إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.. مشهد مهيب وحوار فريد (٢)
رضا راشد | الأزهر الشريف
الأسباب والعوامل
تعرضنا في مقال سابق للمشهد المهيب الذي تضمن ذلكم الحوار الفريد بين خليل الرحمن وابنه إسماعيل عليهما السلام، في أشق ما يمكن أن يدور حوله حوار بين أب وابنه في هذه السن الحرجة، وذكرنا أن الحوار انتهي إلى نجاح عظيم بما يصلح معه أن يعد النموذج الأعلى والامثل للحوار بين الآباء والأبناء (ابتداء وانتهاء)؛ فأب يشاور ابنه الشاب في أن يذبحه بيديه، فلا يكون من الابن إلا أن يمتثل خاضعا قائلا:{يا أبت افعل ما تؤمر} – لَأَمرٌ يعد من قبيل الخيال،ويخرج من نطاق الإنجاز إلى دائرة الإعجاز.
ولأن لكل شيء سببا، كان لا بد أن نبحث عن أسباب وعوامل هذا النجاح…فكان أن اهتديت إلى أن أسباب نجاح الحوار يمكن أن تتمثل في أشياء لعل منها ما يلي:
(١) الجزاء من جنس العمل
فلئن كان مما يثيررالدهشة أن خاطب إسماعيل أباه إبراهيم عليهما السلام قائلا: {يا أبت افعل ما تؤمر} فلقد قالها من قبل إبراهيم لأبيه الكافر كما جاء في سورة مريم {واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا° إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا°يا أبت إني قد جاءنى من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا°يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا° يا أبت إني أخاف أن يَمَسَّك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا}.
فتأمل عبارة {يا أبت} هنا كيف تتكرر على لسان خليل الرحمن عليه السلام أَعْبَدِ أهل الأرض قاطبة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، في مخاطبة كافر لا يكتفي بكفره بل يصد الناس عن التوحيد بدعوته لعبادة الأصنام والموالاة عليها، حتى إنه يعادي ابنه عليها ..تأملْها تجدْها أثقل على لسان قائلها من جبل أحد!! ولكنه بِرُّ الأبناء بالآباء الذي لا يجوز أن يزول لأي مسوغ كان ، ولو جاز أن يزول لكان هذا المقام أولاها بذلك .
وحتى تتمثل ثقلها تخيل أن ابنا ملتزما لله بطاعته وترك المعاصي قد ابتلي بأب يعاقر الخمر ويقترف الفواحش كيف سيخاطبه؟ لا شك أنه سيتأثر في خطابه سلبا بما يجره الأب إليه من فضائح، وهذا شيء ما كان ليكون ليكون لو أن هذا الأب طائع لله عز وجل، مع أن هذا الأب (بما يقترفه)ما فارق الإسلام قط، وما هي إلا المعصية.ومع أن هذا الشاب ليس رسولا بل ولا نبيا بل مجرد شاب طائع الله اعلم بحاله.
هكذا تلطف إبراهيم بأبيه في أصعب موقف فناداه ب{يا أبت} تلطفا وتحببا وشفقة عليه وحرصا بالغا على إيمانه وخوفا عليه بكفره من نار جهنم، وهكذا ينادي بها أيضا إسماعيل عليه السلام في مخاطبة أبيه الذي ينبئه بأمر الذبح قائلا: {يا أبت افعل ما تؤمر} ولئن كانت الثانية شاقة فما هي بأشق من الأولى:
(°) لأن الثانية إنما قيلت في مخاطبة أب سينال الابنَ منه أذى في جسده؛ وهو الذبح، في حين قالها إبراهيم في مقام قد نال الابنَ منه أذى من الأب في قلبه ودينه وعقيدته، ولا شك أن أذى القلب أشد من أذى الجسد. فلئن كان إسماعيل سيذبح جسده بسكين أبيه فلقد ذُبِحَ قلبُ إبراهيم بسكين كفر أبيه
(°) وأيضا: فإن تأذي جسد إسماعيل بالذبح أمر محتمل؛ لأنه لم يحدث بعد، بينما تأذي قلب إبراهيم (أعبد أهل الأرض آنذاك) بكفر أبيه كائن ومتحقق .
(°) وكذلك: فإن إسماعيل كان يعلم يقينا أن ذبح أبيه له ما كان بإرادته، بل كان امتثالا لأمر الله الذي لا يملك الأب له عصيانا وهذا مما يُهَوِّنُ عليه احترام أبيه، بخلاف إبراهيم عليه السلام فإن أباه قد ذبح قلب ابنه بسكين كفره اختيارا منه للكفر وإرادة له وهذا مما يجعل مخاطبته ب {يا أبت} أشق على ابنه .
