور, هل جئت للمطالعة, أراك تحمل حقيبة حديثة فيها لابتوب, أم لاستعارة الكتب.
– : لا توجد عندنا استعارة خارجية, وابتسم مسرورا.
– : سألته عن واقع المطالعة الحالية.
-: قال أنا خريج كلية الآداب قسم المكتبات أعرف جميع الكتب عشت زمنا طويلا معهن, واستطيع إرشاداك إلى أي كتاب تريد , مكانه مطبعته محتواه سنة طبعه.
-: بصراحة كان الشعب العراقي مثقفا, يلتقي هنا من يريد أن يتطور, ويبدع, ويكتب, مع كل الأسف في الوقت الحالي انصرف الشعب إلى التجارة, والأعمال الحرة، وماتت المطالعة قالها بألم, التقطت له صورة فوتوغرافية جميلة.
– طلب مني التجوال داخل أروقة المكتبة للتعرف على الكتب.
– : دخلت المكتبة, وكانت تحتوي على أمات الكتب القديمة من معجمات, وتفاسير, ودواوين شعرية نادرة الوجود.
– كانت ملئيه بالرفوف الخشبية القديمة على كل رف العناوين الرئيسة لكل تخصص ,هناك رف لمجلات الأطفال كمجلتي,والمزمار، وآخر للكتب الفلسفية، وعلى الجانب الأيمن تغطي الكتب الدينية معظم الرفوف, ورأيت امرأة شابة تجلس على كرسي المطالعة وتقرأ تفسير الزمخشري, ترتدي حجابا طويلا, وعباءة تستر جسمها اعتقدت بادئ الأمر أنها من رواد المكتبة ,وتبين أنها من الموظفات الجدد.
بادرت بالسلام ردت بانزعاج يمكن لأنني قطعت خلوتها مع التفسير, طلبت منها أجراء مقابلة شخصية عن المثقف,والمكتبة رفضت بشدة, ورمقتني بنظرة ازدراء, وقامت مسرعة إلى نهاية المكتبة.
سار معي الأستاذ رشيد إلى الجهة اليسرى من المكتبة,وجدتها تحتوي على دواوين الشعراء, وروايات, وقصص عالمية ,وعربية ,وعراقية متنوعة, وأنا أطالع بعض العناوين القديمة ذهب أستاذ رشيد لإجراء مكالمة هاتفية شديدة النبرة من زوجته المتسلطة طلب مني الأذن، تابعت مسيري التقيت بفتاة جميلة تلبس نظارة طبية زادتها جمالا وأناقة, تقرا في ديوان نزار قباني ,والابتسامة تعلو محياها، سلمت عليها, تعجبت من الموقف, تجلس على كرسي خشبي قديم عليه قطعة من الجلد الأسود, شعرها طويل مائل للبني, ترتدي تنوره حمراء قصيرة ,وقميص ابيض شفاف.
– : هل أنت طالبة. – كلا وابتسمت. أنا موظفة جديدة أعمل بأجر يومي، وأحمل شهادة الدكتوراه, قسم المكتبات.
-: شعرت بسعادة، وأنت تقرئين شعر نزار قباني.
– : أنا اقرأ منذ طفولتي كان والدي معلما من الجيل الأول، وعلمنا القراءة، والكتابة منذ الصغر, زرع فينا حب المطالعة, اطلعت على اغلب دواوين الشعر, والروايات والقصص، كان يعشق روايات وقصص دوستويفسكي، وكافكا، وتيشخوف وتولستوي وغيرهم.
-:أنت تحملين أعلى شهادة جامعية، وتعملين باجر يومي.
– عفوا أستاذ: أنا دكتورة هناء – ما اسمك : ثائر.
حصلت على شهادة الدكتوراه عام 2016, قدمت طلبا للتعيين في الجامعات العراقية عموما ,وكليات الآداب على وجه الخصوص، وما زلت إلى الآن أعاني من عدم التعيين, منذ سنوات اعمل باجر يومي عملي ألمجي صباحا إلى المكتبة أقرأ بعض الكتب ينتهي الدوام ارجع للبيت بنفس الروتين اليومي, حتى إنني نسيت ما تعلمته من دراستي, لأنني لم أمارس اختصاصي إلى الآن.
– ما هذا السجل الجميل على المنضدة الخشبية عليه ألوان زاهية.
– يحتوي السجل على مجموعتي القصصية القصيرة جدا (النسيان), ما زالت مخطوطة سوف إرسالها للطباعة
– جيد لديك مجموعة فأنت قاصة، نعم فازت مجموعتي الأولى بمصر, والثانية بدولة الإمارات, وهذه الثالثة قيد الإنجاز أريد مشاركتها هذا العام بجائزة البوكر.
– انضم إلينا الأستاذ رشيد, طلبت منها قراءة قصة من مجموعتها المخطوطة
اختارت هناء قصة قصيرة جدا, وقالت:
– (سعاد ملكة من ملكات العرب الشامخات. أحبت فقيرا لا يملك عملا, فتزوجا)
انتهت جولتي في المكتبة وشكرت الست حوراء، والأستاذ رشيد، والدكتورة هناء, وبقية الموظفين ,والعمال على تعاونهم.
– عدت إلى مقر الجريدة, وأكملت كتابة التقرير الصحفي, أهديت نسخة منه إلى المكتبة المركزية, فوجئت بأنها تحولت إلى دائرة حكوميةأخرى,وانطمست أثار المكتبة, والكتب ,والثقافة.