محادثة.. قصة قصيرة
بقلم: د. سامي الكيلاني
جلست أمام جهاز الحاسوب بعد أن أعادت ترتيب منديلها الجديد، وجدّدت زينتها. عدّلت جلستها مراراً أمام كاميرا الحاسوب، وتأملت صورتها، كانت الصورة جميلة جداً، داخَلَها بعض الغرور، وفكّرت أن تلتقط لنفسها صورة تغيّر بها “بروفايلها” على صفحتها “الفيس بوك”، لكنها أجّلت الفكرة، تفصلها دقيقتان فقط عن موعد المحادثة معه. شكرت التي قرّبت المسافات. ستتحدث معه ككل مرة منذ أن تمت خطوبتهما، ولكنها ستكون المحادثة الأولى بعد أن أقنعها بأن تتحجّب، ستريه نفسها بالحجاب الجديد الذي أجهدت نفسها في اختياره لوناً و”موديلاً”. منذ أن تمت الخطوبة، التي كانت أخته فيها جسراً بينهما بين الوطن وأمريكا، بدأت تعتبره فتى الأحلام الذي انتظرته. رسمت صوراً كثيرة عن الحياة هناك، التي ستصبح حياتهما. قال لها أنه يتمنى عليها أن تتحجّب، ترددت، لكنها لبّت طلبه بسرور واعتبرت ذلك فاتحة توافق في الحياة القادمة في هذا البلد الجميل الذي أسهب في وصفه وأسهبت أخته كذلك في وصفه. تذكرت الفترة القصيرة التي عاشاها خلال زيارته للبلاد، فعلى الرغم من قصر تلك الفترة، تمت فيها الخطوبة واستطاعا التعارف والخروج معاً عدة مرات لتناول وجبة طعام في مطعم أو زيارته لعائلتها بدعوة على غداء قالت له إنها ساعدت أمها في إعداده وستتقن الطبخ أكثر، وزيارة عائلته على دعوة مماثلة. وتذكرت بغبطة وعوده التي قطعها في لقاء الوداع قبل سفره.
جاءت الإشارة لبدء المحادثة، عدّلت جلستها وأعادت تفقد المنديل مجدداً أمام الكاميرا قبل أن تضغط على الجهة اليسرى لفارة الحاسوب موافقة على طلب المحادثة. تبادلا التحية، كتب لها “مساء الخير حسب توقيت الوطن”، ووضح لها أن الوقت ما زال صباحاً عنده، فكتبت “صباح الخير والفل والياسمين” رادة على التحية بأحسن منها. فتحت الكاميرا وابتسمت له “كيف تراني؟”، أجاب أنه في غاية السعادة. طلبت منه أن يفتح الكاميرا من طرفه، اعتذر بأن الصوت سيتأثر إن فتح الكاميرا فهو موجود في مكان عام، إذ اضطر للقدوم إلى هذا المجمع التجاري لأمر ضروري، ولذلك فالشبكة ضعيفة. قبلت عذره، ولكنها عادت تطلب منه أن يحاول. استمرا في الحديث، هي تتحدث عن الاشتياق وعن انتظار اللقاء والانضمام إليه في هذا البلد، وهو يتحدث عن العمل والكد من أجل أن يوفر ما يلزم لحياتهما القادمة التي ينتظرها على أحر من الجمر، وأكد بإنه مستمر في متابعة إجراءات حصولها على “الفيزا”، وأكد لها أنه سيرسل قريباً توكيلاً لوالده ليقوم مقامه في عقد القران رسمياً. عبّرت عن شعورها بأنها تقدر قيامه بمتابعة كل ذلك إضافة إلى عمله، وأضافت كلمات رقيقة تؤكد فيها بأنها تتمنى لو كان بيدها أن تعمل شيئاً لتخفف عنه بعضاً من هذه الأعباء، وأنها ستعوضه عن ذلك عندما تكون إلى جانبه، وأتبعت كلماتها بأيقونات متتالية من القلوب الحمراء. رد عليها بأيقونات قلوب بعدد أكبر، وعبارة “من أجلك يهون التعب”. سألته عن برنامجه اليومي لتفتح معه حوارا عن يومه لتعرف المزيد عن حياته، أين سيذهب في هذا اليوم؟ ماذا كان فطوره؟ لكنه كان يجيب باقتضاب وكأنه dستعجل إنهاء المحادثة. قررت أن تختصر في الحديث “يبدون أنك مشغول الآن، متى يمكن أن نتحدث، يمكن أن أسهر حتى وقت متأخر….”.
فجأة سمعت ضحكة نسائية مكبوتة، وانفتحت الشاشة على صورة، ظهرت مجموعة من الرجال والنساء حول طاولة، ثم انغلقت نافذة الصورة سريعاً وانقطع الصوت. كتب لها رسالة نصية يقول فيها: آسف للخلل، سأعاود الاتصال بعد نصف ساعة. علقت في ذهنها صورة امرأة شقراء ظهرت في لحظة فتح الشاشة، وصوت نسائي في ضحكة مكبوتة سمعتها، وتخيلت صورته التي لم ترها وهو يسارع في قطع المحادثة.
قامت إلى المرآة الكبيرة في الغرفة، وقفت أمامها، تأملت وجهها وزينتها، وتأملت صورتها من رأسها حتى قدمها، أغمضت عينيها محاولة أن تستعيد تلك اللحظة التي انفتحت فيها الشاشة على الصورة. حلّت منديلها وتأملت شعرها الذي كان مجمعاً تحته، نثرته بحركة قوية احتوت كل الغيظ الذي يعتمل في صدرها.
عادت إلى جهاز الحاسوب وأعادت النظر إلى جملته الأخيرة التي ما زالت ظاهرة في نافذة الحوار، ضحكت بقهر، كتبت “آسف للخلل؟! أسفك مقبول جداً، ولكن لا تعاود الاتصال لا بعد نصف ساعة، ولا بعد نصف سنة ” وضغطت علامة إرسال الرسالة وأغلقت الحاسوب.
جلست قرب النافذة تحدّق في الأفق البعيد، ساعدتها السماء الصافية على التفكير وتقليب الأمر على كل وجوهه. فكّرت بحظها العاثر، وفكّرت بالأحلام التي حلمتها، وبالصور التي رسمتها من خلال أحاديثه عن تلك المدينة، وعن الشقة الصغيرة التي قالت له بأنها ستقبلها لبداية حياتهما وستجمّلها بديكور بسيط. اسودت الدنيا أمام عينيها، أيقنت أن المكتوب يقرأ من عنوانه، ولا حاجة للحوار. ظلت تسبح في بحر من الأفكار حول حظها العاثر، ولكنها رست أخيراً على فكرة واحدة اعتبرتها حبل نجاة ألقي نحوها وسط بحر الظلام والإحباط الذي كانت على وشك الغرق فيه. أقنعت نفسها بأن حظها جيد إذ لم يتم عقد القران رسمياً، فالانفصال لا يحتاج محاكم، وفسخ الخطوبة أهون من أن تحمل صفة مطلقة في هذا العمر.