فهذه الأمور كلها مما جعل {يا أبت} على لسان إسماعيل في مخاطبة أبيه أهون من{يا أبت} على لسان إبراهيم في مخاطبة أبيه. ولا يتوقف عجبك عند تلطف إبراهيم بأبيه الكافر ابتداء، بل سيزداد عجبك حين تنظر فتجد استمرار إبراهيم في هذا التلطف، مع استثارة أبيه له بجفاء خطابه وغلظته ..فلقد أجابه أبوه بقوله: {أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم} فاستنكر عليه رغبته عن الأصنام ثم لم يخاطبه ب(يا بني) في مقابل خطاب ابنه له ب{ يا أبت} ثم لم يكتف بذلك حتى هدده قائلا :{لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا}، فلم يكن ذلك كله من الأب مسوغا للابن لمتاركة بره بأبيه ،بل استمر على بره بأبيه قائلا {سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا ° وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا}. فمن بر إبراهيم بأبيه الكافر كان بر إسماعيل بأبيه إبراهيم ،وكأن{يا أبت} التى قالها إسماعيل لإبراهيم منسولة ومتولدة من{يا أبت} التى قالها إبراهيم لأبيه .
فيا أيها الأبناء:
لن يتوقف بكم الزمن عند لحظتكم هذه، بل سيدور بكم: فيكبر الصغير، ويضعف القوي، ويفتقر الغني، وسيكون الابن أبا، والأب جَدًّا وسترى – حينئذ -فيما يفعله معك ابنك ما فعلته من قبل مع أبيك ، وما تزرعونه اليوم مع آبائكم ستحصدونه غدا والجزاء من جنس العمل: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره فبروا بآبائكم تبركم أبناؤكم.
(٢) السبب الثاني: الدعاء
وهو من أكبر أسباب استصلاح الأبناء قال تعالى:{ قل ما يعبؤ بكم ربي لولا دعاؤكم} وقد دعا إبراهيم ربه قائلا: {رب هب لي من الصالحين} ولم يكن دعاء مجردا من أسباب الاستجابة بل كان دعاء يرفده عمل ويحدوه أمل .أما العمل فقد دعا إبراهيم ربه في وقت ترك فيه قومه وبلده مهاحرا إلى ربه، كما قال {وقال إني ذاهب إلى ربي} وهجرة المرء قومه لربه من أفضل ما يتقرب به العبد ، فهذا هو العمل؛ الهجرة إلى الله فرارا بدينه مفارقا وطنه وأهله،وما أشقها على النفس، وأما الأمل فقول إبراهيم عليه السلام {..سيهدين}، يقينا منه في الله بالإجابة.
هكذا دعا إبراهيم ربه قائلا { رب هب لي من الصالحين} دعاء يرفده عمل ويحدوه أمل، فاستجاب الله له {فبشرناه بغلام حليم}، فكان من بركة هذا الدعاء أن ظهرت آثار حلمه في هذا الامتثال الكامل: {يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين}.
(٣) السبب الثالث: الوراثة
فالولد سر أبيه، حيث تتحدر مع نطفة الأب إلى رحم الأم كثير من الصفات التي يحملها الابن عنه ولهذا قال الشاعر:
بأبه اقتدى عدي في الكرم
ومن يشابه أبه فما ظلم
وقد كان هذا الموقف ثمرة خلق تخلق به الابن من بعد أن تخلق به الأب؛ فلئن كان امتثال إسماعيل لأمر ربه- موافقة لأبيه- ثمرة لحلمه الذي وصفه به ربه {فبشرناه بغلام حليم} فقد كانت هذه الصفة نفسها مما وصف بها إبراهيم عليه السلام في القرآن في آيتين كريمتين قال تعالى {إن إبراهيم لأواه حليم} وقال تعالى{إن إبراهيم لحليم أواه منيب } فكان الحلم الذي اتصف به الابن إنما كان منسولا مما اتصف به الأب .
فيا أيها الآباء:
إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم ، والخلق بالتخلق، فتخلقوا بما تحبون أن يتخلق به أولادكم، فالولد معقودة عيناه بأبويه، وإنما أنتم المدرسة الأولى التى يتعلم منها الابن في أولى مراحل حياته التى هي الأكثر تأثيرا في توجيهه ورسم مسلك حياته كلها، فلا تكونوا لسانا يرشد الابن بالكلمات بل كونوا بأفعالكم وسلوككم خير موجه وأفضل مرشد.